تحدثنا في العدد السابق عن إله المساكين، وعرفنا أن هذا الإله هو
1. إله اهتمامه الأول وشغله الشاغل هو المساكين:
2. إله هو معين المساكين والمحامي عنهم:
3. إله لا يصغر المسكين أبدًا في عينيه.
ونواصل في هذا العدد المزيد من الأفكار عن إله المساكين هذا، فنقول:
4. إله قد يتأني كثيرًا على المساكين، لكنه لا ينساهم أبدًا:
هذا ما قد يحير المساكين، أناة الله الحكيم! إنهم يصرخون وهو كأنه لا يسمع! لكن حاشا له! ”أوغارس الأذن لا يسمع؟“ بلى. إن أناته كانت وما زالت سبب حيرة القديسين على مر العصور، بل وأحيانًا سبب عثرة للبعض منهم، بل وستظل أسرارها غامضة لن تنكشف إلا أمام كرسي المسيح، لكن مع هذا تؤكد لنا كلمة الله أنه يسمع زعقة البائسين ويشعر بضيقتهم ويتذوق مرارة أنفسهم حتى وإن كان يتأنى في استجابته لهم. لقد تأنى الرب على داود كثيرًا حتى ظن في وقت ما أن الرب قد نسيه أو حجب وجهه عنه. لكن عندما جاء الوقت المحدد أنصفه الرب سريعًا، تمامًا كما علمنا السيد قائلاً: «أ فلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً، وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعًا» (لو18: 7). لذلك كتب داود يقول عنه: «ذَكَرهم، لم ينسَ صراخ المساكين. لأنه لا ينسى المسكين إلى الأبد، رجاء البائسين لا يخيب إلى الدهر» (مز9: 11و 18). نعم أحبائي: هناك نهاية لآلام المسكين، يحدد وقتها وشكلها ملك الدهور. لكن إلى أن يحين وقتها سيظل الله هو إله المساكين، معهم بكل حبه وعطفه. لذلك أقول لكل مسكين: إياك أن تطرح ثقتك في إله المساكين! إن رجاءك فيه لن يخيب أبدًا.
لكن أريد أن أؤكد شيئًا آخر في غاية الأهمية، ألا وهو أن أناة الله على المساكين ليست هي أسلوبه الدائم، فهناك أمور هو يرى - طبقًا لحكمته التي لا تُفحص - أنها ينبغي أن تحسم سريعًا، لذلك نجده يستجيب فيها بسرعة لا تخطر على البال! فها هو داود نفسه يكتب عنه عندما خلصه الرب من مأساة جت فيقول: «هذا المسكين صرخ والرب استمعه ومن كل ضيقاته خلصه» (مز34: 6). وقد خلصه الرب في الحال كما نعلم من 1صموئيل 21؛ مزمور34.
هناك نهاية لآلام المسكين، يحدد وقتها وشكلها ملك الدهور. لكن إلى أن يحين وقتها سيظل الله هو إله المساكين، معهم بكل حبه وعطفه5. إله يرتفع بالمسكين إلى ذرى المجد!:
إنه غني وقدير ومطلق في سلطانه، لذلك لا تعوقه مسكنة المسكين - مهما كانت - عن أن يرتفع به إلى ذرى المجد! هذا ما عرفته حنة عن إلهها فقالت عنه: «يقيم المسكين من التراب. يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء، ويملكهم كرسي المجد. لأن للرب أعمدة الأرض وقد وضع عليها المسكونة» (1صم 2: 8). إنها عرفت بل واختبرت في تجربتها المرة إلى أي حد يستطيع الله أن يرفع المسكين والفقير، إنه يرفعه من الجب، من المزبلة، لا ليصل به إلى سطح الأرض، وهذا كل ما يتمناه المسكين في تجربته، بل ليصل به ليملكه كرسي المجد!! وإن سألنا حنة: كيف يفعل هذا؟ تجيبنا بالقول: «لأن للرب أعمدة الأرض، وقد وضع عليها المسكونة»، أي لأنه هو المالك والملك، فهو حر ليفعل ما يشاء، ويعطي ما يشاء لمن يشاء. ولهذا يتغنى أيضًا كاتب مزمور 113 فيقول عن الرب: «من مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي؟». لكن الجميل أن سكناه في الأعالي لا تفصله عن مساكين الأرض، كما نفهم من بقية العبارة، إذ يقول بعدها: «الناظر الأسافل في السماوات والأرض، المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة ليجلسه مع أشراف، مع أشراف شعبه». وفي مزمور 107: 41، 42 يقول: «يعلي المسكين من الذل.. يرى ذلك المستقيمون فيفرحون وكل إثم يسد فاه».
