أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2014
أيام القضاة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

القاضي الثاني:

إِهُودَ بْنَ جِيرَا الْبِنْيَامِينِيَّ

«وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ, فَأَقَامَ لَهُمُ الرَّبُّ مُخَلِّصًا إِهُودَ بْنَ جِيرَا الْبِنْيَامِينِيَّ، رَجُلاً أَعْسَرَ. فَأَرْسَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِيَدِهِ هَدِيَّةً لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. فَعَمِلَ إِهُودُ لِنَفْسِهِ سَيْفًا ذَا حَدَّيْنِ طُولُهُ ذِرَاعٌ، وَتَقَلَّدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهِ عَلَى فَخْذِهِ الْيُمْنَى» (قض3: 15- 16)

من الخطر أحيانًا تطبيق معنى الأسماء روحيًا، حيث يختلف الشارحون والمترجمون في معنى الأسماء، أما معنى اسم “إِهُود” المُقتَرح فهو “المُعترِف”. والاعتراف في العهد الجديد يعنى “شخصًا ذا قناعة داخلية”، وليس مَنْ – ببساطة - يميل ذهنيًا لشيء ما بالقول: “أوافق”، دون إعطاء نفسه الفرصة الجادة للتفكر بالأمر. لقد كان إِهُود مُعترفًا، أي رجلاً ذا قناعة داخلية، ونحن لا يساورنا الشك مطلقًا في أن الرب عندما أقام هذا الرجل لم يقل له فقط “سأعطيك قوة فائقة لمواجهة العدو”، لكن عمل الله في قلبه وفى ضميره، وأوجد في ضميره قناعة داخلية بأن يقود شعب الله، فوجد إِهُودُ في ذلك سببًا جليلاً ومحقًا، لذلك لم يقُد الشعب لأجل المركز الذي منحه إياه الله فحسب، بل فعل ذلك لأنه يؤمن بصوابه.

هذا الأمر رائع حقًا حتى في العهد الجديد، لذلك كتب لوقا عن «الأُم الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا» (لو1: 1). هذا هو برهان القناعة الداخلية. فالأمر ليس أننا قرأنا الموضوع جيدًا وصرنا مُلمّين بكل خباياه، لكن هناك قناعة داخلية للقلب والضمير تُملي علينا صحة هذه الأمور، وأنها مستحقة الدفاع عنها، والتمسك بها، لأننا مقتنعين داخليًا أن هذه الأمور صحيحة. كما كتب بولس إلى تيموثاوس مذكرًا إياه بالأمور التي كان مقتنعًا بها تمامًا ؛ الأمور التي كان يعلم جيدًا بأنها حقيقية «وَأَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ» (2تى3: 14).

إنه لمركز سامٍ نشغله. لكن إذا شعرنا بأذهاننا بأن الأمور التي نحارب من أجلها لا تستحق، فهذه هي الكسرة بعينها، لأنه إن فقدنا القناعة بها صار من السهل علينا أن نفرط فيها. أما ذوو القناعات الداخلية بأمر ما فإنهم يتمسكون به، ويُحاربون من أجله، حتى يحققوه. وهذا ما نحن في أشد الاحتياج إلى تحقيقه عمليًا. فمثلاً: هل اجتماعنا معًا كمؤمنين كان بمحض الصدفة؟ هل هو نتيجة تبنى مُرشدينا هذا الوضع، وما نحن سوى أناس وجدنا في طريق اجتماعهم معًا فانضممنا إليهم؟ هل هذه هي نظرتنا إلى اجتماعنا معًا؟ إن كان هكذا، فلا بد أنه إن عاجلاً أو آجلاً سنتوقف عن الشركة معًا، لكن إذا كنا مُقتنعين داخليًا ومُوقنين من أن ما نفعله - مهما كان ضعيفًا أو هزيلاً - هو صحيح حسب كلمة الله، إذًا فسوف نتمسك به مهما كلفنا الأمر، كما ولن ندع أي شخص يسلبه منا أو يقنعنا بأن نتوقف عن فعله، لأننا مقتنعون داخليًا بصحته.

