أما هنا في إنجيل متى فيُبرِز رفض أمته له.
إذًا فالأناجيل الأربعة تقدم لنا بحسب ترتيبها على التوالي: المسيا المرفوض، والعبد المتألم، والإنسان الحنّان، والابن المجيد.
وهذا الفصل الهام (مت ٢٧) يشتمل على سبعة اقتباسات من العهد القديم: أربعة من مزمور ٢٢؛ واثنان من مزمور ٦٩؛ وواحد من زكريا ١٣.
ومن الأصحاح السابق (مت ٢٦) نفهم أن محاكمة المسيح تمت في الليل، بخلاف عُرف اليهود، لكن الاتهام الرسمي تأجل لحين بزوغ النهار. فاجتمع مجمع اليهود رسميًا في الصباح، بحضور كل أعضائه تقريبًا، وكان اجتماعًا سريعًا (ع ١)، أعطى البشير لوقا بعض تفصيلاته (لو ٢٢: ٦٦-٧١)، وفيه أعادوا قراءة نقاط الحكم، وَصَدَّقوا عليه. وهكذا نرى مرة أخرى، ولكنها ليست الأخيرة، كيف تُصفي ديانة الجسد عن البعوضة، وتبلع الجمل (مت ٢٣: ٢٤)!
«وَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ الْوَالِي» (ع ١، ٢).
انتهت ليلة حالكة السواد، قَبض فيها البشر على ابن الله، وحكموا عليه بالموت. ولقد وصفها الرسول بعبارة مختصرة: «الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا» (١كو ١١: ٢٣). كان رؤساء الأمة قد عملوا مع العدو في الظلمات، وانتهت مؤامرتهم بإصدار حكم الموت على يسوع. ثم أشرق صباح يوم الجمعة، فعملوا على تنفيذ ما قرروه في الظلام. ويوم الجمعة ذاك لا مثيل له في كل تاريخ العالم، وأول ما فعله أولئك الأشرار أنهم أوثقوا يسوع. وبحسب الأناجيل الأربعة نعرف أنه تمت للرب يسوع المسيح في يوم صلبه سبع رحلات أليمة وترحيلات مهينة كالآتي:
أولاً: من العلية في أورشليم إلى بستان جثسيماني الواقع خارج مدينة أورشليم.
ثانيًا: من بستان جثسيماني إلى دار حنان حمي قيافا رئيس الكهنة، وهو موثق اليدين.
ثالثًا: أرسله حنان موثقًا إلى قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة (يو ١١: ٥١؛ ١٨: ١٣، ٢٤).
رابعًا: أوثقه اليهود وأرسلوه إلى بيلاطس، وبذلك فإن قادة أمته أسلموه إلى الأمم، حسب ما سبق وتنبأ هو (مت ٢٠: ١٨، ١٩). وبذلك يكون الأمم واليهود على السواء مسؤولين ومذنبين في موت ابن الله (أع ٤: ٢٦-٢٨).
خامسًا: من بيلاطس إلى هيرودس.
سادسًا: من هيرودس إلى بيلاطس مرة ثانية، وهو لابس لباسًا لامعًا (لو ٢٣: ١١).
سابعًا وأخيرًا: من بيلاطس إلى الجلجثة وهو حامل الصليب.
وهكذا أضيفت إلى قائمة الآلام التي احتملها المسيح تلك الترحيلات كأنه فاعل شر، يحوطه حُرَّاسه ومضطهدوه!
وإن كان إبراهيم، حبًا في الله، بَكَّر صباحًا ليُقَدِّم ابنه الحبيب على المذبح، فإن هؤلاء الأشرار أيضًا بَكَّروا صباحًا، لقتل ابن الله الحبيب، أو بالحري للتصديق على الحكم بصلب المسيح، وتحويل القضية للحاكم الأممي ليقوم هو بالتنفيذ، كُرْهًا في الله وفي ابنه! وكما قَيَّد إبراهيم ابنه قَبْلَ ذبحه، هكذا من كان إسحاق رمزًا له، قُيِّد قَبْلَ أن يُساق كشاة إلى الذبح!
ويا له من منظر مؤثر ورهيب، أن يقتاد رؤساء الأمة ملكهم المهيب وقاضيهم الرهيب ومُخلِّصهم العجيب، مُوثقًا بالقيود ليُسلموه إلى حاكم أممي، ويطلبون الحكم عليه بالموت! أية قيود تلك التي يُقَيِّدون بها المسيح الذي أحب أمته، ولأجلها كَرَّس حياته! وأية وُثق يُكَبِّلون بها المسيح الذي أتى ليفدي الإنسان، وَيَفُكَّه من قيود الخطية، ويعتقه من اللعنة الأبدية!
وإن كنا نعتبرها حماقة وعار أن يُوْثِق رجال يهوذا قاضيهم شمشون، ويسلمونه للفلسطينيين (قض ١٥)، فإن الحماقة والعار هنا أعظم بما لا يقاس، أن يُوْثِق اليهود هنا رب شمشون وربهم، لكي يسلموه إلى أيدي الرومان! ولقد أوضح المسيح في حديثه مع بيلاطس أن «الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ» (يو ١٩: ١١).
كان الوالي الروماني يُقيم في قيصرية، لكنه في العيد كان ينتقل ليقيم في قلعة أنطونيا، في الزاوية الشمالية الغربية من منطقة الهيكل، ليكون على مقربة من مركز العيد، لأن الحجاج الآتين لهذه المناسبة من كل ربوع الأرض، كان يزيد عددهم عن المليونين.
والأرجح أن اليهود الذين قرروا قتل المسيح بعد عيد الفصح خوفًا من الشعب الذي كان يحب يسوع، لما تطورت الأحداث سريعًا، واضطروا إلى قتله يوم العيد، أرادوا الاحتماء بالوالي من غضبة الشعب. فهم لم يملكوا الشجاعة لكي يرجموه بأيديهم، كما كان يقضي الناموس بموت المجدف، وكما فعلوا بعد ذلك مع استفانوس الشهيد الأول في المسيحية. فأرادوا استصدار الحكم عليه من الوالي ليكونوا في مأمن من غضب الشعب، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى أن يكون موته بالصلب، موت العار والاحتقار، إمعانًا في الازدراء به (يو ١٨: ٣١، ٣٢). ولهذا وذاك أوثقوا يسوع ومضوا به إلى بيلاطس البنطي الوالي.
أما الله فكان له قصد آخر. فإن أية طريقة لموت المسيح بخلاف هذه الطريقة كانت تتضمن أن يقوموا هم بقتله. فلو رجموه مثلاً، كم حدث مع استفانوس، أو لو قطعوا رأسه بالسيف، كما حدث مع يوحنا المعمدان، لكانوا هم الذين قتلوه؛ لكن المسيح كان قد قال لليهود: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي» (يو ١٠: ١٨). ولهذا كان موت الصليب، فهو الطريقة الوحيدة للموت التي تتضمن هذا العنصر الأكثر أهمية، وهي أن يضع المسيح نفسه بكامل إرادته.