بلا شك أن الأتقياء متميزون عن الأشقياء، والمُخلَّصين عن الهالكين، والتائبين عن الخائبين. فلقد ميَّز الرب تقيّه. وما أعظم البركات التي ميَّز بها الرب شعبه وخاصته، بل في كل عصر وتدبير نستطيع أن نلمح ذلك جليًا، ولِمَ لا والرب هو الذي قصد لنا ذلك. هل يوجد مَن يقول له ماذا تفعل، أو مَن في قدرته أن يردّ يده. وقد رأينا ذلك مرارًا في تاريخ الشعب القديم، فلم يقدر لا حقد بالاق، ولا سحر بلعام، ولا دنس موآب، ولا كبرياء عماليق، ولا شراسة أدوم، ولا فساد وضعف الشعب نفسه، أن يمنع البركة. فصلاح الله وجوده لهو أقوى من أي شيء آخر يقف في طريق البركة. ومن كلمة الله المباركة نتأمل في بعض الأمور التي تميَّز بها التقي وهي قريبة جدًا منه:
(1)
الرَّبّ: «قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ» (مز34: 18)
على رأس القائمة يأتي الرب الذي هو قريب جدًا للمؤمن. وأي شيء يُطمئن القلب الخائف والمُتَحَيِّر قدر قرب الرب له؟ وأي شيء يشفي القلب المنكسر ويجبره سوى الرب صاحب اليد الحلوة والرقيقة؟ ونستطيع أن نُدرك قُرب الرب لنا من خلال كلمته الصادقة ووصاياه الأمينة والتي لا يجب أن تُحرم منها نفوسنا يومًا، لذا نستمع لصاحب أطول مزمور يقول: «قَرِيبٌ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَكُلُّ وَصَايَاكَ حَقٌّ» (مز119: 151)، وأيضًا بالاختبار لمسنا قول المرنم: «الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ» (مز145: 18). ألا يجعلنا كل هذا نصغي لتحريض الروح القدس لنا بفم النبي قائلاً: «اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ» (إش55: 6)، وأيضًا قول الرسول بولس: «لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. اَلرَّبُّ قَرِيبٌ» (في4: 5).
أخي ... أختي: لنتشجع لأن الرب قريب منا، يُحبنا، يحنو علينا ويترفق بنا، يحملنا ويحتملنا، يحتوي ضعفنا ويعالج عِللنا، يجبر الكسر ويعصب الجرح، يملأ الفراغ يسد العوز، يُعطي أكثر مما نطلب أو حتى نفتكر. أَليس هذا كافيًا للقلب؟
(2)
خلاص الرب: «لأَِنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ، لِيَسْكُنَ الْمَجْدُ فِي أَرْضِنَا» (مز85: 9)
والأمر الآخر القريب من التقي في زمان الضيق وأيام الشر هو خلاص الرب. وطبعًا لا نتكلم هنا عن الخلاص من دينونة الخطية، بل الخلاص الذي نختبره يوميًا، بل قل لحظيًا. إنه الخلاص من كل ما من شأنه أن يُتعب المؤمن ويُعطله عن الركض والسير خلف سَيِّده وغرضه الأسمى والأمجد. ونحن لا نتمتع فقط بخلاصه بل نتمتع به هو كالمخلص. ربما يعتري نفوسنا الخوف والفشل، لكن دعنا عزيزي القارئ نتشجع بالقول: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أحفظوا الْحَقَّ وَأَجْرُوا الْعَدْلَ. لأَنَّهُ قَرِيبٌ مَجِيءُ خَلاَصِي وَاسْتِعْلاَنُ بِرِّي» (إش56: 1).
(3)
بِرّ الرب: «قَرِيبٌ بِرِّي. قَدْ بَرَزَ خَلاَصِي، وَذِرَاعَايَ يَقْضِيَانِ لِلشُّعُوبِ. إِيَّايَ تَرْجُو الْجَزَائِرُ وَتَنْتَظِرُ ذِرَاعِي» (إش51: 5)
إن كنا نرى اليوم ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، تحت تأثير الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية، إلا أن هذا الوضع لن يستمر طويلاً، ولا ينبغي أن يسبب لنا اندهاشًا ولا ارتياعًا، كقول الحكيم: «إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر». ربما نالنا من الظلم جانب، فلنتذكر ذاك الذي ظُلم وأي ظلم، ولنتذكر أن بره قريب، ولن يدوم ولن يطول الوضع هكذا، بل سيأتي الذي يحكم بالبر ويقضي للمساكين بالإنصاف. ويا له عصرًا مليئًا بالسعادة والسرور، يوم يجلس المسيح على عرشه، ويمسك بصولجان القضاء، وذراعه تحكم له!
