أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
في هذا الكتاب نعيش الأحداث المثيـرة مع داود، بطل الإيمان، في رحلة حياته واختباراته. في شبابه المُبكِّر وحـتى شاخ واضمحلَّت قوته. عندما كان يرعى الغُنيمات القليلة في البرية، وعندما جلس على العرش ليرعى شعب الله. في رفضه ومُلكه، في أحزانه وأفراحه، في مرتفعاته ومنخفضاته، في صموده وإعيائه، في انتصاراته وسقطاته، في توبته ودموعه. وسـتجد دروسًا عن حكـومة الله البارة، ومــزيجًا من النعـمة والـبر في معـاملات الله معه. وستجد بشكل مُذهل التدخُّل الإلـهي السيادي في أحداث حياته. ورغم عداوة الإنسان وشراسة الشيطان، لكــن القصـــــد الإلـهي كان يشق طريقه في حياة داود، ولم تســقط كلمة من كل الكلام الصالح الذي تكلَّم به الرب عن داود، وعن بيتــــه إلى زمان طويل. وسترى كيف كان داود رمزًا لشـخص الرب يسوع المسيح، في مجيئه الأول ورفضه، وفي مجيئه الثاني ومجد مُلكه العتيد، يوم يملك بالعدل والبـر، وتخضع له كل الشعوب، وحينئذ سيسود السلام في كل الأرض. والكتاب في ٣٦٤ صفحة. وسعره ٥٠جنيهًا. ومتوافر في مكتبات الإخوة. نشجعك على اقتنائه وقراءته.
 
 
عدد مايو السنة 2022
الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ وزيارة ملكة سَبَا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَر سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ» (١مل ١٠: ١)

شهرة سليمان (ع1-13)

أثارت زيارة ملكة سَبَا إلى سليمان قدرًا كبيرًا من الاهتمام في العديد من الدوائر المتناقضة منذ حدوثها، وأصبحت قصتها جزءًا لا يتجزأ من الأدب العربي والحبشي واليهودي. وهذا يشهد على الشهرة الواسعة النطاق التي تمتع بها سليمان في الدول المحيطة به، أثناء وبعد فترة حكمه. والأهم من ذلك أن زيارة ملكة سبأ إلى سليمان حدث مهم للغاية في سجل الكتاب المقدس، ولها تطبيقات على يوم مستقبلي. وقد أشار إليها الرب يسوع عندما سلط الضوء على عدم إيمان شعب إسرائيل وقادتها الدينيين: «مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!» (لو ١١: ٣١).

إنها لم تسمع سوى أخبار عن حكمة سليمان ومجده ونجاحه، لكنها أخذت الرحلة الطويلة والشاقة والخطيرة إلى أورشليم لاكتشاف حقيقة ما سمعته. كان ردها متناقضًا بشكل ملحوظ مع رد منتقدي المسيح، وسيكون شاهدًا ضدهم في يوم الدينونة القادم. إن حكمة الرب يسوع تجاوزت بكثير حكمة سليمان، لكنهم رفضوها وسخروا منها!

علاوة على ذلك، فيما يتعلق بالمستقبل، يرى العديد من المعلقين في زيارة ملكة سبأ إعلانًا مُسبقًا عن مملكة المسيح الألفية القادمة، عندما يجلب الأمم - من كل حدب وصوب - عطاياهم وسجودهم إلى أورشليم. في ذلك اليوم القادم يكتب كاتب المزمور: «مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالْجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً. وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ الْمُلُوكِ. كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ» (مز ٧٢: ١٠، ١١). وتنبأ إشعياء أيضًا: «وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي رَأْسِ الْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ، وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ. وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَيَقُولُونَ: هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، إِلَى بَيْتِ إِلهِ يَعْقُوبَ، فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ. لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ» (إش ٢: ٢، ٣).

يلفت بعض شراح الكتاب المقدس الانتباه أيضًا إلى أوجه التشابه الرئيسية بين الملكة الآتية إلى سليمان والخاطئ الذي يأتي إلى المسيح. ومن الممكن بالطبع قبول هذا التطبيق، لكنه ينطوي على وضع افتراضات معينة حول حالتها الروحية التي قد تكون، أو لا تكون، صحيحة. ومن المؤكد أن كلماتها كشفت عن مستوى من الاحترام والتقدير للرب ولسليمان، أعلى بكثير من مستوى ملوك الأمم من حوله: «لِيَكُنْ مُبَارَكًا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي سُرَّ بِكَ وَجَعَلَكَ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ. لأَنَّ الرَّبَّ أَحَبَّ إِسْرَائِيلَ إِلَى الأبد جَعَلَكَ مَلِكًا، لِتُجْرِيَ حُكْمًا وَبِرًّا» (ع ٩). ولكننا لا نستطيع أن نجزم أن مثل هذه الكلمات تكشف عن تحول حقيقي إلى إله إسرائيل. يمكن أن يكون الأمر ببساطة أنها كانت تؤمن بالاعتقاد الشائع في ذلك الوقت بأن امتلاك الفرد للثروات الأرضية يشير إلى صلاح وإنعام آلهة الأمة. قد يدعي البعض أن إشارة الرب الإيجابية إليها تكشف عن إيمانها الحقيقي (لو ١١: ٣١)، ولكن يجب أن نتذكر أن الرب كان يثني عليها من أجل رحلتها التي قامت بها بحثًا عن معرفة المزيد عن سليمان، وليس لأجل إيمانها. وأيضًا سيكون من غير الحكمة - بنفس القدر - اتخاذ نهجًا ساخرًا إزاء زيارتها، والإيحاء بأن دوافعها أنانية بحتة، فلربما تكون في نهاية المطاف قد آمنت إيمانًا حقيقيًا كاملا بإله إسرائيل.

