أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يوليو السنة 2012
دراسة فى سفر النشيد - قراءة من بين السطور
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
إن سفر النشيد، بالإضافة إلى معانية الروحية العميقة في العلاقة الحبية بين النفس ومُخَلِّصها، وبالإضافة أيضًا إلى تطبيقه النبوي الدقيق على ما سيحدث في آخر الأيام، فإنه يحدثنا عن تاريخ هذه الأمة التي اختارها الرب، وأحبها؛ من البداية وحتى النهاية.  أي من دعوة الله لإبراهيم، وحتى مجيء المسيح بالمجد والقوة ليملك عليهم وعلى كل الأرض.  وهذه هي واحدة من روائع كلمة الله.  
وكنا قد عرفنا أن تاريخ هذه الأمة ينقسم إلى ست فترات، تماثل أقسام سفر النشيد الستة.  انتهينا في ما سبق من دراسة القسم الأول، الذي يحدثنا عن دعوة إبراهيم وفترة الآباء، ثم بداية تأسيس المملكة، وهذه الفترة الهامة انتهت بسبي الأمة إلى بابل نحو سنة 600 ق. م. ونواصل في هذا العدد الحديث عن تاريخ هذا الشعب كما نراه في سفر النشيد.
الحقبة الزمنية الثانية:
من السبي البابلي حتى ظهور المسيح بالجسد بينهم (ص2: 8 - 3: 5
)
هذا القسم يشغل نحو 600 سنة، من بداية أزمنة الأمم عام 600 ق. م تقريبًا، فأصبح الشعب تحت سيادة الأمم، ولغاية مجيء المسيح بالجسد إليهم.  وهو ينقسم بدوره (مثل القسم الأول) إلى جزئين: الأول هو الرجوع من السبي، وما تلاه؛ وهو ما نراه في الجزء الثاني من أصحاح 2 أي الآيات من 8-17؛ والثاني هو مجيء المسيَّا إلى الأرض، وهو ما نراه في الآيات الأولى من الأصحاح الثالث في الآيات من 1-5.
والمقابلات والمشابهات بين جزئي هذا القسم كثيرة:
فهو يعرف أين هي (2: 9)، بينما هي تبحث عنه (3: 1-4)؛ هو يطلبها (2: 10) وهي تطلبه (3: 1)؛ هو يقول لها “قومي يا حبيتي” (2: 10)، وهي تقول “إني أقوم” (3: 2)؛ هو يأتي إليها (2: 8، 9) وهي تجده (3: 4).  
ثم إن المشهد الأول في الخلاء، بينما المشهد الثاني في المدينة؛ الأول مشهد بالنهار، والآخر بالليل.
وأما بالنسبة للجزء الأول الذي ندرسه الآن فإنه يشتمل على نداء العريس لمحبوبته “قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي” (2: 10)، ويختم بقول المحبوبة لعريسها: “ارجع يا حبيبي وأشبه الظبي أو غفر الأيائل...” (2: 17).  
القسم الأول: الرجوع من السبي البابلي، وما تلاه                                (2: 8-17).

نقرأ في بداية هذا القسم عن الجبال والتلال، وهي في كلمة الله تشير إلى المصاعب والعقبات (زك4: 7؛ مت21: 21، 22).  لكن هذه لا شيء بالمرة أمام قدرة الرب، الذي من أمامه تقفز الجبال كالكباش، والآكام مثل حملان الغنم (مز114: 4-6).  وبالنسبة لقصة سفر النشيد، فإن الصعوبة هنا كانت في الأمة الكلدانية، تلك الأمة المُرَّة القاحمة، السالكة في رحاب الأرض لتملك مساكن ليست لها (حب1: 6).  لكن الرب أزال تلك المملكة المعادية لشعبه في يوم واحد (دانيآل 5)، واستبدلها بمملكة الفرس، التي أظهرت تعاطفًا واضحًا مع ذلك الشعب.  وليس ذلك فقط، بل لقد نَبَّه الرب روح ملك فارس الوثني، فأصدر نداءه الشهير في كل مملكته لمن يريد أن يرجع من الشعب، لبناء بيت الرب في مكانه، كما ساعفهم بالمواد اللازمة.  والشعب رجع إلى الأرض، وبنوا البيت، فتمت كلمات الرب عن كورش: «أنا أسير قدامك، والهضاب أمهد» (إش45: 2).  فأين هي المصاعب إذًا والمعوقات؟ أين هي الجبال والتلال؟ حقًا لقد قفزت مثل الكباش ومثل حملان الغنم!