(4)
اسم الرب: «نَحْمَدُكَ، يَا اَللهُ نَحْمَدُكَ، وَاسْمُكَ قَرِيبٌ. يُحَدِّثُونَ بِعَجَائِبِكَ» (مز75: 1)
ثمة أمر آخر قريب من الأتقياء، هو اسم الرب. والاسم يُعَبِّر عن كل ما للشخص من صفات واستحقاقات. وهذا الاسم الحسن الذي دُعي علينا به نقترب إلى عرش نعمة أبينا، فتلقى كل طلباتنا وصلواتنا الرضى والقبول أمام الله أبينا. وأيضًا هذا الاسم الذي هو برج حصين للمؤمن، يجد فيه أمانه وسلامه، ويجد فيه المؤمنون كجماعة مركزًا لهم في اجتماعاتهم معًا لتقديم السجود والعبادة لله. وفي الكلمة المقدسة نجد الكثير والكثير من استحقاقات هذا الاسم الكريم. وما تحصَّل عليه المؤمنون أفرادًا وجماعة من بركات وفوائد يجعلهم أكثر غبطة من غيرهم، ومتميزين بهذا الاسم عن جميع الشعوب الذين حولهم. وقرب هذا الاسم لنا يعني عدم التخلي عنا أو التفريط بنا أو نسياننا. وكم هو معزٍّ لنا أن ندرك ذلك! وكم هو أجمل أن يؤثر ذلك علينا عمليًا في شتى جوانب الحياة! فالذي يُرعب الناس ويُخيفهم لا يحرك لنا نحن ساكنًا، وذا لأن هذا الاسم الغالي الكريم قريب منا. ولعلني أكون محقًا لو اقتبست قول نعمي: «الرَّجُلُ ذُو قَرَابَةٍ لَنَا» (را2: 20) لأشير به عن سَيِّدنا وولي نعمتنا الرب يسوع المسيح.
(5)
وعد الرب: «أَمَّا أَنْتُمْ ... فَإِنَّكُمْ تُنْبِتُونَ فُرُوعَكُمْ وَتُثْمِرُونَ ثَمَرَكُمْ ... لأَنَّهُ قَرِيبُ الإِتْيَانِ» (حز36: 8)
وهنا نأتي إلى شيء آخر قريب من المؤمن، وهو وعد الرب. والوعود الإلهية تُشكّل للمؤمن ضمانات إلهية تزين طريق اغترابه، وتملأها بالأمان، بل لا يوجد خطوة واحدة من خطوات سيرنا في برية ارتحالنا إلاّ وهي مدعمة بالمواعيد الإلهية، بل لا يوجد شيء أو ركن في حياتنا لا تُدمغه مواعيد إلهنا بالأمان والسلام والطمأنينة، لذا فلنتشجع ونفرح ونلقِ كل ما يعتمل في نفوسنا من ألم ووهن على نعمته المطلقة والمخصصة لحسابنا، فنختبر كل يوم من جديد قوة الوعود الحافظة لنا، فهي قريبة الإتيان (حز36: 8).
(6)
مقاصد الرب: «إِعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ» (رؤ1: 1)
المؤمن عندما يرى الشرير يعربد، والشر يطغى، ربما يقول لنفسه: هل من نهاية لكل هذا؟ و«حَتَّى مَتَى؟». ولكن لا بد أن تتم مقاصد الله، سواء من جهة البركة النهائية للأتقياء أو استئصال الشر من جذوره. وكل ما يحتاجه التقي في مثل هذه الأوقات هو الصبر والانتظار. ولاحظ قول الرب ليوحنا: «مَا لاَ بُدَّ»، أي أن هذا أمر مقرر من الله، ولا يمكن التراجع فيه. فيقول: «إِعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَبَيَّنَهُ مُرْسِلاً بِيَدِ مَلاَكِهِ لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا» (رؤ1: 1)، ويقول له أيضًا ما يشجعنا: «قَالَ لِي: لاَ تَخْتِمْ عَلَى أَقْوَالِ نُبُوَّةِ هذَا الْكِتَابِ، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ» (رؤ22: 10). ولا ننسى قول الرب بفم النبي: «قَدْ حَلَفَ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: «إِنَّهُ كَمَا قَصَدْتُ يَصِيرُ وَكَمَا نَوَيْتُ يَثْبُتُ» (إش14: 24)، وفي النهاية نقول ما قاله الرب شخصيًا لتشجيعنا: «طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ» (رؤ1: 3). ليعطنا الرب المعونة والرغبة الصادقة لدراسة الكلمة والتمسك بما جاء فيها من حق، لنعيش به، مرضين الرب في كل شيء.
(7)
الضيق: «لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي، لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ، لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ» (مز22: 11)
ربما كان هذا الأمر غريب أن نعتبره شيئًا يتميز به المؤمن، أعني به قرب الضيق. ولِمَ لا، وقد أصبح المؤمن يمتلك طبيعة إلهية تكره الشر، وتبغض الإثم، لذا يُكابد ضيقًا في هذا العالم. والمؤمن في ذلك نظير سيده الذي عاش هنا منفصلاً تمامًا عن الشر صانعًا فقط كل البر. وهكذا نحن حين نكره الشر ونحب البر ونقف في صف الله لا بد أن العالم يبغضنا بل ويضايقنا، لكن وإن كان ذلك كذلك فليكن، فالمعونة من لدن إلهنا ومن جبل قدسه تأتي منه «فِي حِينِهِ» (عب4: 16).
خالد فيلبس