هناك فائدة عظيمة من دراسة حياة دَانِيآل، ونقصد حياته الشخصية؛ ليس باعتباره نبيّ الله، لكن دَانِيآل كقديس وخادم للرب. نحن لسنا بأنبياء، ولكننا - بنعمة الله - قديسين وخدام للرب. ومن سفر دَانِيآل سنتأمل في بعض الصفات الأدبية التي يجب أن تميز الخادم الحقيقي في هذه الأزمنة الصعبة؛ أزمنة الخراب والتشويش وسط شعب الله. وعندما نتذكر حالة الخراب هذه يجب أن نشتاق ونتوق أكثر لحالة التكريس القلبي للرب، ونقول: “سأعطي لك يا رب كل قلبي”.
أخي العزيز إنك تستطيع بنعمة الله أن تكون كدَانِيآل في هذه الأزمنة الصعبة لو كان لك الإيمان والعزيمة مثله. دعني أُقدّم لك بعض الصفات الأدبية التي ميَّزته:
١. الرجل المنفصل: لا يُخفى علينا حالة الفوضى والخراب في أيام دانيال؛ فشعب الرب كان في السبي، وبيت الله كان قد دُمِّر، وآنية بيته ذهبت لتُستغل في تزيين هياكل بابل الوثنية. وكان دَانِيآل ورفقاؤه عبيدًا في قصر الملك نَبُوخَذْنَصَّر، وقد كان حاكمًا شريرًا لا تهمه أمور الله ولا شعبه. وقد اختار فتيانًا من نسل الملك ليُدرِّبهم لفترة، للوقوف أمام الملك، وعيَّن لهم الملك طعامًا ملكيًا، وألحقهم بما يُشبه الجامعة في بابل لمدة ثلاث سنين، وهناك كانوا مُحاطين من كل ناحية بالممارسات الوثنية الشريرة، التي ضغطت عليهم بشدة لكي يسقطوا في الامتحان، ويفقدوا تكريسهم وأمانتهم للرب (دا١: ٣-٦).
ولكن الكتاب يقول: «أَمَّا دَانِيآلُ فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ، فَطَلَبَ مِنْ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ أَنْ لاَ يَتَنَجَّسَ» (دا١: ٨). وما أحلى هذا التعبير: «جَعَلَ فِي قَلْبِهِ»! فكم هو مُلذ لقلب الله أن تكون رجلاً لك عزيمة وغرض ثابت. وهذا هو سر الاستخدام الإلهي الفعال؛ أن تكون لك عزيمة قوية. عندما أَتَى “بَرْنَابَا” إِلى أَنْطَاكِيَةَ «رَأَى نِعْمَةَ اللهِ فَرِحَ، وَوَعَظَ الْجَمِيعَ أَنْ يَثْبُتُوا فِي الرَّبِّ بِعَزْمِ الْقَلْبِ» (أع١١: ٢٣). قال بولس لتيموثاوس: «وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ... قَصْدِي» (٢تي٣: ١٠). هذا ما أرجوه لكم يا أولادي الأحداث في الإيمان؛ كونوا دائمًا رجالاً ذوي عزيمة وغرض.
لا شك عندي أن دَانِيآل كان له دراية بالكتب المقدسة وكان يعلم أن أطايب الملك قد ذُبحت للأوثان، وكان يعرف فكر الرب بخصوص شحم الذبيحة والدم (لا٧: ٢٣-٢٧). وكان يعرف أيضًا فكر الرب بخصوص شريعة النذير، ويُدرك أن الرب يشتاق للانتذار والتكريس في تلك الأزمنة الصعبة (عدد٦). ولا شك عندي أنه قرأ وفهم ما جاء في لاويين ١١ عن شريعة الحيوانات الطاهرة والنجسة، والطيور والأسماك والزواحف. وأيضًا ما جاء في لاويين ٢٠. فكل ما نأكله سيشكِّل حياتنا، وأنا أتكلم هنا عن الطعام الروحي الذي يغذي النفس. فنحن ما نأكل. فقد رفض أشياء تبدو أنها مقبولة ولذيذة بالنسبة لأهل العالم، وربما يكون قد همس له الشيطان لكي يثني عزيمته قائلاً: “ما الفائدة من تكريسك للرب وأنت في بابل؟! افعل كما يفعل البابليون”. ولكن دَانِيآل أجاب: “لقد جعلت في قلبي أن أنتذر للرب وأتكرس”.