ويمكننا فحص مسألة الاعتراف هذه في ضوء 1تيموثاوس 6 حيث حرّض الرسول بولس تيموثاوس على الاعتراف الحسن الذي سبق وظهر بكماله في شخص الرب يسوع «الَّذِي شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ بِالاِعْتِرَافِ الْحَسَنِ» (عدد13). أي استعراض للكرامة ذاك الذي أظهره الرب يسوع في حضور أعدائه، رغم تواضعه وخضوعه كإنسان! وأي نعمة وسلوك موقر قد أظهر! هذا السلوك هو ما تمناه بولس لتيموثاوس ليتّبعه، وكأنه يقول له “إن اتبعت هذا المسلك تكون كسيدك”. وبكل يقين لا يوجد مَن يستطيع القول بأن الرب لم يكن مُقتنعًا بأن ما يفعله هو عين الصواب. لقد علم – تبارك اسمه - أنه يفعل مشيئة الله، ولا شيء يُمكن أن يُثنى عزمه. هكذا يقول الرسول بولس لتيموثاوس: “إن كان لك هذا النوع من القناعة، بل هذا النوع من الحياة، فاعترف الاعتراف الحسن”. هذه هي أول ميزة في إهُود أنه كان رجلاً صاحب قناعة داخلية.

ثانيًا أنه كان بنيامينيًا وهو ما يمثل ميزات عديدة: أولها أنه كان يُمثل خطًا نقيًا وطاهرًا من النسب إذ كان ابن يعقوب، وليس من نسل لوط أو موآب أو عمون، بل كان مرتبطًا بخط الإيمان وخط مقاصد الله. فكان بإمكانه تتبع سلسلة نسبه من بنيامين رأسًا كابن يعقوب وعضو في العائلة المحبوبة. وبلا شك كان هذا أمرًا رائعًا، وكان مصدر قوة عظيم بالنسبة له.

وهناك شيئان لا بد أن يُذكرا عن اسم بنيامين. عندما ولدته أمه وهى تحتضر دَعَت اسْمَهُ “بِنْ أُونِي” أي “ابن حزني”، لكن يعقوب غيّر اسمه ودَعَاهُ “بِنْيَامِين” أي “ابن يدي اليمين” (تك35: 18). وفي مزمور 68 يشير روح الرب إلى بِنْيَامِين ويصفه بالقول «بِنْيَامِينُ الصَّغِيرُ مُتَسَلِّطُهُمْ» (ع27)، هذا لأنه كان السبط الأصغر. إنه لمن الضروري وضع هذين الاسمين في الاعتبار “ابن يدي اليمنى” مكان القوة، و“بِنْيَامِينُ الصَّغِيرُ” مكان الضعف. كيف يمكن لهذه المتناقضات أن تجتمع معًا؛ مكان القوة ومكان الضعف؟ إنهما في غاية الأهمية بالنسبة لأي خادم للرب يريد أن يكون أمينًا في شهادته، فهو يحتاج إلى الشعور بضعفه الشخصي، وإلى الشعور بقوة الله التي تعمل في هذا الضعف.

ويمكننا استيضاح هذا من حياة شاول الملك الأول لإسرائيل عندما قال له صموئيل النبي «أَلَيْسَ إِذْ كُنْتَ صَغِيرًا فِي عَيْنَيْكَ، صِرْتَ رَأْسَ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَمَسَحَكَ الرَّبُّ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ» (1صم15: 17)، مُشيرًا إلى الوقت الذي كان فيه شاول على هذه الحالة المتضعة، فعمل أعمالاً بطولية للرب، إذ كان مقاتلاً باسلاً، لكنه تكبر بعد ذلك، وعصى الله فخسر قوته وشجاعته. فعندما كان متضعًا وصغيرًا في عيني نفسه اختبر قوة الله العاملة من خلاله.

