«وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ الَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي الْعِيدِ. فَتَقَدَّمَ هَؤُلاَءِ إِلَى فِيلُبُّسَ الَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا الْجَلِيلِ وَسَأَلُوهُ: «يَا سَيِّدُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ» فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يو12: 20-24).
الأصحاح الثاني عشر من إنجيل يوحنا يتضمن العديد من الإشارات، والتي ينفرد بها إنجيل يوحنا، عن موت المسيح
ففي (ع7): نقرأ عن تكفين جسد السميح.
ثم في (ع24) نقرأ عن حبة الحنطة، التي لا بد أن تقع في الأرض وتموت لكي ما تأتي بثمر كثير.
ثم في (ع27) نقرأ أن نفس المسيح اضطربت، وتحدث مرتين عن ”هذه الساعة“، ويقصد بها ساعة الصليب.
ثم في ع31-33 نجد إشارات ثلاثية إلى موت المسيح، حيث تحدث المسيح عن دينونة هذا العالم، وعن طرح رئيس هذا العالم خارجًا، ثم عن ارتفاع المسيح عن الأرض، وجذب الجميع إليه.
فإذا أضفنا إلى هذه الإشارات، الإشارة التي وردت في ختام الأصحاح 11 عن نبوة قيافا التي سبق أن تأملناها، نحصل على سبع إشارات إلى موت المسيح، كلها قيلت في أورشليم، وفي أسبوع الآلام، أو ما سبقه مباشرة، ووردت في فصلين متتاليين من كلمة الله، وهذا يعتبر أكبر تجمع للإشارات عن موت المسيح في كل الوحي المقدس.
خلفية حديث حبة الحنطة كانت مناسبة حديث حبة الحنطة هو عيد الفصح، العيد الذي كان سيصلب المسيح فيه بناء على مشورة الله المحتومة. وفي هذا العيد الأخير من حياة ربنا يسوع المسيح على الأرض، صعد أناس يونانيون إلى أورشليم ليسجدوا. فطلب هؤلاء من فيلبس أن يرتب لهم لقاءً خاصًا مع المسيح. ولقد أخبر فيلبس أندراوس بذلك، من ثم تقدما معًا ليخبرا الرب برغبة اليونانيين هذه، فجاءت كلمات الرب يسوع التي هي موضوع دراستنا في هذا العدد.
لم يكن هؤلاء اليونانيون من يهود الشتات (الهلسينيين)، بل كانوا يونانيين أصلاً، ثم تهودوا. ولقد رأى المسيح فيهم تباشير مبهجة لثمر كثير سيأتي بعد ذلك من شعوب العالم بأسره. فإن كان شعبه قد رفضه، فها الأمم يأتون إليه، مقدرين شخصه.
كان هذا - كما ذكرنا - قبيل الصليب مباشرة. وفي بداية خدمة المسيح له المجد، وفي الأصحاحات الأولى من إنجيل متى، عندما عمل أولى معجزاته، إذ طهر الأبرص، وأرسله إلى الكهنة ليكون ”شهادة لهم“ على وصول شافي إسرائيل إلى الأرض، فإن الرب شفى بعدها غلام قائد المئة الأممي، وقال في تلك المناسبة: «إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية» (مت8: 11). وها الرب – قرب نهاية خدمته - يرى بداية تحقيق ذلك. فشعبه الخاص مزمع بعد أيام أن يصلبه، ولكن ها الأمم يطلبون أن يروا يسوع.
والكتاب المقدس لم يخبرنا إن كان الرب سمح لهؤلاء اليونانيين باللقاء معه أم لا. فإذا لم يكن هذا قد حصل، فإنما لكي يؤكد المسيح أن الخلاص لن يُقدَّم للأمم على أساس حياته الكاملة، بل على أساس موته الكفاري. وأن على أمثال هؤلاء الأمم أن يتعلموا النظر، لا إلى مسيا إسرائيل، بل إلى حمل الله.
أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ
بعد شفاء المسيح لغلام قائد المئة الذي أشرنا إليه الآن، ذلك القائد الذي أظهر إيمانًا متميِّزًا، فإن المسيح تحدث بعدها مباشرة، ولأول مرة في البشائر الأربع عن ”ابن الإنسان“، اللقب الذي يربطه بكل الشعوب والقبائل والأمم والألسنة. وهنا أيضًا، قرب نهاية خدمته، عندما أظهر هؤلاء اليونانيون اهتمامًا وتقديرًا لشخصه، فقد أشار إلى نفسه أيضًا باعتباره ”ابن الإنسان“.
والساعة التي تحدث الرب عنها هنا هي ساعة بركة الأمم جميعًا عن طريق نسل إبراهيم. فلقد وعد الرب إبراهيم، بعد أن قدم ابنه فوق المذبح، وأخذه من بين الأموات في مثال، أن يبارك جميع أمم الأرض في نسل إبراهيم (تك22: 18 مع غلاطية 3: 16). وهكذا هنا أيضًا نرى أن هذه البركة ليست بالانفصال عن موته، كما توضح الآيات التالية.
ولقد رأى المسيح في هؤلاء الأمم باكورة شهية لثمر وفير سيتبع عن قريب، فقال: «قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان». فوإن كان الصليب أمامه، إلا أنه كان يعرف ما سينتج من وراء الصليب، فلقد قال له الله بالنبوة: «قليل أن تكون لي عبدًا لإقامة أسباط يعقوب، ورد محفوظي إسرايل. فقد جعلتك نورًا للأمم، لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إش49: 6).
والذي كان سيتمجد هو ابن الإنسان. فابن الله ممجد دائمًا، ولكن لا يمكن أن يتمجد ابن الإنسان كما هو مصوَّر في النبوات إلا من خلال الصليب. ولذلك يتكلم المسيح هنا عن موت الصليب باعتباره تمجيد لابن الإنسان، عندما يكون هو مركز كل شيء في العالم الجديد، ويجمع الله ”كل شيء في المسيح“ (أف1: 10).
وقَوعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وََموتها كعادة المسيح المعلم الأعظم، يشرح الحقائق الروحية السامية بأمثلة معاشة من الطبيعة، سهلة الفهم، تعطي للمعنى قوته. فالطبيعة خير معلِّم، لأنها من نتاج الخالق الحكيم. قال الرسول: «الذي تزرعه لا يُحيا إن لم يمت» (1كو15: 36). والبذرة في الأرض تموت وتتحلل، ولكن هذا هو الأسلوب لكي ما تأتي بثمر كثير. هكذا بالنسبة للمسيح، كان موته الوشيك هو العربون للحصاد العظيم الذي سيليه، وما يتضمنه ذلك الحصاد من أفراح. ورفض فكرة موت المسيح - كما فعل التلاميذ - هو أمر لا يختلف عن رفض الفلاح أن يدفن حبة الحنطة، على اعتبار أنها مفيدة، ولا ينبغي أن نلقيها في الأرض لتموت. إن الفلاح بالفطرة لا يفعل ذلك، وعلى التلاميذ أيضًا أن يدركوا البركات العظيمة التي ستلي موت المسيح، والنتيجة الرائعة لذلك الموت في الجماهير الغفيرة من الأمم التي ستأتي إليه وتخلص.
والرب هنا يركز على موته. فعن طريق الموت يأتي الثمر الكثير. فلو حُفظت حبة الحنطة في علبة من الذهب مرصعة بالماس ومغلفة بالحرير، لسنين كثيرة، ستبقى وحدها. حقًا إن المسيح ليس له نظير، وهو الوحيد الذي فيه الحياة، والوحيد الذي يستحق الحياة، وكان بمقدوره أن يتمتع بالحياة إلى ما لا نهاية، ولكن في هذه الحالة كان سيظل وحده. ولكن بموت حبة الحنطة يأتي الثمر الكثير، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يموت، وعن طريق موته يمكن للخلاص أن يحدث، وللحياة أن تنتج. لو قضى المسيح نظير عمره آلاف المرات يعظ ويعمل المعجزات وأعمال الرحمة، لبقي وحده، فمن المستحيل أن يُعلِّم المسيح أو يُجري المعجزات، فتكون نتيجة معجزاته أن تتكرر حياته على الأرض؛ بل إن أردنا ثمرًا من نفس نوع حبة الحنطة، فلا مفر من أن تموت تلك الحبة لتأتي بالثمر الكثير. وهكذا من خلال موت المسيح ظهر مجد النعمة. ومن يقدر أن يعرف مقدار الثمر الكثير الذي سيدخل عن قريب إلى المخزن؟ سيظهر الله في الدهور الآتية (الأبدية التي لا نهاية لها) غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع (أف2: 7).
