كانت بيت إيل بقعة جرداء في قلب فلسطين. ولم يكن فيها شيء يستحق الذِكر. ولذا دعاها كاتب سفر التكوين «مكانًا» (تك28: 11)، بل كان أهم ما تحفل به سفوح الجبال ومنحدراتها. وإذ ارتحل يعقوب إلى الشمال سرعان ماوجد أن الليل قد داهمه في ذلك المكان الموحش المُقفر. ولم يجد أمامه مطلقًا سوى أن يضطجع على تلك الأرض القاسية، ويتوسد أحجارها. وهكذا نام، وإذ هو نائم رأى حلمًا، وفي حلمه رأى سلمًا ارتكزت قاعدته على المكان الذي كان مضطجعًا فيه واتصلت رأسه بالسماء، وعلى هذا السلم صعدت ونزلت الملائكة الذين اكتظ بهم ذلك المكان الموحش المُقفر، والذين وجهوا كل عنايتهم لذلك النائم أسفل السلم، لم يكن هذا هو كل الأمر، فمن أعلى السلم سمع يعقوب صوت الله كنغمات الموسيقى. وهنا نرى ثلاثة أمور جوهرية: 1. السلم: ربما كان يسود يعقوب في ذلك الوقت شعور بحقارته وخطيته، كما كان يحزنه شعوره بتغربه عن وطنه، ولذلك فقك كان مبهجًا جدًا لنفسه أن يعلم بأن هنالك صلة بينه وبين الله. ليس الأرض كوكبًا هائمًا على وجهه، بل هي متصلة بالسماء، لا بتلك السلاسل الذهبية التي يتغنى بها بعض شعرائنا، ولا بالسلاسل الحديدية التي تربط السفينة بمرساها، ولا بالربط الحريرية لقانون الجاذبية التي تربط الكواكب، بل بسلم، وهذا يتضمن الصلة والشركة والعبور من أحد الطرفين إلى الآخر. والسلم هو الرب يسوع المسيح نفسه (يو1: 51)، فإنه قد أخذ طبيعتنا البشرية، وفي تلك الطبيعة صعد من جبل الزيتون إلى عرش الله «فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة» (أف1: 21)، وإذ فعل هذا ترك طريقًا من النور خلفه، وصار هو الطريق الذي به نستطيع أن نصل إلى «العلي المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه» (أش57: 15)، ولن يوجد طريق آخر غير هذا الطريق «ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو14: 6)، وما الإغفال عنه إلا الإغفال عن الواسطة الوحيدة التي بها يستطيع الخاطئ أن يأتي إلى الحياة وإلى نور الله ومحبة الله، على أن أضعف إنسان وأشر خاطئ يستطيع أن يصعد بيسوع من قرار هاوية جهنم إلى عتبة عرش الله الأبدي. عندما تتلبد السماء بالغيوم لا نستطيع أن نبصر خيوط العنكبوت التي تكون قد امتدت كسلم من شجرة إلى أخرى، ولكن عندما تضيء الشمس بنورها الوهَّاج فحينئذ تنكشف أمامنا تلك الخيوط. وهكذا أيضًا عندما يرفع المرتاب نظره إلى فوق لا يستطيع أن يرى رابطة أو وصلة بين كوكبنا الأرضي هذا وبين مركز الكون كله حتى تنفتح عيناه فيرى السلم الذي تخلف وراء المخلص عند صعوده إلى السماء. فشكرًا لله لأننا لم نترك كريشة في مهب الريح تحت رحمة أي تيار جارف. فإن هذه السفينة السوداء موثقة كل الطريق بتلك السفينة المضيئة الوهاجة – سفينة النعمة السماوية – نعم وهناك لوح خشبي موصل بين السفينتين. 2. الملا ئكة: كانت الملائكة تصعد: رمزًا لصعود صلواتنا إلى السماء، وتنزل رمزًا لنزول الجواب من الله. يذكرنا الحديث هنا بالأعصاب الناقلة (أو الداخلة) والأعصاب الموصلة (أو الخارجة) في الجسد، فالأولى تنقل إحساسات الألم الشديد من الأطراف وتصعد بها إلى الرأس، والثانية تنقل الإرشاد بجميع الحركات وتنزل بها إلى الأطراف. يحسن بنا أن نكثر التأمل في خدمة الملائكة وعنايتها الفائقة. فهي تتابع السير مع كل قطار من قطارات السكة الحديد، مهما تزايدت سرعته، إن كان يحمل أحد أولاد الله لكي يوصله سالمًا إلى غايته. وهي ترافق كل سفينة تشق طريقها وسط الأمواج المتلاطمة، متى كانت تحمل أحد