عندما رجع بنو يعقوب من مصر، جاءوا ومعهم رواية غريبة عن يوسف أنه ما زال حيًا، بل وحاكمًا ومتسلطًا على كل أرض مصر. ولا عجب إن كان يعقوب رفض تصديق بنيه للوهلة الأولى، إذ كانت الأخبار تفوق الخيال حتى لم يكن من السهل تصديقها، لكننا نقرأ «ثُمَّ كَلَّمُوهُ بِكُلِّ كَلامِ يُوسُفَ الَّذِي كَلَّمَهُمْ بِهِ، وَأبْصَرَ الْعَجَلاتِ الَّتِي أرْسَلَهَا يُوسُفُ لِتَحْمِلَهُ. فَعَاشَتْ رُوحُ يَعْقُوبَ أبِيهِمْ. فَقَالَ اسْرَائِيلُ: كَفَى! يُوسُفُ ابْنِي حَيٌّ بَعْدُ. أذْهَبُ وَأرَاهُ قَبْلَ أنْ أمُوتَ» (تك٤٥: ٢٧، ٢٨). ومن الجدير أن نلاحظ التحول ههنا من الاسم “يعقوب” إلى الاسم “إسرائيل” ولا سيما عندما ننتقل إلى العدد التالي؛ «فَارْتَحَلَ إِسْرَائِيلُ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ وَأَتَى إِلَى بِئْرِ سَبْعَ، وَذَبَحَ ذَبَائِحَ لإِلَهِ أَبِيهِ إِسْحَاقَ» (تك٤٦: ١). إذًا فأول ما سُجِّل عن يعقوب بعد بدء رحلته الطويلة إلى مصر، هو تقديم ذبائح لله. لقد علمته السنوات الطوال من التدريب في مدرسة الخبرة أخيرًا أن يضع الله أولاً؛ فقبل أن يتقدم ليذهب ويرى يوسف، نراه يتأنى ليسجد لإله أبيه إسحاق! وجميل أن نلاحظ أن الله لاقاه هناك للمرة السابعة والأخيرة المُسجلة (انظر تكوين٢٨: ١٣؛ ٣١: ٣؛ ٣٢: ١؛ ٢٤؛ ٣٥: ١، ٩). «فَكَلَّمَ اللهُ إِسْرَائِيلَ فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَقَالَ: يَعْقُوبُ، يَعْقُوبُ! فَقَالَ: هأَنَذَا. فَقَالَ: أَنَا اللهُ، إِلَهُ أَبِيكَ. لاَ تَخَفْ مِنَ النُّزُولِ إِلَى مِصْرَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أُمَّةً عَظِيمَةً هُنَاكَ. أَنَا أَنْزِلُ مَعَكَ إِلَى مِصْرَ، وَأَنَا أُصْعِدُكَ أَيْضًا. وَيَضَعُ يُوسُفُ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْكَ» (تك٤٦: ٢-٤).
وإذ وصل إلى مصر، واجتمع شمله مع يوسف، أُدخل البطريرك الشيخ إلى فرعون «ثُمَّ أدْخَلَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ أبَاهُ وَأوْقَفَهُ أمَامَ فِرْعَوْنَ. وَبَارَكَ يَعْقُوبُ فِرْعَوْنَ» (تك٤٧: ٧). وقف البطريرك المُسن الضعيف أمام ملك أقوى وأعظم إمبراطوريات العالم. وأي كرامة تُميز يعقوب الآن! أي تباين بين ذلك اليوم وبين اليوم الذي سجد فيه سبع مرات أمام عيسو! فلا تذلُّل ولا تملُّق هنا. لا أثر هنا للمذلة والمسكنة. إنه يقف أمام فرعون كابن لله؛ ابن ملك الملوك، وكسفير لله العلي. وبالرغم من كون السجل مختصرًا، لكن ما أوسع نطاق ما يمكن أن يُقال عندما نتذكر أن «بِدُونِ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ: الأَصْغَرُ يُبَارَكُ مِنْ الأَكْبَرِ» (عب٧: ٧). ولاحظ أيضًا «فَقَالَ يَعْقُوبُ لِفِرْعَوْنَ: أيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاثُونَ سَنَةً» (تك٤٧: ٩). أخيرًا تعلم يعقوب أن بيته وموطنه ليس هنا، وأنه ليس إلا غريبًا ونزيلاً في الأرض. إنه يرى الآن الحياة مجرد رحلة، لها نقطة بداية وهدف؛ نقطة البداية هي الخلاص والتغيير، والهدف هو المجد الأبدي السماوي.