وهذه حقيقة حتمية وهامة، حتى أن المسيح بدأ كلامه عنها بعبارته الشهيرة: ”الحق الحق أقول لكم“. وطبعًا هذا الكلام يصبح بلا معنى عند كل من ينكر موت المسيح الكفاري. إذا ظننا أن موته كان مجرد موت شهيد، لا يكون لكلام المسيح هنا معنى، لكننا نؤمن بالفكر الكتابي الصحيح عن موته لأجل حياة العالم.
إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِير
صحيح كانت أمام المسيح آلام شديدة، ولكن فكره ذهب إلى الحصاد الوفير، يوم يرجع بالترنم حاملاً حزمه (مز126: 6). إن القيامة وما بعدها هو ما ارتسم أمام عيني المسيح في ذلك الوقت.
لقد شاركنا المسيح في طبيعتنا البشرية بالتجسد، ولكننا نحن ما كان يمكننا أن نشاركه نوع حياته عن طريق التجسد، بل أمكن ذلك فقط عن طريق موته وقيامته. لقد كان التجسد هامًا، لأن بدونه كان يستحيل للمسيح أن يموت. لكن التجسد ليس هدفًا في ذاته. في الرسالة إلى العبرانيين يقول إنه أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه (عب9: 26)، ولكن النغمة في إنجيل يوحنا أسمى، ولا علاقة مباشرة لها بالخطية، بل إنه تجسد لكي بالموت يأتي بثمر كثير. فكطابع إنجيل يوحنا، يظهر الموت هنا ليس بسبب شر الإنسان، ولا نتيجة لهذا الشر، بل إتمامًا لمقاصد الله الصالحة.
لم يكن قصد الله أن يأتي بمجرد أناس أبرار إلى المجد، مع أنه ليس بار ولا واحد. لكن الآب كان يريد أبناء لهم صنف حياة المسيح، فكيف نحصل على صنف هذه الحياة ونوعها؟ ولقد أوضح المسيح بعد هذا أنه سيمضي إلى بيت الآب ليعد المكان لنا. وما كان ممكنًا لواحد من الخطاة أن يُقبل في بيت الآب، ولا حتى لواحد من الأبرار، بل يدخله من لهم الحياة عينها التي للمسيح، الذي هو مقبول ومرحب به تمامًا في ذلك البيت. وأول أصحاح في الكتاب المقدس يشرح لنا أن كل ما فيه حياة يأتي بثمر ”كجنسه“. ولهذا كان على حبة الحنطة، ربنا يسوع المسيح، أن يقع في الأرض وأن يموت لكي يأتي بثمر كجنسه. فلا عجب أن المسيح بعد قيامته من الأموات، ظهر لمريم المجدلية وعلى فمه تلك البشرى العجيبة: «اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم» (يو20: 17). هذا هو الثمر الكثير الذي نتج عن موت حبة الحنطة ربنا يسوع المسيح.
ولاحظ دقة الوحي، فهو لا يعلمنا أن الإنسان الثاني هو رأس الجنس الجديد، بل آدم الأخير. الإنسان الثاني يحدثنا عن الشخص القدوس الفريد الذي نزل من السماء، وأما آدم الأخير فيحدثنا عن المسيح المقام من الأموات. وهو ما يذكرنا بما ورد في إشعياء 53: 10 «إن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً». هذا هو الثمر الكثير الذي مآله بيت الآب حين يأتي المسيح ليختطف المؤمنين ليكونوا معه حيث يكون هو.
(يُتبع)