ورثة الخلاص، لكي توصله إلى الميناء التي يجب أن يكون فيها. وهي ترابط حول كل المدينة بخيل ومركبات نارية، ومهما كانت محاصرة، متى كان فيها خدام الله، وهي تخدمنا وتقضي لنا كل احتياجاتنا. وهي تجهز لنا طعامًا شهيًا مقويًا حينما نرتمي في الصحراء منهكي القوى ونطلب الموت لأنفسنا. وهي تهمس بكلمات التعزية في قلوبنا المضطربة. وهي تحمل أرواحنا وتصعد بها في ساعة الموت. كل ذلك محبة لنا، لا على سبيل أي جزاء نستحقه. الله يوصي ملائكته بنا لحفظنا في كل طرقنا وعلى أياديها تحملنا (مز91: 11 و12) «ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم» (مز34: 7). «أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص» (عب1: 14). ويالها من تعزية بالغة قد نالها يعقوب. لقد أدهشه جدًا أن يرى ذلك المكان الموحش القفر أصبح مكتظًا ومزدحمًا كازدحام ”بوابة“ إحدى مدن الشرق التي تحتشد فيها الجماهير الغفيرة للبيع والشراء. ولكنه كان باب السماء لأنه قد بدا له كأن سكان السماء كانوا حالين حوله، صاعدين ونازلين، والجميع منشغلون في خدمة البشر بإدخال احتياجاتهم وطلباتهم وإخراج بركات الله المتراكمة، بذلك المكيال الفائض جدًا الذي اعتاد الله أن يكيل به لكل أولاده. إذًا فيجب أن لا نستسلم ثانية للشعور بالوحدة والوحشة إذ نذكر أننا في الساعة التي نظن فيها أننا في انفصال عن كل البشرية نعيش وسط جمهور عظيم جدًا من الملائكة. وإذا ما تجردت إحساساتنا من كل مشتهيات الخطية فلابد أننا نستمع إلى أغنياتهم الحلوة وتسابيحهم وترانيمهم وننظر إلى هيئتهم. 3. صوت الله: لقد حقّق الله أفكاره. كان يعقوب يشعر بالوحدة، أما الله فقال له «ها أنا معك» (تك28: 15). كان يخشى عيسو فقال له الله «واحفظك»، وكان لا يعلم شيئًا عن الصعوبات التي تنتظره فوعده الله بأن يرده سالمًا «أردك إلى هذه الأرض». وكان يظن بأنه قد أصبح محرومًا من كل الأخوة والأصدقاء، ولكن الله أعطاه هذا التأكيد: إني لا أتركك. وكانت المظاهر تبدو كأنها تناقض الوعد الإلهي، ولكن الله قال له «لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به». هذه كلمات ثمينة، ولكنها لا تأتي إلا للذين يضطجعون عند أقدام ذلك الصليب العجيب الذي يصل الأرض بالسماء. فإن كان مكانك هناك استطعت أن تطالب بدالة عظمى بكل ما تتضمنه هذه الكلمات من تعزية. أليس مما يلاحظ باهتمام أن يعقوب لم ير هذه الحقائق المجيدة حتى نام؟ لقد كان الله يرقبه باهتمام في البرية قبل نومه كما كان يرقبه بعد نومه، ولكن يعقوب لم يكن يدرك ذلك «حقًا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم». إنه لم يعلم ذلك إلا بعد أن نام، لقد غلبه النعاس تدريجيًا وطواه بين ثناياه. وزالت حرارة الحمى تدريجيًا، وهدأت ثائرته وهجع اضطرابه، وتعمّق في السكينة والهدوء، ونسى نفسه الثائرة المنزعجة المضطربة التي أتى بها من بئر سبع. وبينما هو نائم تقدم إليه الله فأحس برفقته الأبدية التي لم يكن لعلم عنها شيئًا بعد. تقدم إليه بهدوء ورقة، فرأى مجد الله، وسمع صوته، وصار المكان الموحش القفر ممتلئًا من رهبة الله وحضرته. إن لنا في هذه القصة القديمة درسًا نتعلمه عن كيف انتظر الله حتى نام عبده قبل أن يعلن له سر حضوره. أليس حقيقيًا أننا في بعض الأحيان يجب أن ننام لكي نرى؟ ألا يجوز أننا متيقظون جدًا ومنتبهون لأمور هذا العالم الزائلة؟ ألا يحسن أن نغمض أعيننا عن تلك الأمور ونتناساها لكي تستطيع بصيرتنا الروحية أن تنظر الأمور الأبدية غير المنظورة؟
|