وهناك أيضًا بنيامينيٌ آخر هو شاول العهد الجديد الذي فيه اجتمعت هاتان الصفتان فقال إنه «أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ» (أف3: 8). لقد كان دائمًا على استعداد لأن يأخذ المكان الأدنى، لذلك استطاع القول «لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كو12: 10). لقد عمل الروح أعمالاً مقتدرة من خلال هذا الرجل في اتضاعه، إذ كان له فكر التواضع، والاستعداد لأن يأخذ المكان الأخير. فكم كان متضعًا وكم كان يُشبه سيده بلا كبرياء ولا تصلف الفريسيين الذين أظهروا ذات صفات الموآبيين. لقد كان بالفعل “بِنْيَامِينُ الصَّغِيرُ” الذي أظهر الصفات التي تُسر الرب تمامًا لأنه «لاَ بِـالْقُدْرَةِ وَلاَ بِـالْقُوَّةِ بَلْ بِرُوحِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (زك 4: 6)، وهذا المبدأ نجده مُطبَّقًا في كل الكتاب المقدس، كما ظهر في إهُود في المركز الذي تميَّز به؛ فكان مكان الاتضاع الخفيض والشعور بالمسكنة وعدم القدرة هو السر الحقيقي في عمل روح الرب به لمجد الله. لذلك كان إهود بنيامينيًا حقيقيًا؛ رجلاً عرف ضعفه وعدم قدرته لذلك اختبر قوة الرب كما سنرى.

عمل إهُود لتحرير الأمة:

«فَأَرْسَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِيَدِهِ هَدِيَّةً لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. فَعَمِلَ إِهُودُ لِنَفْسِهِ سَيْفًا ذَا حَدَّيْنِ طُولُهُ ذِرَاعٌ, وَتَقَلَّدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهِ عَلَى فَخْذِهِ الْيُمْنَى. وَقَدَمَّ الْهَدِيَّةَ لِعِجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. (وَكَانَ عِجْلُونُ رَجُلاً سَمِينًا جِدًّا). وَكَانَ لَمَّا انْتَهَى مِنْ تَقْدِيمِ الْهَدِيَّةِ صَرَفَ الْقَوْمَ حَامِلِي الْهَدِيَّةِ, وَأَمَّا هُوَ فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ الْمَنْحُوتَاتِ الَّتِي لَدَى الْجِلْجَالِ وَقَالَ: لِي كَلاَمُ سِرٍّ إِلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. فَقَالَ: اسْكُتْ. وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَمِيعُ الْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ. فَدَخَلَ إِلَيْهِ إِهُودُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي غُرْفَةٍ صَيْفِيَّةٍ كَانَتْ لَهُ وَحْدَهُ. وَقَالَ إِهُودُ: عِنْدِي كَلاَمُ اللَّهِ إِلَيْكَ. فَقَامَ عَنِ الْكُرْسِيِّ. فَمَدَّ إِهُودُ يَدَهُ الْيُسْرَى وَأَخَذَ السَّيْفَ عَنْ فَخْذِهِ الْيُمْنَى وَضَرَبَهُ فِي بَطْنِهِ. فَدَخَلَ الْمِقْبَضُ أَيْضًا وَرَاءَ النَّصْلِ، وَطَبَقَ الشَّحْمُ وَرَاءَ النَّصْلِ لأَنَّهُ لَمْ يَجْذُبِ السَّيْفَ مِنْ بَطْنِهِ. وَخَرَجَ مِنَ الْحِتَارِ. فَخَرَجَ إِهُودُ مِنَ الرِّوَاقِ وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الْعِلِّيَّةِ وَرَاءَهُ وَأَقْفَلَهَا. وَلَمَّا خَرَجَ، جَاءَ عَبِيدُهُ وَنَظَرُوا وَإِذَا أَبْوَابُ الْعِلِّيَّةِ مُقْفَلَةٌ, فَقَالُوا: إِنَّهُ مُغَطٍّ رِجْلَيْهِ فِي الْغُرْفَةِ الصَّيْفِيَّةِ. فَلَبِثُوا حَتَّى خَجِلُوا وَإِذَا هُوَ لاَ يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْعِلِّيَّةِ. فَأَخَذُوا الْمِفْتَاحَ وَفَتَحُوا وَإِذَا سَيِّدُهُمْ سَاقِطٌ عَلَى الأَرْضِ مَيِّتًا. وَأَمَّا إِهُودُ فَنَجَا إِذْ هُمْ مَبْهُوتُونَ، وَعَبَرَ الْمَنْحُوتَاتِ وَنَجَا إِلَى سَعِيرَةَ. وَكَانَ عِنْدَ مَجِيئِهِ أَنَّهُ ضَرَبَ بِالْبُوقِ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَنَزَلَ مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْجَبَلِ وَهُوَ قُدَّامَهُمْ. وَقَالَ لَهُمُ: اتْبَعُونِي لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ الْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ. فَنَزَلُوا وَرَاءَهُ وَأَخَذُوا مَخَاوِضَ الأُرْدُنِّ إِلَى مُوآبَ، وَلَمْ يَدَعُوا أَحَداً يَعْبُرُ. فَضَرَبُوا مِنْ مُوآبَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلاَفِ رَجُلٍ، كُلَّ نَشِيطٍ وَكُلَّ ذِي بَأْسٍ، وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ. فَذَلَّ الْمُوآبِيُّونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ يَدِ إِسْرَائِيلَ. وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ ثَمَانِينَ سَنَةً» (قض3: 15- 30).