نقرأ في عبرانيين ١١: ٢١ «بِالإِيمَانِ يَعْقُوبُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ابْنَيْ يُوسُفَ، وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ». يا له من مشهد بديع وأخّاذ أن نلاحظ أن الروح القدس يمُرّ هنا بأرقّ وأروع محطات إيمان يعقوب، ويستمر ليذكر روعة وبهاء أفول مجده، وهو يُجمِل المشاهد الختامية لهذا الإناء المختار من الله. هنا يلمع تصرفان مميزان ليعقوب: الأول مذكور فى تكوين ٤٨، والثاني فى تكوين ٤٧: ٣١. أما عن الأسباب المحتملة لعكس الترتيب التاريخى لها، فلا يُمكننا الخوض فيها الآن، لكننا بصدد كلمة مختصرة عن إظهاري الإيمان المذكورين:
«وَلَمَّا قَرُبَتْ أَيَّامُ إِسْرَائِيلَ أَنْ يَمُوتَ دَعَا ابْنَهُ يُوسُفَ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَضَعْ يَدَكَ تَحْتَ فَخْذِي وَاصْنَعْ مَعِي مَعْرُوفاً وَأَمَانَةً: لاَ تَدْفِنِّي فِي مِصْرَ، بَلْ أَضْطَجِعُ مَعَ آبَائِي، فَتَحْمِلُنِي مِنْ مِصْرَ وَتَدْفِنُنِي فِي مَقْبَرَتِهِمْ. فَقَالَ: أَنَا أَفْعَلُ بِحَسَبِ قَوْلِكَ. فَقَالَ: احْلِفْ لِي. فَحَلَفَ لَهُ. فَسَجَدَ إِسْرَائِيلُ عَلَى رَأْسِ السَّرِيرِ» (تك٤٧: ٢٩-٣١). من أروع المشاهد هذا السجود ومناسبته. ففيه أكثر مما يُمكن للعين أن ترى من النظرة الأولى، فهو ليس مجرد تأثر عاطفي من البطريرك الشيخ، لكن منذ سنوات عديدة وعد الله أن يُعطى يعقوب ونسله أرض كنعان، والآن يحتضن يعقوب هذا الوعد، بالرغم من أنه لم يمتلك الأرض قط، والآن هو على وشك الموت في أرض غريبة، لكنه يعلم أن كلمة الله لا يمكن أن تسقط أبدًا، ومن ثم تطلع بإيمانه إلى القيامة. وأخيرًا تنحت الخطية المحيطة به بسهولة جانبًا؛ خطية عدم الإيمان، لينتصر الإيمان. وإذ اطمأن لوعد يوسف ألا يُدفن في مصر، بل أن تُحمل عظامه خارج مصر، وتوضع في قبر آبائه «سَجَدَ إِسْرَائِيلُ عَلَى رَأْسِ السَّرِيرِ»، فكان هذا إظهارًا مباركًا للإيمان، ولثقته في الله أنه لا بد أن يُتمم كل ما قال، ويحقق كل ما وعد به.
وأما العمل الثاني الذي قام به يعقوب الذي يلفت الروح القدس انتباهنا إليه في عبرانيين ١١ فنجده مُسجلاً في تكوين ٤٨. فمن خلال كل هذا الأصحاح نرى كيف أن الله ملأ كل أفكار يعقوب، وأن مواعيده كانت تسكن قلبه. لقد أخذ يقص على يوسف كيف ظهر له الله في لوز (تك٤٨: ٣)، ووعده بأن يعطيه أرض كنعان له ولنسله ملكًا أبديًا، وتحدث عنه كمن «رَعَانِي مُنْذُ وُجُودِي إِلَى هَذَا الْيَوْمِ»، وكمن «خَلَّصَنِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» (تك٤٨: ١٥، ١٦)، وهي طريقة أخرى لتعريفه بأن «إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي» (مز٢٣: ٦).