أيا كان الموقف الذي يتخذه القارئ بشأن هذه الأمور، فهناك الكثير من التعليمات للمؤمنين اليوم في رحلتها:

سَمِعَتْ (ع 1)

يختلف الشراح حول الموقع الدقيق لمدينة سَبَا. يعتقد البعض أنها كانت في جنوب شرق الجزيرة العربية، ولكن من المرجح أنها كانت منطقة في الجنوب الغربي تعرف باسم اليمن السعيد، واشتهرت بتجارتها في العطور والبخور والذهب والأحجار الكريمة. لذلك كانت الملكة الحاكمة في ذلك الوقت هي التي «سَمِعَتْ ... بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ» (ع ١). ربما وصلت إليها الأخبار عبر العديد من التجار، بما في ذلك تجار البحر، الذين مروا عبر مملكتها.

23فَأَتَتْ... فَأَتَتْ... وَأَتَتْ (ع 1، 2)

أن تسمع مَلِكَةُ سَبَا عن سليمان كان شيئًا، ولكن أن تُقرر أن تقوم بنفسها بالرحلة الصعبة لحوالي ١٥٠٠ ميل (٢٤٠٠ كيلومتر) إلى أورشليم، فهو شيء آخر. ورغم طول الرحلة، لكنها «أَتَتْ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِمَوْكِبٍ عَظِيمٍ جِدًّا، بِجِمَال حَامِلَةٍ أَطْيَابًا وَذَهَبًا كَثِيرًا جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً» (ع ٢). ولقد شكَّك بعض الشراح في دوافع زيارتها لسليمان. يقترح البعض أنها جاءت لإثبات أن التقارير المتوهجة عنه كانت خاطئة! بينما يقترح آخرون أن أجندتها الرئيسية كانت التقليل من شأنه من خلال امتحانه بِمَسَائِلَ “ألغاز وأحاجي وأسئلة عسرة الفهم” (ع ١)، كان من المستحيل الإجابة عليها. ولكننا نرى أنه من غير المرجح أنها أتت بنية سلبية. لأنه إذا كان الأمر كذلك، فمن غير المرجح بنفس القدر أن يكون سليمان قد استجاب لها بهذه الروح الإيجابية. ومن الواضح أنها آمنت أن سليمان لديه ما يقدمه لها، وما يتجاوز كل ما يمكنها الوصول إليه في بلدها. لقد جاءت في روح الباحثة المتسائلة، واختبرت أكثر جدًا مما كانت تتوقعه.

إن مَلِكَة سَبَا تقف لتوبخ المؤمنين في جميع الأجيال الذين هم على استعداد للعيش في جهل بحق كلمة الله. كتب ”لانج“: ”كم تتفوق هذه المرأة الوثنية على الكثير من المؤمنين المسيحيين، الذين يتضورون جوعًا وعطشًا، ويلهثون وراء كل الأشياء العالمية المُمكِنة، وليس وراء معرفة الحق والحكمة؛ وراء كلمة الحياة. وإننا لسنا بحاجة إلى السفر إلى أورشليم لنجد الرب الذي هو أعظم من سليمان“. على الرغم من ظهورها في سياق الحديث عن مواجهة التجارب، إلا أن كلمات الرسول يعقوب قابلة للتطبيق: «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. وَلكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ» (يع ١: ٥، ٦).

تواصلت وتشاركت؛ «كَلَّمَتْهُ ... فَأَخْبَرَهَا» (ع 2، 3)

والدليل الآخر على إخلاص الملكة هو رغبتها في التواصل مع الملك سليمان، ومُشاركته «بِكُلِّ مَا كَانَ بِقَلْبِهَا» (ع ٢). إنها لم تتورط في مجرد تبادل ثقافي عقلاني فكري مع سليمان، ولكنها شاركته بالأمور التي كانت في قلبها. ويستبدل بعض المترجمين كلمة ”قلب“ إلى ”عقل (رأي، فكر، وجهة نظر)“، ولكن لا توجد أسباب مقنعة لذلك. كان هناك الكثير مما يُمكنها رؤيته والقيام به، خلال زيارتها، لكنها كانت تُقدِّر الحاجة إلى قضاء بعض الوقت في التواصل مع سليمان. وقد كُوفئت على مثل هذا الاهتمام بسخاء: «فَأَخْبَرَهَا سُلَيْمَانُ بِكُلِّ كَلاَمِهَا. لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ مَخْفِيًّا عَنِ الْمَلِكِ لَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ» (ع ٣). وفي الحقيقة، لقد اكتشفت «الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ» (يع ٣: ١٧).