ربما نشعر عند قراءة هذه القصة بقسوة ووحشية وخداع فعلة إهُود. فهل هذا هو ما يوصي به الله، أن يصنع إنسانًا لنفسه سيفًا ذا حدين ويستخدمه ضد رجل أعزل؟ هل هذا ما يُحرّض الله عليه؟ علينا أولاً أن نتذكر أي نوع من البشر كان هذا الإنسان. لقد كان عدو الله على خط مستقيم، واستعبد شعب الله، وطالما كان الحكم في يده فلا عبادة ولا تجاوب للشعب مع الله، لذلك وجب التعامل معه وبطريقة قاطعة. لكن ربما يقول أحدنا: “إن هذه ليست روح المسيحية”. ولكن علينا توخي الحذر قبل أن نقول هذا القول لأن الرب قال بنفسه «هَكَذَا عِنْدَكَ أَنْتَ أَيْضًا قَوْمٌ مُتَمَسِّكُونَ بِتَعَالِيمِ النُّقُولاَوِيِّينَ الَّذِي أُبْغِضُهُ» (رؤ2: 15). أَو ليست هذه لغة المسيحية؟ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ، وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لو14: 26)، وأيضًا «بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ» (رو8: 13). إنهما نصان مشابهان لحادثتنا، وهو الأمر الذي لا بد أن ينطبق علينا شخصيًا. بالطبع ليس المقصود بذلك هو معاملة الناس بعنف أو قتلهم، لكن يجب أن يكون مبدأ الصرامة مع كل ما يُعادي الله عاملاً فينا اليوم. فلا مودة ولا تساهل تجاه موآب لأن الله قد أعلن أنه عدو، ويجب التصدي للعدو بلا هوادة ولا رأفة.

وهكذا الأمر معنا نحن المؤمنين، حيث حكم الرسول بولس أن كل من أزعج وقاوم أهل غلاطية «فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا» أي “ملعونًا” (غل1: 8- 9). وإن قلت أن هذه ليست روح المسيحية، بل هذا ما قاله بولس، فاعلم أنه قال ما قاله بوحي الروح القدس، وقد قرر بكل وضوح أن أي من قاوم الحق وضلَّل شعب الله يكون محرومًا «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُحِبُّ الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا. مَارَانْ أَثَا (أي ملعونًا عند مجيء الرب)» (1كو16: 22). وبالرغم من قسوة هذه اللغة وصرامتها، إلا أن نعمة ربنا يسوع المسيح ولطفه ورحمته تسير إلى جانبها، متجهة إلى كل محتاج.

لا بد أن يكون المؤمنون دائمًا مستعدين لمساعدة المحتاجين وإظهار تعاطفهم معهم، لكن لا بد أيضًا أن يكون عندهم التصميم على التصدي لما يخالف مطالب المسيح. وهذا ما يعلمنا إياه الرسول يوحنا في رسالته إلى الأخت المتقدمة في الأيام قائلاً «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ وَلاَ يَجِيءُ بِهَذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ» (2يو 7- 11). وهذه كلمات في غاية الحزم، وهى ليست كلماتنا نحن بل هي كلمات الوحي، وفى كل العهد الجديد نجد مطالبة الوحي بهذا التعليم، وهو الشدة وعدم مهادنة الشر الذي فينا أو في الناس وأينما وجد.