كان يعقوب على وشك أن يموت وأراد أن يُبارك ابني يوسف. كان ليوسف رغباته وتطلعاته بهذا الشأن؛ أن ينال منسى البكر البركة. وبالتالي وضع منسى عن يمين يعقوب، وأفرايم عن يساره حتى تستقر يد يعقوب اليمنى على رأس منسى، وشماله على أفرايم. لكن بالرغم من أن نظر يعقوب الطبيعي كان قد ضعف وخبا، إلا أن بصيرته الروحية كانت حادة. وعن عمد بدَّل يعقوب يديه «وَضَعَ يَدَيْهِ بِفِطْنَةٍ» (تك٤٨: ١٤)، أو كما تُقرأ في العبرية: “جعل يداه تفهم”. لاحظ أنه مكتوب صراحًة أن “إسرائيل” هو الذي فعل هذا: فكان الإنسان الجديد هو من يتصرف، وليس الإنسان العتيق “يعقوب” «بِالإِيمَانِ... بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ابْنَيْ يُوسُفَ». حقًا لم يكن هذا يتفق مع العيان ولا المنطق. كان مِن المستبعد أن هذين الأميرين المصريين الشابين - لأنهما كانا هكذا بالفعل- يتركا مصر أرض ميلادهما، ويهاجرا إلى كنعان! وكم كان مُستبعدًا أيضًا أن يصير كل منهما سبطًا منفصلاً. وكم هو من غير المحتمل أن الأصغر يكون أعظم من الكبير مِن حيث الأهمية والعدد، ويصير «جُمْهُورًا مِنَ الأُمَمِ» (تك٤٨: ١٩). كم كان مستحيلاً ليعقوب أن يتنبأ (بأي من الاستنتاجات البشرية) أنه بعد قرون عديدة، سيكون أفرايم ممثلاً لمملكة “إسرائيل” المُتميزة عن “يهوذا”. لكنه قد سمع الله، وارتكن إلى كلمته، وآمن بحتمية تحقيق مواعيده. يا له من استعراض عظيم للإيمان! ربما ضعفت العيون الطبيعية أما رؤية الإيمان فكانت ثاقبة. وفي ضعف جسده، تكملت قوة إيمانه.
بعد أن بارك يعقوب ابني يوسف، التفت إلى أبيهم وقال: «هَا أَنَا أَمُوتُ، وَلَكِنَّ اللهَ سَيَكُونُ مَعَكُمْ وَيَرُدُّكُمْ إِلَى أَرْضِ آبَائِكُمْ» (تك٤٨: ٢١). كم كان هذا مُستبعدًا تمامًا! كان يوسف الآن مُستقرًا ومُتأسسًا كليًة في مصر. لكن لم يعُد يعقوب سائرًا بالعيان. وكانت ثقته شديدة، وتمسَّك بقوة بإيمان راسخ بوعود الله بأن نسله لا بد أن يدخل كنعان، وتحدَّث بقلب ملؤه اليقين.
لقد قدَّم المشهد الأخير (المُصوَّر في تكوين ٤٩) ذروة ملائمة ومُبينة لقوة نعمة الله، حيث اجتمعت العائلة بأسرها حول البطريرك الذي يدنو من الموت، ليُنبئ كل واحد من بنيه بما سيأتي عليه في آخر الأيام، ويُباركهم واحدًا تلو الآخر.
في كل حياته المبكرة، وفي منتصف عمره كان يعقوب مشغولاً فقط بنفسه؛ أما في النهاية فهو مشغول فقط بالآخرين.
في الأيام الغابرة كان مشغولاً بالأساس بالتخطيط لأمور الزمان الحاضر؛ أما الآن (انظر تكوين٤٩: ١) فلم يفكر في شيء غير أمور المستقبل!
وهنا نجد كلمة معبرة جدًا: «لِخَلاصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ» (تك٤٩: ١٨). في بداية حياته كان “الانتظار” أمرًا غريبًا على طبيعته: فبدلاً من انتظار الله ليُتمِّم له الوعد بالبركة، سعى لأن يحصل عليه بنفسه. وهذا ما حدث أيضًا في موضوع الأجرة التي عيَّنها له لابان، وأما الآن فقد تعلم أصعب درس على الإطلاق؛ لقد علَّمته النعمة الآن كيف ينتظر، والذي ابتدأ عملاً صالحًا في يعقوب تمَّمه وكمَّله. في النهاية انتصرت النعمة، وأضاء النور الإلهي ظلمة مساء نهاية حياته. يا ليت الرب يُعمق عمل نعمته فى الكاتب والقارئ جميعًا «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عب١٢: ١)!