٢. الرجل المستنير الحكيم: الرجل المنفصل المقدس أكرمه الرب جدًا مع رفقائه «فَأَعْطَاهُمُ اللهُ مَعْرِفَةً وَعَقْلاً فِي كُلِّ كِتَابَةٍ وَحِكْمَةٍ... وَفِي كُلِّ أَمْرِ حِكْمَةِ فَهْمٍ الَّذِي سَأَلَهُمْ عَنْهُ الْمَلِكُ وَجَدَهُمْ عَشَرَةَ أَضْعَافٍ فَوْقَ كُلِّ الْمَجُوسِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ» (دا ١: ١٧، ٢٠). وكان ممتلئًا من معرفة مشيئة الله كما هو مكتوب: «أنْ تَمْتَلِئُوا مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَفَهْمٍ رُوحِيٍّ، لِتَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلرَّبِّ، فِي كُلِّ رِضىً، مُثْمِرِينَ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَنَامِينَ فِي مَعْرِفَةِ اللهِ» (كو١: ٩، ١٠). وقال عنه الكتاب: «وَكَانَ دَانِيآلُ فَهِيماً بِكُلِّ الرُّؤَى وَالأَحْلاَمِ» (ع١٧)، وعند وقت الامتحان تفوَّق دَانِيآل بامتياز هو ورفقاؤه.
ونحن في مسيرتنا نتعرض لكثير من التجارب والامتحانات التي ربما لم نكن نتوقعها ونخشى منها. ووسط هذه التجارب تُمتَحَن نفوسنا وتنكشف حقيقتها. ويا له من تشجيع لنا في هذه الأيام أن نتمثَّل بأولئك الرجال الأتقياء ونحيا بالقداسة والانفصال في هذا العالم الشرير! فبرغم انفصالهم وتقواهم حصلوا على أعلى المناصب في بابل. فالقداسة والانفصال لا يحرما التقي من ارتقاء هذه المناصب الرفيعة لأن الرب أعطاهم حكمة تفوق عشرة أضعاف حكمة أهل العالم. فإن أعطيتني رجلاً مكرسًا مستقيمًا فإنك ستجده يتفوق عشرة أضعاف عن أي رجل مثقف من أهل العالم لأنه ببساطة له الاستنارة والبصيرة من الرب.
٣. الرجل المصليّ: في الأصحاح الثاني نجد دَانِيآل في مواقف صعبة، عندما حلم الملك نبوخذنصر حلمًا وأمر الحكماء أن يخبروه بالحلم وبالتفسير، وقال له الحكماء: «لَيْسَ عَلَى الأَرْضِ إِنْسَانٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبَيِّنَ أَمْرَ الْمَلِكِ... وَالأَمْرُ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْمَلِكُ عَسِرٌ وَلَيْسَ آخَرُ يُبَيِّنُهُ قُدَّامَ الْمَلِكِ غَيْرَ الآلِهَةِ الَّذِينَ لَيْسَتْ سُكْنَاهُمْ مَعَ الْبَشَرِ» (دا ٢: ١٠، ١١). وعندما غضب الملك وأمر بإبادة كل حكماء بابل بما فيهم دَانِيآل ورفقائه «دَخَلَ دَانِيآلُ وَطَلَبَ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يُعْطِيَهُ وَقْتاً فَيُبَيِّنُ لِلْمَلِكِ التَّعْبِيرَ» (ع١٦)، ثم «مَضَى دَانِيآلُ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَعْلَمَ حَنَنْيَا وَمِيشَائِيلَ وَعَزَرْيَا أَصْحَابَهُ بِالأَمْرِ، لِيَطْلُبُوا الْمَرَاحِمَ مِنْ قِبَلِ إِلَهِ السَّمَاوَاتِ مِنْ جِهَةِ هَذَا السِّرِّ» (ع١٧، ١٨). لقد اجتمعوا في فرصة صلاة. ويا له من أمر فعال ومجيد أن نصلي ونطلب المراحم. هل توجد عندكم صعوبات كثيرة أصدقائي الأعزاء؟ عليكم باجتماع الصلاة؛ هذه هي نصيحتي لكم. وقد استجاب الرب وكشف له السر في الليل. وماذا بعد هذا؟ هل مضى ليُخبر رفقائه؟ كلا بل مضى أولاً ليسبح ويعظم إلهه (دا٢: ١٩-٢٣).
