أريد الآن أن ألفت انتباهكم باختصار إلى الأمر الثاني الذي ذكرته في مستهل حديثي، وهو الطريقة المألوفة التي بها نقرأ عن الروح القدس في سفر الأعمال، ليس كتأثير، لكن كشخص إلهي حاضر فعلاً على الأرض، وعامل بحسب مشيئته الخاصة. ليس فقط أن الروح القدس فينا كمؤمنين، لكن معنا أيضًا. هذا ما يُعلنه سفر الأعمال بطريقة جذابة في أمثلة كثيرة.
ففي الأصحاح الرابع من سفر الأعمال، عندما صلى الرسل «تزعزع المكان الذي كانوا مُجتمعين فيه». كان الروح القدس هناك، وقد جعل حضوره محسوسًا. هذا بجانب الحق المبارك، أنه كان في كل مؤمن شخصيًا حيث «امتلأ الجميع من الروح القدس». إن الأمر الهام في الموضوع هو أن هناك شخصًا غير منظور كان موجودًا. أيضًا في الأصحاح الخامس حينما كذب حنانيا وسفيرة أمام الرسل، قال بطرس: «يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس؟ .. أنت لم تكذب على الناس، بل على الله». ولزوجة حنانيا قال: «ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب؟». كان الله حاضرًا في الكنيسة، الله الروح القدس. إنه حق مُذهل لكنه مبارك جدًا، أن الله يسكن الآن على الأرض على أساس بار، ولكن في نعمة تفوق التصوُّر، بين أولئك الذين كانوا خطاة بالطبيعة، ولكنهم اغتسلوا بدم ابن الله، وصاروا لائقين لكي يكونوا هيكله. وقد ميَّز بطرس هذه الحقيقة المُدهشة، أن الكنيسة هي الآن مسكن الله، لذلك فإن أية خطية تُرتكب، كانت ضد الروح القدس الساكن هناك.
وفي الأصحاح الثامن، نجد الروح القدس مشغولاً بعمل الرب حيث نقرأ «فقال الروح لفيلبس، تقدم ورافق هذه المركبة» (ع29). في (ع26) نقرأ أن ملاك الرب عرَّفه الطريق التي يسير فيها. من هذه الوجهة كانت العناية الإلهية ظاهرة لفيلبس، وهي كذلك لنا أيضًا لأن عبرانيين1: 14 لا يزال بالتأكيد حقيقيًا. لكن لم يكن ملاكًا، بل الروح القدس هو الذي أمره أن يقترب نحو الخصي الحبشي القلق. وبالتأكيد هناك إرشاد مُماثل في طبيعته، يعطيه الروح القدس في تعاملنا مع النفوس. إن الروح القدس يعلم احتياج هذه النفوس، وبمحبة وموَّدة يعمل بواسطة أعضاء المسيح وخدامه، والكل لا يدرون غالبًا بما هو مُزمع أن يفعله. إن ”محبة الروح“ هي شيء حقيقي مثل محبة المسيح.
وقد سبق ورأينا في حالة بطرس أنه «قال له الروح، هوذا ثلاثة رجال يطلبونك، لكن قُم واذهب معهم ...» (أع10: 19، 20). كانت عينه على الأممي الذي عمل فيه وأيقظه، وقد أمر إناءه المُختار أن يذهب، وأن يفعل ما أمره به. وقد كان بطرس حريصًا أن يحكي هذا الأمر كمَن هو واعٍ تمامًا بصوت من أرشده «فقال لي الروح أن أذهب» (أع11: 12).
وإذ ننتقل إلى أصحاح13، نجد الروح القدس هو العامل المباشر في مشروع إرسالية تبشيرية. هناك نقرأ: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه» (عدد2). كانت هذه العبارة موجهة علانية لزُمرة الأنبياء والمعلمين في كنيسة أنطاكية. لم تكن مجرد إيحاء في برنابا وشاول، ولكن وصية مباشرة لآخرين بخصوصهم، وقد أطاعوها.
ثم في الأصحاح السادس عشر نقرأ عن بولس ورفقائه: «منعهم الروح القدس أن يتكلموا بالكلمة في أسيا». ولما حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية «لم يَدَعهم الروح» (أع16: 6، 7). ولما صمم بولس على الذهاب إلى أورشليم، نقرأ أن ”الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً إن وُثقًا وشدائد تنتظره“ (أع20: 23). وليس هذا هو الكل، لأنه في صور، قال التلاميذ لبولس بالروح «أن لا يصعد إلى أورشليم» (أع21: 4). وإذ لم يلتفت بولس إلى هذا الأمر، تلاه في عدد11 تقرير مفصَّل عن عاقبة رحلة لم يكن منقادًا فيها بالروح القدس، رغم أن الله يمكنه أن يتحكم فيها، وقد فعل هذا، لبركة خادمه، بل وبركة كل الكنيسة. ففي قيصرية، وفي بيت فيلبس نقرأ أن أغابوس «أخذ منطقة بولس وربط يدي نفسه ورجليه وقال: هذا يقوله الروح القدس: الرجل الذي له هذه المنطقة، هكذا سيربطه اليهود في أورشليم ويسلمونه إلى أيدي الأمم».
وأخيرًا، تلاحظون حقيقة لها وزنها، أنه من تلك اللحظة لا تقرأون مرة أخرى عن الروح القدس في سفر الأعمال، عدا إشارة بولس إليه حينما كان سجينًا في روما (أع28: 25).
لكن هل نفس ذلك الشخص الإلهي لا يزال ساكنًا على الأرض، أم أن كل شيء تغيَّر، وهل هو نظرًا لإهماله المُحزن وعدم مُراعاة وجوده، اختفى من قلب كنيسة الله على الأرض؟ آه، دعونا لا نحكم حكمًا خاطئًا على روح الحق وعلى كلمة الله بمثل هذه الأفكار غير اللائقة. لقد قال الرب لتلاميذه: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق .... لأنه ماكث معكم ويكون فيكم» (يوحنا14: 16، 17). لقد رأينا كيف مضى يسوع، وقد عرفنا أيضًا كيف أتى الروح القدس لكي يسكن مع التلاميذ الأوائل، وهو يمكث معنا نحن الآن. وإني أؤمن أنه يسكن في الكنيسة اليوم، وما نحتاجه أنت وأنا، هو الإيمان بالحضور الدائم للروح القدس، المعزي، في وقتنا الحاضر. ليُعطنا الله أيها الأحياء أن نؤمن بحضوره، لأنه على قدر ما يزداد اعتمادنا عليه وثقتنا به، بقدر ما تزداد البركة التي سننالها.