وأما عبارة «حبيبي هوذا آتٍ طافرًا .. قافزًا» (2: 8)، فإنها تفيد سرعة تدخل الرب لصالحهم.  وهذه يمكن أن تُفهم بطريقتين: الأولى أن الفترة التي سمح الرب بها في السبي البابلي لم تكن طويلة.  كتب آساف - بمناسبة السبي البابلي - مزمورًا حزينًا، ومن ضمن ما قاله: «آياتنا لا نرى. لا نبي بعد. (ثم أضاف بأسى قائلاً:) ولا بيننا من يعرف حتى متى» (مز74: 9).  لكن بعد سبعين سنة فقط جاءتهم البشرى بالرجوع إلى الأرض، وبناء الهيكل.  ثم إنه عندما انتهت السبعون سنة التي تكلم عنها إرميا، وفهم دانيآل النبي ذلك، صام متضرعًا معترفًا بخطية شعبه. وعند ابتداء تضرعه خرج الأمر! وأتى الملاك فورًا ليخبر دانيآل به (دا9: 1-23).  حقًا كما قال الرب: «أنا الرب. في وقته أُسرع به» (إش60: 22).
وعبارة «طافرًا... قافزًا» (ع8) تُذَكِّرنا بقول النبي دانيآل عن الملاك جبرائيل الذي أتى يخبره بصدور الأمر لتجديد أورشليم وبنائها أنه كان “مُطارًا واغفًا” (دا9: 21)، بمعنى أنه كان طائرًا، يكاد لا يلمس الأرض من السرعة.  وأما عبارة «على الجبال .. على التلال»، فكما ذكرنا الآن تُشير الجبال والتلال إلى الصعوبات التي قابلت البقية الراجعة. فلم يكن الأمر سهلاً، بل قابلتهم التحديات المتنوعة من كل حدب وصوب. وسفرا عزرا ونحميا يحدثاننا عن ذلك.  وفي نبوة زكريا أيضًا نجد الإشارة إلى ما صادف زربابل والراجعين من السبي من عقبات كثيرة مُشَبَّهة بالجبال والتلال. لكن أتتهم كلمات النبي المشجعة: «من أنت أيها الجبل العظيم؟ أمام زربابل تصير سهلاً!» (زك4: 7).
وفي تمام الموافقة مع ما سبق، نجد أن هذه الأعداد تحدثنا عن مُضي الشتاء (ع11).  وبرد الشتاء من المنظور الروحي يتحدث عن رفض الرب لشخص، وغضبه عليه، وَقُدَّام برده من يقف؟ (مز147: 17 انظر يو10: 22).  والهروب من الأرض قد يكون في الشتاء (مت24: 20)، ولكن العودة للديار يناسبه فصل الربيع، الذي يلي زمهرير الشتاء.  ونحن نعلم أن خروج الشعب من أرض مصر كان في شهر أبيب (تث16: 1)، وهو بداية فصل الربيع، وكذلك دخولهم إلى أرض الموعد (انظر يش5: 10).  ومن نبوة إشعياء نتعلم أن إنقاذهم من بابل إنما كان تكرارًا لإنقاذهم السابق من أرض مصر (إش51: 9-14).  ورجوعهم من السبي البابلي، وإن لم يكن لدينا الدليل على أنه حدث في فصل الربيع، فعلى الأقل للربيع هنا مدلوله الأدبي؛ فإن النبي إرميا، وهو يسجل ضياع أملهم قبيل السبي قال: «مضى الحصاد، انتهى الصيف، ونحن لم نخلص» (إر8: 20)؛ وها عند عودتهم إلى الأرض بعد السبي، يستخدم الوحي الصورة المعاكسة فيقول إن «الشتاء قد مضى .. الزهور ظهرت في الأرض»!  إنها فرصة ثانية بالنعمة لهذا الشعب، فهل سيستفيدون منها، أم ستضيع منهم كما ضاع منهم العديد من الفرص السابقة؟  سوف نرى.
وعبارة «قومي.. وتعالي» التي يكررها الحبيب هنا مرتين في كلامه مع المحبوبة (ع10، 13)، تذكرنا بعبارات كثيرة وردت في نبوة إشعياء عن الرجوع من السبي، وتكررت مرتين، مثل: «انهضي انهضي» (إش 51: 17)؛ وأيضًا «استيقظي استيقظي» (إش52: 1).  وأيضًا «اعتزلوا اعتزلوا» (إش52: 11 مع رؤ18: 4).  ولا ننسى عبارة «عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم»، التي يفتتح بها الكتاب الثاني من سفر إشعياء (إش40: 1)، وهذه كلها تحدثنا عن رجوع الشعب من السبي البابلي.