٤. الرجل المُسبِّح: عندما «كُشِفَ السِّرُّ لِدَانِيآلَ فِي رُؤْيَا اللَّيْلِ»، بارك إله السَّماوات الذي له الحكمة والجبروت، وترنم بأنشودة حمد وتسبيح رائعة، فقال للرب: «إِيَّاكَ يَا إِلَهَ آبَائِي أَحْمَدُ، وَأُسَبِّحُ الَّذِي أَعْطَانِي الْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَأَعْلَمَنِي الآنَ مَا طَلَبْنَاهُ مِنْكَ، لأَنَّكَ أَعْلَمْتَنَا أَمْرَ الْمَلِكِ» (دا٢: ١٩-٢٣). ونلاحظ أنه لم يقل: “وَأَعْلَمَنِي الآنَ مَا طَلَبْتَهُ مِنْكَ”، بل «مَا طَلَبْنَاهُ مِنْكَ»، فقد شعر أنها كانت طلبة جماعية وقد استجاب الرب استجابة رائعة.
٥. الرجل الناجح: بسبب تفسير دانيال لحلم الملك «عَظَّمَ الْمَلِكُ دَانِيآلَ وَأَعْطَاهُ عَطَايَا كَثِيرَةً، وَسَلَّطَهُ عَلَى كُلِّ وِلاَيَةِ بَابِلَ وَجَعَلَهُ رَئِيسَ الشِّحَنِ عَلَى جَمِيعِ حُكَمَاءِ بَابِلَ... فَكَانَ فِي بَابِ الْمَلِكِ»، ولكنه لم ينسَ رفقاء الصلاة، فطلب من الملك لأجلهم وظائف، فجعلهم الملك على أعمال ولاية بابل (دا ٢: ٤٨، ٤٩). فهو ما نسيهم عندما كان الأمر يحتاج صلاة جماعية، ولا نسيهم عندما عظمه إلهه.
كم كان قديسًا رائعًا دَانِيآل هذا! وهو على العموم يذكرني بقديس أخر عظيم هو الرسول بولس. وكم نشعر بضعفنا أمام هذين القديسين العظيمين من ناحية تكريسهم ونسيانهم لذواتهم. فكم هو رائع أن ننسى ذواتنا ونشارك إخوتنا عندما يرفعنا الرب ويُنجح طريقنا، ولا ننسب هذه الإنجازات لأنفسنا، ونتمتع بها دون إخوتنا.
فدانيال الرجل المصلي والمسبح كان يُسَر أن يشارك إخوته في كل شيء. وقال عنه الكتاب: «فَنَجَحَ دَانِيآلُ هَذَا» (دا ٦: ٢٨). هذا هو سر القديس الناجح أن يشارك إخوته في النور الذي أعطاه له الرب، فالنور الذي أعطاه له الله ليس له، بل للآخرين. فنحن مجرد أوانٍ يضع الله فيها النور سواء كان هذا النور هو نور الإنجيل أو الحق الخاص بالكنيسة، علينا أن نشارك به الآخرين، وإن لم نشارك به الآخرين حتمًا سيختفي من حياتنا. فكم من قديسين عرفوا حقائق ثمينة واحتفظوا بها لأنفسهم فقط، وهذا يُعتبر مرضًا خطيرًا! ليحفظنا الرب من المشغولية بأنفسنا، والدوران حول أمورنا واهتماماتنا.
٦. الرجل الأمين: هذه الصفة الجميلة نستطيع أن نجدها واضحة في الأصحاحين الخامس والسادس من هذا السفر. في الأصحاح الخامس أُدخل إلى قدام بيلشاصر الملك، وكم كان شجاعًا وأمينًا في توبيخ الملك وفضح خطاياه دون مجاملة! وكم كان مستقيمًا في آرائه، متعففًا في حضرة الملك، رافضًا هداياه معتمدًا على الله ولا يرجو شيئًا من البشر (دا٥: ١٧). وبرغم كل إغراءات الملك الكثيرة لكنه عقد النية أن يعلن أقوال الله وأحكامه بكل وضوح. كم كان رجلاً أمينًا ومخلصًا! يا له من مثال جميل!! وقد تبرهنت أمانته أيضًا في الأصحاح السادس.
٧. الرجل المكروه والمُبغَض من أهل العالم: بسبب كونه رجلاً أمينًا وجديرًا بالثقة، وبسبب المنصب الرفيع الذي أكرمه به الرب، كل هذا جعله مُبغَضًا من الناس. وهذا أمر شريف ورائع إن كنا نُبغَض من العالم لأجل المسيح. فرجل الله الذي يمثل الله الذي هو نور وحق، والذي يكون بمثابة قناة تجري من خلالها نعمة الله، لا بد أن يُبْغَض في هذا العالم. فالرب له المجد قال لتلاميذه: «طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ... لأَنَّ آبَاءَهُمْ هَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ» (لو٦: ٢٢، ٢٣). وهذا ما تم بالفعل مع رُّسُل المسيح قديمًا عندما َدَعُوهُمْ «وَجَلَدُوهُمْ، وَأَوْصَوْهُمْ أَنْ لاَ يَتَكَلَّمُوا بِاسْمِ يَسُوعَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمْ. وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (أع٥: ٤٠، ٤١). قال الرسول بولس لإخوته: «لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (في١: ٢٩). وهذا ما عبر عنه الرسول بطرس أيضًا: «إِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ» وأيضًا: «كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ، افْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي اسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضًا مُبْتَهِجِينَ. إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ» (١بط٣: ١٤؛ ٤: ١٣، ١٤).
