عندما نتفكر بشأن رواية الكتاب المقدس عن نوح وهو يبني الفلك (تك6-9)، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا صورة حيوانات تدخل الفلك اثنين اثنين. ولكن هذا الحدث المدهش جاء تتويجًا لجهود أكثر من قرن من العمل المضني الشاق، كان فيه نوح وعائلته موضوع سخرية وهزء جيرانهم وكل مَنْ حولهم.
ونحن لا نعرف الكثير عن نوح قبل أن يدعوه الله لبناء أكبر سفينة عُرفت حتى ذلك الوقت. ترى ماذا كان يمكنه أن يفعل بدون التكنولوجيا والمعدات المتوافرة حاليًا؟! إنه لأمر يفوق الخيال!!
خلفية الأحداث
لنفهم حتمية هذا المشروع يلزمنا أن نسترجع قليلاً تاريخ هذه الفترة. لقد خلق الله الكون، ووضع كوكبنا الأرض في مساره. ثم خلق آدم وحواء، ومنحهم جنة الفردوس ليعيشا في سعادة. ولكنهما عصيا الله، وأكلا من الثمرة المُحرَّمة. وكسرت الخطية علاقة الشركة الكاملة التي كانت له معهما، ونتج عن ذلك أن وُلد أولادهما وارثين للخطية، وسيف حكم الموت مُسلَّط عليهم.
وبمرور السنين، تزايدت أعداد البشر، وجنحوا إلى النجاسة والشراسة، والظلم والوثنية، مما مكَّن الشيطان من بسط نفوذه على أذهان البشر وأفعالهم. وكان الروح القدس يجاهد مع الجنس البشري ليستحضرهم رجوعًا إلى الله. ولكن استجابتهم كانت ضئيلة للغاية ... وسارت الحالة إلى أسوأ. وأخيرًا قرر الله: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً» (تك6: 3). لقد حزن الله حزنًا عميقًا جراء شر الإنسان، ووضع لهم مهلة 120 سنة ليتوبوا ويرجعوا إليه، وإلا سيهلكهم.
هنا البداية الحقيقية للقصة، حيث يؤكد الوحي: «وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ ... كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارًّا كَامِلاً فِي أَجْيَالِهِ. وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ» (تك6: 8، 9). ورغم أن هذه العبارة ليست تقريرًا مطولاً عن مجهودات نوح وفضائله، إلا أننا لا نتصور تقريظًا أفضل من هذا! نحن لا نعرف الكثير عن نوح، ولكننا نعرف أنه انفصل عن الممارسات الشريرة لأناس ذلك الزمان، وقدَّم ذبائح مقبولة، ممارسًا بذلك ما أعْلَم الله به أصلاً آدم وعائلته (تك4: 4).
«وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ»، أي أنه كانت له شركة معه يومًا فيومًا، كأمر ألفه واعتاد عليه في حياته اليومية. وعرف الله قلب نوح، ودعاه بارًا، وقرر أن يباركه.
عمل العائلة
حذر الله نوح بشأن الطوفان الآتي؛ الدينونة القادمة التي ستكتسح كل المفسدين الذين امتلأوا ظلمًا وعنفًا. وأمره أن يبني فُلكًا بحريًا يكفي للثبات في وجه أكبر عاصفة ضربت هذا الكوكب. وقد أُعطيَّ نوح تعليمات مختصرة لتركيب الفلك: كان سفينة مكونة من ثلاثة طوابق، ارتفاعها نحو 15 مترًا، وطولها نحو 150 مترًا، وعرضها نحو 25 مترًا. وأخبره الله بنوع الخشب الذي يستعمله، وكيف يطليه بالقار من داخل ومن خارج، وكيف يجعل فيه مساكن للحيوانات، وأين يضع بابه الوحيد في جانبه. ولا يمكننا أن نتخيَّل كيف أمكن لنوح الشروع في مثل هذا المشروع، بمساعدة ثلاثة رجال فقط؛ بنيه! فكان ثمة كميات هائلة من الأخشاب ينبغي أن تُقطَّع وتُشكَّل، ومن ثم يُبنى المركب.
ولأن إيمان نوح صدَّق ما أخبره به الله من جهة الدينونة العتيدة، حتى لو كانت شيئًا غير مسبوق، شرع على الفور في مشروع البناء الضخم.
هل تستطيع أن تتخيَّل اجتماع العائلة بينما يُخبرهم نوح عن خطط الله بشأن ما سيحدث، وعن مستقبلهم بعد بنائهم الفلك. أظهر نوح إيمانًا فائقًا. وأظهرت العائلة إيمانها بالاشتراك في العمل. فلا نلمح أثرًا لشكوى من جانب زوجته، ولا من جانب بنيه أو زوجات بنيه.
وهناك بعض الدروس النافعة لنا لنتعلَّمها من حياة نوح وعائلته:
ودعونا نبدأ بـ...
الآباء
كان نوح قائدًا روحيًا، وتأثيره على عائلته كان إيجابيًا حتى إنهم تبعوا مثاله بقلوب راغبة. يحتاج الآباء أن يدعموا المقياس الروحي بالمثال الصالح. فلا يمكننا توقع بركة لعائلاتنا إذا كنا لا نصدق الله ولا نُطيعه. وهذا يعني حتمية أن يقرأ الآباء الكتاب المقدس ليعرفوا تعاليم الله لهم ولعائلاتهم «وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ» (عب11: 6).
