مَنْ الذي يُعيِّن الخادم؟ ومَنْ الذي يُرسله؟ ومَنْ الذي يهيئه ليُرسله؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة معروفة لدينا. ولكن مَنْ منا يدرك مدى صعوبة هذا العمل الذي لا يستطيع أحد أن يعمله سوى الله، فالله لا يترك نفسه بلا شاهد، وهو يرى احتياج شعبه، فيُعيِّن مَنْ يريد ويُرسله لهم. وفي أحيان أخرى يريد أن يبعث برسالة خاصة لشعبه، فيختار شخصًا معيَّنًا ويهيئه ليذهب بها. هذا ما نراه هنا في هذا الفصل. فدعوة أليشع واحدة من أخصب الأماكن لنتأمل في إله كل نعمة وهو يُعيِّن ويرسل مَنْ يريد لخدمته. لقد ظهر ضعف إيليا وخواره واضحًا، وإذ بالله يقبل استقالته، إن جاز التعبير، ويعيِّن خلفه أليشع. وفي أليشع نرى شخصًا مختلفًا تمامًا عن إيليا. فمع إيليا مثلاً، لا نعلم كيف أعدَّه الله للخدمة، ومتى دعاه، بل وكيف أرسله، وما المدة التي أخذها الله ليجهزه، وغير ذلك من أسئلة كثيرة. فإيليا ظهر في المشهد فجأة بالنسبة لبني إسرائيل، ولكن لم يكن ظهوره مفاجأة لإلهنا، لأن الله هو صاحب القرار، وهو الذي اختاره وعيَّنه للخدمة.
إيليا شخصية صلبة، من الصعب تغيير وجهه، في حين أن أليشع بسيط يتصل بالآخرين ويجاوب احتياجاتهم. إيليا خرج من جلعاد، فهو من ”مستوطني جلعاد“ وجلعاد تعني ”صلب“ وهو يُرينا رجل الناموس الذي أقامه الله للشهادة ضد شر شعبه. وعندما ابتدأ، بدأ بالصلاة، ولكنها لم تكن صلاة إيجابية، بل صلاة سلبية لا لطلب البركة، بل لاجتلاب القضاء على شعب الرب لكي يُدركوا مدى شرهم. وهو في هذا، صورة للمعمدان سفير الملك الذي سبق مجيء المسيح، الذي جاء ليُعدّ الطريق أمام الملك. ولكن أليشع خرج من ”آبل محولة“ والكلمة تعني ”مزح الرقص“، والرقص هو أحد الرموز للنعمة. فلقد قال الرب قوله الشهير ذات مرة: «وبمَنْ أُشبّه هذا الجيل؟ يُشبه أولادًا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون زمّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تلطموا، لأنه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان. جاء الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هوذا إنسان أكّول وشرّيب خمر، مُحب للعشارين والخطاة. والحكمة تبررت من بنيها» (مت11: 16- 19). لقد كان عمل المعمدان هو البكاء، لأنه كان ينادي بالتوبة والرجوع لله، وهكذا عمل إيليا. فلقد أتى ليشهد ضد فشل الشعب، داعيًا إياهم للتوبة والرجوع للرب، لكن من الجانب الآخر، كانت خدمة أليشع كخدمة الرب يسوع، خدمة النعمة.
أمر آخر: ارتبطت خدمة إيليا بالنار، بينما ارتبطت خدمة أليشع بالماء. إيليا استطاع أن يُحضر نار من السماء، أكثر من مرة. فهو على جبل الكرمل أحضر النار التي أكلت الذبيحة، وهتف الشعب: ”الرب هو الله“، وهو الذي أحضر النار على رؤساء الخمسين الذين أرسلهم أخزيا الملك. بينما أغلب معجزات أليشع كانت مع الماء. وأول معجزة عملها، كانت أيضًا مع الماء، تمامًا كرب المجد الذي في قانا الجليل حوَّل الماء لخمر. فعندما صعد إيليا إلى السماء، وقف أليشع أمام نهر الأردن، لكنه أخذ رداء إيليا وضرب الماء فانفلق الماء وعبر، وهذه أول معجزاته بالارتباط بالماء. لكننا لا ننسى معجزاته الأخرى الشهيرة مع الماء. ففي 2ملوك2 قام بإبراء مياه أريحا. ثم في 2ملوك3 قدم الماء بوفرة للجيوش المتحاربة، ثم عندما وقع الحديد في الماء، جعله يطفو بالعود الذي ألقاه (2مل6).