ثم تتحدث العروس عن حبيبها فتقول: «هوذا واقف وراء حائطنا، يتطلع .. يُوَصْوِص».  إن ذلك الحائط يُذَكِّرنا بالسور الذي بناه الراجعون من السبي أيام نحميا، هذا السور الذي – نظرًا لأهميته - تنبأ عنه دانيآل قائلاً: «يعود ويُبنى سوق وخليج (أي شارع وسور) في ضيق الأزمنة» (دا9: 25)، إشارة إلى عودة بناء أورشليم، الأمر الذي تم في أيام نحميا (انظر سفر نحميا، ولا سيما 6: 1، 3؛ 7: 1، 4؛ 12: 27، 43).  وكم سُرَّ الرب بهؤلاء الذين بنوا السور، وكأنه واقف يرقب عملهم البسيط في مظهره، الذي له أعظم التقدير في عينيه!
ثم إن تعبير “الكوى” و“الشبابيك”، في القول: «يتطلع من الكوى، يوصوص من الشبابيك»، تفيد أن أحد الطرفين يمكنه رؤية الطرف الآخر، بينما يتعذر على الأخير رؤية الأول.  وفي حالتنا ليس من العسير أن نفهم أن الرب كان يرى البقية، وكان مسرورًا كل السرور بعملهم هذا، بينما هم لم يمكنهم أن يروه.  وتصوير فرحة الرب هذه مذكورة في زكريا 4 حيث يقول النبي: «لأنه من ازدرى بيوم الأمور الصغيرة.  فتفرح أولئك السبع (ويرون الزيج بيد زربابل- وهو الخيط أو المطمار المستخدم للبناء)، إنما هي أعين الرب الجائلة في الأرض كلها» (زك4: 10).  نعم كانت عينا الرب تتطلع باهتمام وسرور إلى هذه البقية الراجعة من السبي، وإلى ما كانت تفعله.
وكما ذكرنا، مع أن الرب كان يراهم، فإنهم هم لم يقدروا أن يروه.  وكلمة الله تذكر لنا سبب ذلك، فلقد بدأت أزمنة الأمم، وعرش الرب لم يعد في أورشليم، والهيكل الذي بُني على عهد زربابل كان خاليًا من التابوت، وبالتالي لم تكن هناك سحابة المجد (أو الشكينة)، التي ترمز إلى حضور الرب وسطهم.  بكلمات أخرى لم يكن هناك عرش سياسي يجلس عليه واحد من نسل داود في أورشليم (بل إن الرب دُعي في هذه الفترة “إله السماوات” – انظر نحميا 1: 4، 5،.. إلخ. وكأنه انسحب إلى السماء تاركًا عرش الأرض للأمم، إلى حين – لو21: 24). وأيضًا لم يكن هناك عرش روحي (التابوت) في الهيكل، يجلس عليه رب الجنود على الكروبيم (2صم6: 2).
ورغم تَعَذُّر رؤية شخص الرب (ولو في الظلال) من تلك البقية، فقد أمكنهم أن يسمعوا صوته متكلمًا إليهم (عن طريق الأنبياء)، وهو ما تذكره العروس هنا (ع8).  وكان قصد الرب من عدم رؤيته - ولو في الظلال - أن يُشَوِّقهم إلى مجيئه في ملء الحقيقة في ملء الزمان، كما تنبأت عنه جميع النبوات، ولا سيما نبوة ملاخي آخر نبوات العهد القديم (ملا3: 1).  والمحبوبة لم يمكنها أن ترى حبيبها، إلا في الجزء الثاني من هذا القسم الثاني، وهو يشير إلى تجسد ابن الله، كما سنرى في حينه.
والإشارة في ع12 إلى صوت اليمامة يذكرنا بقول إرميا إن «اليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما» (إر8: 7).  فالطيور تحفظ مواعيد العودة إلى موطنها الأصلي، وهكذا فإن الرب هنا يُحَرِّض شعبه بالعودة والرجوع إلى الأرض، مذكرًا إياهم باليمامة!
ويقول العريس أيضًا: “بلغ أوان القضب”، أو بحسب ترجمة داربي: “بلغ أوان الترنيم”.  ودائمًا يرتبط الرجوع بالترنيم، بل بالفرح والرقص (لو15: 23-25). وكم هو مناسب أن تفرح تلك البقية الراجعة، والتي كان لسان حالها ما ورد في ترنيمة المصاعد: «عندما رد الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين. حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا ترنمًا. حينئذ قالوا بين الأمم: إن الرب قد عَظَّمَ العمل مع هؤلاء. عَظَّمَ الرب العمل معنا وصرنا فرحين» (مز126: 1-3).
