«وَأَمَّا الأَحَدَ عَشَرَ تِلْمِيذًا فَانْطَلَقُوا إِلَى الْجَلِيلِ إِلَى الْجَبَلِ، حَيْثُ أَمَرَهُمْ يَسُوعُ» (مت٢٨: ١٦)
مرة أخرى تقودنا قصة القيامة إلى الجليل. وهذه المرة إلى الجبل حيث أمرهم الرب يسوع (مت٢٨: ١٦). وإذ كانت البحيرة، التي منها أمسك التلاميذ ذلك الصيد المُعجزي للسمك، تُصوّر لنا بحر الأمم، فإن الجبل (بالاتساق مع طابع إنجيل متى) يُعطي صورة للطابع الرفيع لمملكة المسيح.
اقترب الرب منهم «وَلَمَّا رَأَوْهُ سَجَدُوا لَهُ» (مت٢٨: ١٧)، وباستثناء البعض الذين كانت أعينهم ما زالت مُمسكةٌ؛ «بَعْضَهُمْ شَكُّوا». أما هم فقد قدموا له السجود اللائق بملك اليهود.
حقًا إنه يستحق السجود. «فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ» (ع١٨). «كُلُّ سُلْطَانٍ» ... كانت هذه المكافأة إزاء أنه «وَضَعَ نَفْسَهُ»، باختياره، مثلما هو مكتوب في إشعياء ٥٣: ١٢ «لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ».
وبالتأكيد «كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ» (مر١: ٢٢)، عندما مشى باتضاع بين خاصته. وكان «بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ!» (لو٤: ٣٦). وفي مرات معينة ظهرت قوته كالخالق، ولمعت قدرته الإلهية، من خلال ثياب الاتضاع التي تسربل بها في ذلك الوقت. ولكن عندما ”أَتَتِ السَّاعَةُ“ فإن أولئك الذين حركهم الشيطان ضده قد ”أُعْطُوا سُلْطَانًا مِنْ فَوْقُ“ (يو١٩: ١١)، ”وخرجوا عليه“ «ثُمَّ قَالَ يَسُوعُ لِرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ جُنْدِ الْهَيْكَلِ وَالشُّيُوخِ الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ: كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! ... وَلَكِنَّ هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ» (لو٢٢: ٥٢، ٥٣).
ولكن الآن قد مضى كل هذا. فهذا الصراع الرهيب مع ”الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ“قد انتهى بانتصاره الكامل عليهم (كو٢: ١٥). عندما عرض عليه الشيطان - من فوق ”جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا - ”جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا“، رفضها (مت٤: ٨). والآن ها قد دَفَعَ الله إليه «كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ» (مت٢٨: ١٨). وها هو الآن - في سلطانه المُطلق - يُعطي تكليفاته لتلاميذه «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (مت٢٨: ١٩، ٢٠).
ليتنا نُذَكِّر أنفسنا هنا أنه في مناسبات مختلفة أعطى ربنا المُقام إرساليات أو تكليفات لخاصته بالنسبة لخدمتهم، وكل تكليف منها يحمل نوعًا ما طابعًا مختلفًا. ففي إنجيل يوحنا تُرى خاصته في قوة حياتهم الجديدة، وعليهم أن يُذيعوا بشارة الإنجيل، التي تُعطي السلام لكل أولئك الذين تصل إليهم (يو٢٠: ٢١-٢٣).
وفي إنجيل لوقا نرى الكرازة «بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ»، وأن يفعل ذلك بسلطان الكلمة وروح الله (لو٢٤: ٤٥-٤٩). ولكن مجال الكرازة في إنجيل مرقس أكثر عمومية «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا». ومثلما كانت خدمته، فإن خدمة التلاميذ كان لا بد أن تلقى قبولاً، وأن تلقى أيضًا رفضًا. والإنجيل الذي يُذاع هو إنجيل الخلاص بالإيمان «مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ» (مر١٦: ١٥).
ولكن الإرسالية في إنجيل متى مختلفة. فالموضوع هنا هو خضوع جميع الأمم لسيادة المسيح ملك إسرائيل، وقبول تعليم الرب من خلال المعمودية باسم الله المثلث الأقانيم. ونلاحظ أن التكليف قد أُعطيَّ مباشرة للاحدي عشر الذين كان يجب أن يواصلوا خدمة المسيح كما هي ولمن كُتبت لهم «فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ» (إش٤٩: ٦). ونحن نعلم أن هذه الخدمة سيكون استمرارها الحقيقي حتى نهاية هذا الدهر، حينما ترجع إسرائيل ثانية إلى الرب.
هل هذه الخدمة سهلة؟ كلا بالتأكيد. فقد تكلَّم الرب مرارًا وتكرارًا لتلاميذه عن المقاومات والآلام التي سيواجهها رسله (مت١٠؛ ٢٣). ولذلك أضاف تلك الكلمات المُعزية «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت٢٨: ٢٠). فليتنا نُطبق هذه الكلمة بالتأكيد لنا في يومنا هذا أيضًا على طريقنا وعلى خدمتنا.
(يتبع)