لقد قيل عن الرب يسوع «أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ» (عب1: 9). وإن كان من الصعب علينا جدًا أن نُبغض كمسيحيين، ولاسيما في المسائل الروحية الصحيحة، لكن الرب أبغض تمامًا مثلما أحب، وكما أحب تمامًا أبغض تمامًا. وهو أمر عسير علينا لنفعله لأن ما يهيّج كراهيتنا أو غضبنا عادة ما يكون أمر شخصي متعلق بذواتنا، أما الرب يسوع فقد أبغض الأمور التي تقاوم إلهه، وعلينا نحن أيضًا أن تكون فينا هذه الصفة. في سفر الأمثال هناك سبعة أمور يبغضها الرب: «هَذِهِ السِّتَّةُ يُبْغِضُهَا الرَّبُّ، وَسَبْعَةٌ هِيَ مَكْرُهَةُ نَفْسِهِ: عُيُونٌ مُتَعَالِيَةٌ، لِسَانٌ كَاذِبٌ، أَيْدٍ سَافِكَةٌ دَمًا بَرِيئًا، قَلْبٌ يُنْشِئُ أَفْكَارًا رَدِيئَةً، أَرْجُلٌ سَرِيعَةُ الْجَرَيَانِ إِلَى السُّوءِ، شَاهِدُ زُورٍ يَفُوهُ بِالأَكَاذِيبِ، وَزَارِعُ خُصُومَاتٍ بَيْنَ إِخْوَةٍ» (أم6: 16- 19)، والله يتوقع من شعبه أن يبغضوا هذه الأمور هم أيضًا، ويتأكدوا أولاً من أنها مُستأصَلة من حياتهم، ويتأكدوا ثانيًا من أنهم لا يسمحون بها في الآخرين.

لقد عمل إهُود لنفسه سيفًا ذا حدين، ولكي نفسر هذا علينا بالرجوع إلى العهد الجديد، وما قيل عن الرب يسوع بالارتباط بمكانه بين الكنائس، فهو الذي له «سَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْنِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ» (رؤ1: 16)، أعني تطبيق كلمة الله في الدينونة، وأيضًا في تشجيع شعبه. ثم يقول أيضًا في رؤيا 19: 15 «وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ مَاضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ»، أي يضرب به أعداء إسرائيل في نهاية فترة الضيق.

وبالرجوع إلى عبرانيين 4: 12 نقرأ أن «كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ», كما يحرضنا الرسول أيضاً في أفسس 6: 17 أن نأخذ «سَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ». وبالنسبة لإهُود كان ذلك يعنى أدبيًا استخدام هذا السلاح العنيف ليتغلب على أعداء إسرائيل. أما بالنسبة لنا فيعنى تطبيق كلمة الله على كل ما نعلم أنه يعادى الله. إخوتي الأحباء إنه أفضل سلاح لدينا. وإن كان يُمكننا استخدام كل الوسائل للتعامل مع مَن يُعادون الله، إلا أن أفضلها على الإطلاق هو انتقاء الجزء المناسب مِن كلمة الله للتعامل مع الموقف الذي نحن بصدده. هذه هي الوسيلة التي يستخدمها الله للنصرة على أعداء الحق.