6. إله عندما جاء إلى العالم جاءه مسكينًا وفقيرًا:
ماأكثر المزامير التي تكلمت عن ربنا يسوع في حياته على الأرض باعتباره المسكين. فهو صاحب الصلاة الشهيرة التي سجلها الوحي بروح النبوة في مزمور 102، ووضعها تحت هذا العنوان: «صلاة لمسكين إذا أعيا وسكب شكواه قدام الله». فهل هناك شرف للمساكين أعظم من هذا الشرف؟ وهل يشعر القديس المسكين بالنقص بسبب مسكنته، بعد ما عرف أن خالقه عندما أتى للأرض دخلها كأفقر مسكين، إذ دخلها في مذود! وعاش فيها بلا مال ولا مسكن! وختمها معلقًا على صليب بلا ثوب! وخرج منها في قبر مستعار لم يكن يملكه!!
هل يشعر القديس المسكين بالنقص بسبب مسكنته، بعد ما عرف أن خالقه، عندما أتى للأرض،دخلها وعاش فيها،وخرج منها كأفقرمسكين؟!!
7. إله اختار المساكين لإتمام السر العظيم!!
بل إنه اختار المزدرى وغير الموجود في نظر العالم لأسمى مقاصده!! فعندما أعلن بولس عن اختيار الله لأناس كان قد سبق وعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه، يقول: «فانظروا دعوتكم أيها الإخوة، أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد، ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم، والمزدرى وغير الموجود، ليبطل الموجود» (1كو1: 26-28). واسمع كيف يوبخ يعقوب من كانوا يحابون الأغنياء ويهينون الفقراء:
«اسمعوا يا إخوتي الأحباء: أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان، وورثة الملكوت الذي وعد به للذين يحبونه؟» (يع2: 5).
انظر مثلا مزامير 22، 40،69، 41، 69، 70، 88، 102، 109.
هذا هو الله، وهذا هو موقفه من المساكين. أ فلا يكون هو بحق إله المساكين؟!
وقد تقول لي: إن كان هو هكذا من نحوهم، فلماذا يسمح من الأصل ببؤسهم وفقرهم؟ أقول لك بكل حزم وقوة: حاشا له أن يكون هذا قصده، حاشا له أن يكون هو سبب فقرهم وبؤسهم. ارجع لسفر التكوين وانظر كيف خلق آدم؟ وماذا أعد له يوم خلقه؟ لقد خلقه على صورته وأعد له جنة! إنه لم يخلقه مسكينًا، ولا قصد له أن يكون بائسًا. لكنه للأسف استقل عن إلهه، فأخضع الخليقة كلها للبطل، وجعل نسله فيها بؤساء. إن المسكنة والبؤس جلبهما أدم على نفسه وعلى نسله بانفصاله عن إلهه. ومع هذا فالله لم يتخل عنهم في بؤسهم، بل إلى أن يأتي اليوم الذي فيه تعتق الخليقة من عبودية الفساد، ويرجع للإنسان المجد الضائع والغني المفقود، سيظل الله لنسل آدم إله المساكين.
وقد تقول لي إن كانت توجد للمساكين نجاة عند إله النجاة، بل إن كان الله هو إله المساكين، فلماذا تكتظ الأرض بالمساكين الذين لم يجدوا النجاة حتى الآن؟ أقول لك لأنهم ما زالوا مصرين على العيشة بالاستقلال عن إله النجاة. قد يطلبون نجاته، لأنهم يعلمون أنه يقدر أن ينجي، لكنهم لا يريدونه هو! بل ربما يقولون له «ابعد عنا، وبمعرفة طرقك لا نسر!». فهل من الحكمة أو حتى من المحبة أن يهبهم نجاته وهم لا يريدون ذاته؟ هل يعطيهم نجاته ليَفسَدوا أكثر ويُفسِدوا أكثر؟
أما من عادوا إليه بتوبة صادقة، رافضين من قلوبهم الاستقلال عنه، فهو أعد لهم الغنى والمجد الروحي من الآن، والغنى والمجد الأبدي عند مجيئه، وإلى أن يجيء، يظل هو لهم بكل محبته وقدرته وسلطانه إله المساكين، الذي يسيطر على بؤسهم وفقرهم، ويخرج لهم منه خيرًا!! إنه يجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبونه (رو8: 28).
(يُتبَع)