ثم نأتي إلى دور ...
الزوجات:
الزوجات ينبغي أن يخضعن لرجالهن، ويبدين استعدادًا للعمل معهم حتى لو كانت المأمورية شاقة (أف5: 22-24). وخضوع الزوجة لا يضعها في مرتبة أدنى، كما لو كانت تفتقر إلى الذكاء أو القدرات، بل هو بالأحرى خضوع للدور المنوط من قبل الله لكل من الرجال والنساء بعد السقوط، كما يُعلّمنا الكتاب المقدس (تك3: 16-19). وعندما تقبل المرأة ترتيب الله، لها أن تتيقن من حصولها على بركته.
أبناء نوح وكناته
لقد عملوا معه بنفس راضية، واتبعوا التعليمات التي أعطاها الله لأبيهم. لم يكونوا أطفالاً، ولكن يبدو أنهم نشأوا على طاعة والديهم، ومن ثم كان طبيعيًا أن يقبلوا ويُداوموا على قبول قيادة والدهم «رَبِّ الْوَلَدَ فِي طَرِيقِهِ، فَمَتَى شَاخَ أَيْضًا لاَ يَحِيدُ عَنْهُ» (أم22: 6).
استمرت العائلة في العمل على الرغم من ازدراء الناس المحيطين بهم. لقد استخدم الله بناء الفلك لتحذير العالم الفاسد الشرير، وليمنح الرجال والنساء فرصة للتوبة، ولقبول طريق الله للخلاص من الدينونة القادمة. ويُخبرنا عبرانيين11: 7 أنه: «بِالإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكًا لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثًا لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإِيمَانِ». ويقول الرسول بطرس: «حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إِذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ» (1بط3: 20).
الأخبار السارة
تُعطينا قصة نوح والفلك تصويرًا جميلاً للإنجيل. فالعالم اليوم فاسد، ويمقت الله. لقد امتلأ بالظلم والشر، والله لا يُخطط أن يُهلك العالم بالطوفان، كما فعل في أيام نوح، ومع ذلك فالدينونة مُعلَّنة. ورسالة الإنجيل مثل الفلك؛ طريق االله للخلاص من الدينونة العتيدة. ولعل هذا هو السبب لمجيء الرب يسوع إلى العالم. لقد دفع أجرة خطايانا، واحتمل دينونتنا عندما تألم ومات على الصليب. وتمامًا كما أن نوح وعائلته دخلوا الفلك ليحتموا من الدينونة، هكذا نحتاج نحن أن نكون «في المسيح» الذي هو “فلك الخلاص”. كيف يكون ذلك؟ الإجابة نجدها في يوحنا1: 12، 13 «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ اللَّهِ».
ومثل نوح نخلص بتصديق كلمة الله، وقبول طريقه للخلاص. فعندما نتوب عن خطيتنا، ونقبل يسوع مخلِّصًا وربًا، نُولد في عائلة الله، ونحتمي ونأمن فيه إلى الأبد. أما الذين يرفضون عرض الله للخلاص، فقد دينوا بالفعل لأنهم رفضوا أن يؤمنوا ويخلصوا: «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ» (يو3: 18).
ونحن الذين تبررنا بواسطة عمل المسيح، ينبغي أن نكون أمثلة حية لوعده بالخلاص، ونُظهر بحياتنا أننا ننتمي إليه، وننتهز كل فرصة لإخبار الآخرين لكي يدخلوا إلى الفلك. دخلت العائلة ذات الثمانية أفراد إلى الفلك، ثم أغلق الله الباب. والذين رفضوا الدخول وجدوا أن الفرصة قد ضاعت؛ لقد هلكوا. ويا له من تحذير للرافضين إرسالية الإنجيل!
ستنصب الدينونة على الرافضين دعوة الرب يسوع للخلاص اليوم، تمامًا كما حاقت بالرافضين دعوة نوح للخلاص في الفلك. ولن نكون بأمان إلا إذا تبنا عن خطايانا، وطلبنا من الرب يسوع أن يغفر لنا على أساس ذبيحته الكفارية على الجلجثة.
حمى الفلك اللائذين به من العاصفة، وبعد شهور استقر على جبل أراراط (تك8: 4)، وأخبر الله نوح وعائلته أن يخرجوا ويبدأوا حياة جديدة. والذين يقبلون الرب يسوع مخلصًا، هم أيضًا يبدأون حياة جديدة. وبمعونة وقوة الروح القدس الذي يحيا في قلب كل مؤمن، يغلق الباب دون طريق الحياة القديمة، ويصير طابع العيش هو العيش لله: «إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا» (2كو5: 17).
ماذا عنك عزيزي القارئ؟
إذا لم تكن قد فعلت ذلك، فالآن هو الوقت لتقرر أين ستكون في الأبدية: «فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصاً هَذَا مِقْدَارُهُ؟ قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ، ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا (سَمِعُوُه)» (عب2: 3).
إيان تيلور