وأما العبارة الرقيقة «يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل»، والتي تدل على أن الحمامة الضعيفة تجد سترها وأمنها في شقوق الصخر؛ ومن يقوى عليها وهي في هذا المكان؟ فإن هذا يذكرنا بموقف عظيم للجماعة الراجعة من السبي، دل على فطنتهم الروحية.  فأولئك الراجعون، وقبل أن يبنوا الأسوار لحماية المدينة من الأعداء، بل وحتى قبل أن يبنوا بيوتهم ليسكنوا فيها ويستريحوا، اهتموا بأن يبنوا المذبح.  يقول الوحي: «أقاموا المذبح في مكانه، لأنه كان عليهم رعب من شعوب الأراضي، وأصعدوا عليه محرقات للرب، محرقات الصباح والمساء» (عز3: 3).  وفي حِمى المحرقة أصبحت هذه البقية الأمينة في أمان تام، وقلوبهم في راحة كاملة، فأمكنهم أن يقولوا مع المرنم: «العصفور أيضًا وجد بيتًا، والسنونة عشًا لنفسها، حيث تضع أفراخها، مذابحك يا رب الجنود، ملكي وإلهي» (مز84: 3).
ولكن في وسط هذا المشهد الجميل نستشعر خطرًا تُعَبِّر عنه العبارة: «خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة الكروم، لأن كرومنا قد أقعلت (أي بدأت تتفتح)».  فبينما عادت الأفراح، وبينما تلك الأفراح ما زالت غضة وطرية، ظهرت الثعالب الماكرة، التي من شأنها أن تفسد تلك الأفراح. وسفر نحميا ونبوة ملاخي خير شاهد على ذلك.  وإن كانت صفات تلك الثعالب الصغار واضحة، ولا سيما في سفر ملاخي، ولكن تسميتهم نراها بكل وضوح في الأناجيل في جماعة الفريسيين.  ويخبرنا التاريخ أن نشأة مذهب الفريسيين كان في فترة الصمت بين نبوة ملاخي، وظهور المسيح بالجسد على الأرض (القرن الثاني قبل الميلاد).  
ونتذكر أن الرب استخدم هذا التشبيه عن هيرودس، باعتباره  الثعلب الكبير (لو13: 32).  والثعلب بخطف الفراخ التي ليست له، ويهاجم من يتعرض له. وهذا ما فعله هيرودس، الذي خطف زوجة فيلبس أخيه، وسَجَن يوحنا المعمدان، وأخيرًا قطع رأسه ليُرضي راقصة فاجرة!
وإن كان هيرودس هو الثعلب الكبير، فإن الفريسيين الذين نقلوا إلى المسيح رسالة هذا الثعلب الكبير، كانوا هم “الثعالب الصغار”، وهي حقًا مفسدة للكروم (أي للأفراح الروحية ).  فلا غرابة أن شبههم الرب في لوقا 15 بالابن الأكبر الذي أراد إفساد الفرحة بعودة الابن الأصغر (العشارين والخطاة الذين كانوا يدنون من الرب ليسمعوه).  
وفي ختام هذا الجزء تتكلم المحبوبة في ع16، فتقول: «حبيبي لي، وأنا له».  ذلك لأن أشياء كثيرة، قيِّمة وعظيمة، ضاعت من تلك البقية، وما عادت بين أيديهم في ذلك الوقت: فلا تابوت، ولا شكينة، لا أوريم أو تميم (قارن عز2: 59-63؛ نح7: 61-65)، لكن كان هناك شيء أعظم من الكل، وكان الأتقياء يصبون له، ويعلمون أنهم يملكونه بالفعل، وهو «حبيبي لي».  
وأمام حالة الرياء الديني الذي تفشَّى في الراجعين، بسبب سطوة الفريسيين عليهم، فإن الأتقياء والمخلصين منهم تاقوا لظهور المُخَلِّص، فخاطبوا الرب من القلب، كما نفعل نحن أيضًا الآن عندما لا نجد أملاً يُرجى في الظروف أو البشر، ونمَلّ من ريائهم، فنقول للرب: «ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشعبة» (2: 17).  وبمجيئه فإنه حتمًا سيفيح النهار وتنهزم الظلال.  نعم، تعقدت المسالك أمام تلك البقية الراجعة، وما عاد لهم أي أمل سوى في مجيء المسيح، وهو ما كان النبي ملاخي، آخر أنبياء العهد القديم، قد ألمح إليه.  وفي هذا نحن عن يقين نشاركهم – في هذه الأيام - الاختبار ذاته.
(يتبع)
يوسف رياض

يوسف رياض