أمر آخر ارتبط بظهور إيليا. قد ارتبطت مشاهد حياة إيليا بالجبال، بينما ارتبطت مشاهد حياة أليشع بالأودية. رأينا إيليا على جبل الكرمل، رأيناه على الجبل عندما أرسل له الملك رؤساء الخمسين. ويا للعجب حتى في يوم ضعفه، ذهب إلى جبل الله حوريب! بينما نحن نتذكر قول أليشع الشهير: «... اجعلوا هذا الوادي جبابًا جبابًا، لأنه هكذا قال الرب: لا ترون ريحًا ولا ترون مطرًا، وهذا الوادي يمتلئ ماء، وتشربون أنتم وماشيتكم وبهائمكم» (2مل3: 16، 17). فإيليا يحدثنا عن مطاليب الناموس الثابتة بارتباطه بالجبال، بينما أليشع يحدّثنا عن النعمة التي من الممكن أن تصل إلى كل الأماكن حتى المنخفضة، أو يصل إليها كل مَنْ يريدها.
كانت أوامر الرب لإيليا أن يذهب راجعًا ويدخل دمشق ويمسح حزائيل ملكًا على آرام، ثم يمسح ياهو بن نمشي ملكًا على إسرائيل، وأخيرًا يمسح أليشع بن شافاط من آبل محولة نبيًا عوضًا عنه. ولكن إيليا بدأ بمسح أليشع، مع أن الرب قد وضع أليشع في النهاية. الغريب ليس أن الرب أمر إيليا بمسح أليشع بعد حزائيل وياهو، ولكن عبارة الرب التي ذكرها عن أليشع «فالذي ينجو من سيف حزائيل يقتله ياهو، والذي ينجو من سيف ياهو يقتله أليشع». لست أعلم أي قتل ذلك الذي يقتله أليشع، لكني أظن أن هذه الرسالة هي التي تُرضي إيليا. فإيليا نظر إلى الأمة كمَنْ قتلت الأنبياء وهي ليست بحاجة إلا إلى مَنْ يقتل ويهلك، ولكن الرب كان يعدّ أليشع لخدمة أخرى ليست هي القتل، بل للإحياء. فحتى في موته استطاع أن يمنح الحياة لميت «وبينما كانوا يدفنون رجلاً، وإذ بهم قد رأوا الغُزاة، فطرحوا الرجل في قبر أليشع، فلما نزل الرجل ومسَّ عظام أليشع، عاش وقام على رجليه» (2مل13: 21). لكن على أي حال، لم يبدأ إيليا بالترتيب، فتوجه أولاً لأليشع «فذهب من هناك ووجد أليشع بن شافاط يحرث واثني عشر فدان بقر قدامه، وهو مع الثاني عشر. فمرّ إيليا به وطرح رداءه عليه» هنا وجد إيليا أليشع في صورة رائعة تؤهله تمامًا لقيادة إسرائيل. فقد رأى أليشع يحرث الأرض، اهتمامه موجه للأرض. والعجيب أننا نرى نابوت اليزرعيلي في أصحاح قادم، ينظر إلى الأرض والكرم نظرة عظيمة «فقال نابوت حاشا لي من قِبَل الرب أن أُعطيك ميراث آبائي» (1مل21: 3). ولكن هنا نرى أليشع وقد سبق نابوت في الاهتمام بالأرض وفي تعبه وكده، لتأتي هذه الأرض بالثمار. عندما رأى إيليا أليشع، لم يره مُستكينًا أو مستريحًا، بل رآه يعمل. وبلا شك، كان هذا ترتيبًا إلهيًا رائعًا ليفهم إيليا أن الله يستطيع أن يختار، بل وكيف يختار؟
الأمر الثاني، كان أليشع يحرث واثنا عشر فدان بقر قدامه، وهو مع الثاني عشر، واستخدم هذا العدد الكبير المكوَّن من حوالي اثنا عشر زوج بقر في حراثة الأرض، وهذا يعكس أن مساحة الأرض كانت كبيرة جدًا، كما أن هذا القطيع الكبير، كان أمام عيني أليشع وهو في المؤخرة مع الثاني عشر.