لقد استخدم كل من مارتن لوثر وجون وسلى ووليم تندال وجون ويكلف وآخرين كثيرين كلمة الله بجدارة لتتعامل مع مشاكل أيامهم. وحسن قيل عن استخدام هذا السيف ذي الحدين أننا نبدأ باستخدام أحد هذين الحدين ضد أنفسنا لنستطيع أن نستخدم الآخر ضد الآخرين ومبادئهم. وهذه نصيحة غالية جدًا؛ لأننا إن استطعنا أن نغلب الشر الذي فينا يكون لنا كل الحق في محاولة التغلب عليه في الآخرين. لكن إن كنا لم نبدأ بعد في التعامل مع مشاكلنا الشخصية، فنحن لا نملك السلطة الأدبية في محاولة التعامل معها في الآخرين. إن تطبيق كلمة الله في حياتنا أمر له أهمية قصوى؛ ولقد استخدمه بولس كحجة ذات تأثير قوى في مناقشاته، وكذلك أبُلوس إذ كان مقتدرًا في الكتب «كَانَ بِاشْتِدَادٍ يُفْحِمُ الْيَهُودَ جَهْرًا، مُبَيِّنًا بِالْكُتُبِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ» (أع18: 24). وهو ذات ما فعله الرب في مواجهته للشيطان قائلاً: « مَكْتُوبٌ ... مَكْتُوبٌ أَيْضًا» (مت4: 4، 7، 10). وعلى مر العصور من خلال شهادة المسيحية نجد مرارًا وتكرارًا تأثير شهادة المؤمن في مواجهة أعداء الله بكلمة الله، والقدرة على استخدامها الصحيح؛ لذلك يذكرنا الرسول بولس في الرسالة الثانية إلى تيموثاوس، حيث ازدادت العداوة لله، بأن «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تى3: 16- 17).

هناك شيء آخر لإهُود له دلالة بالنسبة لنا في هذه الأيام. أولاً كان إهود معترفًا، ثانياً كان سليل سبط مشهور وقد أظهر السمات اللائقة به، ثالثًا كان له سيف وقد استخدمه بجدارة، ثم بعد أن تعامل مع هذا العدو ضرب بالبوق مُعطيًا صوتًا مُميَّزًا. هذا ما كتب عنه بولس قائلاً: «فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَى الْبُوقُ أَيْضًا صَوْتًا غَيْرَ وَاضِحٍ فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ؟» (1كو14: 8). لقد ضرب إهُود بالبوق، وجمع الشعب وسألهم أن يتبعوه، فتبعوه وحققوا نصرًا عظيمًا مبينًا. إننا بحاجة ماسة لمثل هذه الخدمة اليوم، خدمة تضرب صوتًا واضحًا وسط الظروف الحاضرة السائدة. لم يُضارب بولس الهواء، ولم يتكلم بأمور ملتبسة يفسرها الناس كما يروق لهم، فإذا ما حدث خطأ ما، تكلَّم بوضوح وبتميّز مُسميًا هذا الخطأ، ليتحذر منه الناس ويضبطوا أنفسهم في نور حضرة الله، فنجد الرسول بولس في الرسالة إلى كورنثوس يسمي الأخطاء، مرة ومرات بتعبيرات لا يُساء فهمها، بل تكلَّم صراحةً عن الأمور التي يعلم أنها خطأ، ولما طبق الناس ما قاله الرسول على أنفسهم، أصلحوا من طلاقهم في نور حضرة الله، فانتصروا وضمنوا البركات.

لقد ضرب إهُود بالبوق وجمع الشعب وقال: «اتْبَعُونِي» (عدد28). بأي حق يقول هذا؟ أدبيًا، كان له الحق لأنه أظهر شجاعة بدخوله إلى ذات محضر قائد الأعداء المُستعبِدين، وبقوته وشجاعته الشخصية قتل الملك. والآن ها هو يسأل الشعب أن يتبعه. وهل كان لبولس الحق في أن يقول: «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي»؟ بلا شك كان له الحق، لأنه استطرد قائلاً: «كَمَا أَنَا أَيْضًا (متمثلٌ) بِالْمَسِيحِ» (1كو11: 1). وبالقدر الذي ننجح به في التصدي للشر يُمكننا أن نجذب الآخرين ليتبعونا. كم نتوق لأن نتشبه بإهُود في هذا المضمار حتى نستطيع أن نشجع شعب الرب في طريق الانتصار، الذي كان إهُود باهر النجاح فيه «اتْبَعُونِي لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ الْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ» (عدد28).

ويُختتم هذا الإصحاح بإخبارنا أن الأمة استراحت ثمانين سنة. يا لها من بركة عظيمة. لم تكن البداية مُبشرة بالنجاح إذ أقيم رجل واحد فقط، لكن بفضل شجاعته وقوته وقدرته ومبادرته تحقق النصر، واستمتع شعب إسرائيل بالراحة ثمانين سنة
فرانك ولاس