كان سر كراهية الأشرار لدَانِيآل هو الترقية المستمرة في مناصب رفيعة خلال فترة ملوك وأباطرة مختلفين؛ نبوخذنصر، بيلشاصر، داريوس، كورش، واستمر في وظائفه المختلفة حوالي سبعين عامًا. فقد جعله نبوخذنصر قاضيًا (دا ٢: ٤٩)، وجعله بيلشاصر رئيسًا للوزراء، وأبقاه داريوس في منصبه مع إضافة أعباء وظيفية جديدة، فكان يُشبه في أيامنا الحاضرة “المستشار الخاص للحاكم”. وقال عنه الكتاب وهو في هذا المنصب: «فَفَاقَ دَانِيآلُ هَذَا عَلَى الْوُزَرَاءِ وَالْمَرَازِبَةِ، لأَنَّ فِيهِ رُوحًا فَاضِلَةً. وَفَكَّرَ الْمَلِكُ فِي أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا» (دا٦: ٣). وما أروع هذه الروح الفاضلة التي كانت لدانيال. يا ليتنا نشتهي هذه الروح، ليس لنكون أنبياء، بل نتمثل بهذه الصفات الأدبية!
ودَانِيآل لم يكن فقط رجلاً فيه روح فاضلة، بل كان رجل البر العملي «لأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَطَأٌ وَلاَ ذَنْبٌ». وما أثار حقد الأشرار عليه أنهم «لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَجِدُوا عِلَّةً وَلاَ ذَنْبًا» (دا٦: ٤). يا له من شخص نبيل حقًا! رَجُلٌ “فِيهِ رُوح فَاضِلَةً” و“رَجُل أَمِين”!!
كم كان رجلاً فاضلاً بكل معنى الكلمة، إذ يذكرنا بشخص المسيح الكامل القدوس الذي كان بلا عيب!! وهذا ما يليق حتمًا بكل خادم حقيقي للمسيح؛ أن يُشبه الرب يسوع أدبيًا. وكان كلما رفعه الرب وعظَّمه، كلما كان يزداد تواضعًا في عيني نفسه، ولم يقُدْه المنصب الرفيع إلى الكبرياء والغرور. وحاول الأشرار أن يكيدوا له المكائد وينصبوا له الفخاخ فأشاروا مشورة على الملك داريوس: «بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَطْلُبُ طِلْبَةً حَتَّى ثَلاَثِينَ يَوْمًا مِنْ إِلَهٍ أَوْ إِنْسَانٍ إِلاَّ مِنْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، يُطْرَحُ فِي جُبِّ الأُسُودِ» (دا٦: ٧). لكن هذا أيضًا لم يُثنِ عزيمة هذا البطل لأنه كان له إيمان في إلهه.
٨. الرجل المحفوظ: يقول الكتاب: «فَلَمَّا عَلِمَ دَانِيآلُ بِإِمْضَاءِ الْكِتَابَةِ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ، وَكُواهُ مَفْتُوحَةٌ فِي عُلِّيَّتِهِ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ، وَصَلَّى وَحَمَدَ قُدَّامَ إِلَهِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ» (دا٦: ١٠). وتصرف دانيال هذا كان مبنيًا على فهم كلمة الله ولا سيما تلك الأقوال التي جاءت في صلاة سليمان للرب: «إِذَا أَخْطَأُوا إِلَيْكَ... وَغَضِبْتَ عَلَيْهِمْ وَدَفَعْتَهُمْ أَمَامَ الْعَدُوِّ، وَسَبَاهُمْ سَابُوهُمْ... فَإِذَا رَدُّوا إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُسْبَوْنَ إِلَيْهَا، وَرَجَعُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ فِي أَرْضِ سَبْيِهِمْ... وَصَلُّوا نَحْوَ أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا لآبَائِهِمْ، وَالْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَ، وَالْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتُ لاِسْمِكَ، فَاسْمَعْ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَكَانِ سُكْنَاكَ صَلاَتَهُمْ وَتَضَرُّعَاتِهِمْ، وَاقْضِ قَضَاءَهُمْ، وَاغْفِرْ لِشَعْبِكَ مَا أَخْطَأُوا بِهِ إِلَيْكَ» (٢أخ٦: ٣٦-٣٩).