يا للروعة! فهذه هي صفات مَنْ اختاره الله للخدمة، عيناه على الحقل ويعمل دون توقف ومكانه هو المكان الأخير، لأنه مع الثاني عشر. والكل يعمل تحت رعايته في انسجام تام. بلا شك أن هذا المنظر ملأ قلب إيليا، وشعر بروعة الشخص الذي سيتبعه ويكمل الخدمة التي بدأها هو «فمرّ إيليا به وطرح رداءه عليه». مرّ إيليا عليه مجرد مرور عابر لا يُفهم منه شيء، لكن إيليا فعل أمرًا آخر، له مغزاه وأهميته، وهو أنه طرح رداءه على أليشع، وهذا يعبِّر عن أهليته للتلمذة واتّباع إيليا «ترك أليشع البقر وركض وراء إيليا». فهم أليشع ما يعنيه طرح الرداء، ففي الحال ترك البقر وتحوَّل عن الغرض الذي كانت عينيه عليه في البداية، وتوجّه إلى غرض آخر، وركض وراء إيليا، وفي هذا نرى استجابة أليشع بصورة فورية للدعوة التي دُعيَ إليها. ولكن بعد ذلك نقرأ عنه: «وقال دعني أقبّل أبي وأمي، وأسير وراءك». هنا نرى واحدة من المعوقات التي جاءت في طريق أليشع، ألا وهي تأثره بالروابط الطبيعية، فهو يريد أن يسير وراء إيليا، ولكنه يريد أن يقبِّل أباه وأمه أولاً، ولكن ردّ إيليا عليه جعله يتخذ موقفًا صحيحًا، ويعطي للخدمة الموكَّل عليها كل الاهتمام، حيث قال له: «اذهب راجعًا لأني ماذا فعلت لك» وهذا القول هو نفس القول الذي استخدمه الرب مع إيليا وهو يرد نفسه قبل ذلك بقليل «فقال له الرب ـ لإيليا ـ اذهب راجعًا في طريقك إلى برية دمشق ...» (1مل19: 15). وها هنا إيليا يقول العبارة ذاتها لأليشع: «اذهب راجعًا». وبلا شك، أن هذه العبارة قد عملت في نفس أليشع، كما تفاعلت مع قلب إيليا قبل ذلك. هذا الرّد من إيليا كان كفيلاً أن يفتح عيني أليشع على خطورة موقفه، ويجعله يضحي بالكثير من أجل الخدمة، وهذا ما ظهر في تصرف أليشع الثاني «فرجع من ورائه وأخذ فدان بقر وذبحهما وسلق اللحم بأدوات البقر، وأعطى الشعب فأكلوا». لقد فهم أليشع أن أهم شيء يقوم به الخادم، هو أن يُطعم شعب الرب، وفي الوقت نفسه لكي يلبي الدعوة الإلهية، عليه أن يتخلى عن عمله السابق. في البداية، رأينا أليشع يهتم بالأرض، فقد كان يحرثها. وعندما دعاه إيليا، رأيناه يهتم بالشعب، فقد قام بإطعامه، فليس أمام عينيه إلا أرض عمانوئيل وشعب عمانوئيل. والشيء الثالث الذي أصبح يهتم به، هو نبي عمانوئيل، ألا وهو إيليا. فقد مضى وراءه وكان يخدمه. ولعلنا نلاحظ أنه كان يتبع إيليا، وهذا هو أهم مبدأ في الخدمة. فمَنْ أراد أن يخدم الرب، لا ينظر للآخرين، أو يقارن نفسه بالآخرين. فلكل خادم ملف مختلف عن الآخر، بل عليه أن يسمع صوت الرب الذي قاله الرب لبطرس في يومه «اتبعني أنت».
ويا للعجب .. بعد أن كان أليشع يقوم بعمل جبار، ومجهود عظيم من خلال حرث الأرض وزراعتها ومعه اثنا عشر فدان بقر، نراه الآن يتبع إيليا ويصب ماء على يديه. ترك العمل العظيم ليقوم بخدمة بسيطة، ولكن يكفي أنها خدمة موجهّة لإيليا. قد يأمر الرب شخصًا ما، بأن يترك عملاً مرموقًا في العالم ومركزًا عظيمًا أيضًا، ليقوم بخدمة بسيطة له، لكن عليه أن يدرك أن خدمة الرب هي أعظم امتياز وأروع شرف. يكفي أليشع فخرًا أن يُطلق عليه خادم إيليا، ويكفينا نحن فخرًا أن يُطلق علينا خدام المسيح. لكن هنا أريد أوجّه نظر القارئ إلى خادم أعظم من أليشع بمقدار ألفي ذراع، بل وأعظم من إيليا أيضًا. فأليشع في يوم اتضاعه كان يصب ماء على يدي إيليا، ولكن سيدنا في يوم اتضاعه، صب ماء في مِغسَل وابتدأ يغسل، لا أيدي التلاميذ كأليشع، الذي كان يغسل يدي سيده، بل غسل أرجل تلاميذه. فهل لذاك من نظير!! دعونا نتعلم من رب أليشع الخادم الحقيقي، ونكون أكثر شَبَهًا به، له كل المجد.