وكم كان جميلاً دَانِيآل المعتاد على الصلاة، ليس فقط في الضيقات، بل كان هذا هو طابع حياته كلها. يا ليت كل شعب الرب يميزهم أن يكونوا رجال صلاة، ويكونوا دائمًا على ركبهم أمام الرب إلههم!
وبعد أن دبَّر الأعداء المكيدة لدَانِيآل، وطُرح في جب الأسود «مَضَى الْمَلِكُ إِلَى قَصْرِهِ وَبَاتَ صَائِمًا، وَلَمْ يُؤْتَ قُدَّامَهُ بِسَرَارِيهِ وَطَارَ عَنْهُ نَوْمُهُ. ثُمَّ قَامَ الْمَلِكُ بَاكِرًا عِنْدَ الْفَجْرِ وَذَهَبَ مُسْرِعًا إِلَى جُبِّ الأُسُودِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ إِلَى الْجُبِّ نَادَى دَانِيآلَ بِصَوْتٍ أَسِيفٍ:... يَا دَانِيآلُ عَبْدَ اللَّهِ الْحَيِّ، هَلْ إِلَهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِمًا قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ الأُسُودِ؟» (دا٦: ١٨-٢٠).
وما نتعلمه من هذا الأصحاح أن الرجل المُكرّس هو محفوظ من الرب. فكانت هي أسعد ليلة في حياة دانيال، وأتعس ليلة في حياة الملك داريوس. فلو أتيح لنا أن نزوره في جب الأسود لكنا سنجده نائمًا مطمئنًا واثقًا في إلهه. واستطاع أن يجيب الملك: «إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي، لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئًا قُدَّامَهُ، وَقُدَّامَكَ أَيْضًا أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَمْ أَفْعَلْ ذَنْبًا» (ع٢٢). «فَأُصْعِدَ دَانِيآلُ مِنَ الْجُبِّ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ ضَرَرٌ لأَنَّهُ آمَنَ بِإِلَهِهِ» (ع٢٣)، وقيل عنه في نهاية الأصحاح «فَنَجَحَ دَانِيآلُ هَذَا فِي مُلْكِ دَارِيُوسَ وَفِي مُلْكِ كُورَشَ الْفَارِسِيِّ» (ع٢٨).
٩. دانيال المُتوحِّد مع شعب الرب: هذا نجده بوضوح في أصحاح ٩، فهناك نجد دَانِيآل المتضع أمام إلهه، والمتذلّل والمعترف بخطايا شعبه كأنها خطاياه وشروره. وكم لنا من طعام وفير في هذه الصلاة الجميلة التي تدل على معرفة عميقة بالكلمة. وبينما كان في تذلـله أمام الرب إذ بالملاك جبرائيل يأتي إليه ويُخبره عن تاريخ الأمة كله وردهم النهائي في المستقبل (دا٩: ٢١-٢٧). فكان بحق يأكل من ذبيحة الخطية أمام الرب بلغة رموز سفر اللاويين.
١٠. دانيال الرجل المحبوب: ما أحلى هذا اللقب الذي سمعه دَانِيآل: «لأَنَّكَ أَنْتَ مَحْبُوبٌ» (دا٩: ٢٣)، «أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمَحْبُوبُ» (دا١٠: ١١، ١٩). وكم هو منعش للنفس أن تدرك محبة الرب لها.
كم لنا في حياة ذاك البطل من دروس نافعة وكنوز نفيسة، ذاك الذي شهد الرب نفسه عن تقواه وبره في حزقيال ١٤ عندما ذكر ثلاثة أفاضل من بينهم دانيال “نوح ودَانِيآل وأيوب”، فنوح كان رجلاً بارًا ووَجَدَ نعمة في عيني الرب، ودَانِيآل كان رجلاً محبوبًا تقيًا، وأيوب كان رجلاً بارًا ومستقيمًا.
أردت أن أستعرض أمام قلبك عزيزي القارئ هذه الصفات الأدبية النبيلة التي تميز بها دَانِيآل من تكريس وانفصال وثقة وإيمان، وكيف أرشده الرب واستخدمه ووقف بجانبه في كل ضيقاته. ليتنا نطلب من إلهنا أن يكون كل منا كدَانِيآل في صفاته الأدبية المشرفة رغم أزمنة الخراب التي نعيش فيها الآن، فنكون رجالاً للرب، ونعيش لمجد اسمه.