لقد اكتشف إبراهيم الكثير عن الرب وطرقه، عندما اقترب من الرب وتواصل معه (تك ١٨: ٢٣، ٣٣). ولقد مدح الرب مريم «الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ» (لو ١٠: ٣٩، ٤٠). إنه أمر حيوي ومن الأهمية بمكان، ألا يفقد المؤمنون التركيز المهم المتمثل في قضاء وقت جيد كاف في كلمة الله، والسماح للرب بالتحدث إليهم من خلالها. وهناك سيجدون كل الإجابات على كل المشاكل والأسئلة التي تحيرهم، وهكذا يمضون بنجاح في جِدة الحياة.

رَأَتْ (ع 4-9)

إن الرغبة في الرؤية قبل الإيمان، تُبرهن أحيانًا على نقص الإيمان. عندما قال تلاميذ الرب الآخرون لتُومَا: «قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ!»، قال لهم: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ ... لاَ أُومِنْ». ولكن بعد ثمانية أيام عاتبه الرب بلطف، وقال له: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٤-٢٩). كان تُومَا مع الرب طوال خدمته، وكان يجب أن يُصدِّق تقرير التلاميذ الآخرين عن قيامة الرب. إلا أن رغبة مَلِكَة سَبَا أن ترى بنفسها وتتحقق عما إذا كانت التقارير التي تلقتها عن سليمان صحيحة أم لا، كانت رغبة مفهومة وجديرة بالثناء نظرًا لخلفيتها الوثنية وبُعد المسافة بين مملكتيهما.

بعد سنوات عديدة، نتقابل مع فِيلُبُّسَ الرسول الذي وَجَدَ نَثَنَائِيلَ المُتشكك، وقال له: «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ» (يو ١: ٤٥)، فكان رد نَثَنَائِيلَ الفوري هو: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» (يو ١: ٤٦). فقدَّم له فِيلُبُّسُ الدعوة: «تَعَالَ وَانْظُرْ» (يو ١: ٤٦). ولقد كُوفئت استجابة نَثَنَائِيلَ الفورية، وقادته إلى اعتراف إيمانه الإيجابي: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يو ١: ٤٩). وبالمثل جذبت المرأة السَّامرية في سُوخَار مواطنيها إلى الرب يسوع بكلماتها: «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟» (يو ٤: ٢٩). وكانت النتيجة المدهشة أنه «آمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ ... وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ» (يو ١: ٣٩، ٤٢).

وبتطبيق زيارة مَلِكَة سَبَا كصورة للخاطئ الذي يأتي إلى المسيح، يكتب ”إلسورث“: ”يا له من نموذج تُقدّمه مَلِكَة سَبَا للخاطئ! إنها تقف لتقول لكل خاطئ: أَلم تسمع أخبارًا رائعة عن المسيح؛ الآن تعالَ إليه! خذ كل أسئلتك التي تُحيرك وتزعجك وتعذبك، حول الله والأبدية، واذهب إليه واسأله. أولئك الذين يأتون بمثل هذه الأسئلة إلى المسيح، يجدون الإجابات الصحيحة، ويختفي عذابهم، ويحل مكانها سلام الله“.

من الصعب استيعاب مشاعر وانفعالات تُومَا ونَثَنَائِيلَ والمرأة السَّامرية ومواطني سُوخَار عندما رأى كل منهم الرب. ومن الصعب بنفس القدر وصف الأثر الهائل على مَلِكَة سَبَا عندما رَأت «كُلَّ حِكْمَةِ سُلَيْمَانَ، وَالْبَيْتَ الَّذِي بَنَاهُ، وَطَعَامَ مَائِدَتِهِ، وَمَجْلِسَ عَبِيدِهِ، وَمَوْقِفَ خُدَّامِهِ وَمَلاَبِسَهُمْ، وَسُقَاتَهُ، وَمُحْرَقَاتِهِ الَّتِي كَانَ يُصْعِدُهَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ» (ع ٤، ٥). والوحي يُسجل ببساطة: «لَمْ يَبْقَ فِيهَا رُوحٌ بَعْدُ» (ع ٥). معنى هذا التعبير أنه اعتراها الذهول العميق. وهكذا كانت شهادتها: «فَقَالَتْ لِلْمَلِكِ: صَحِيحًا كَانَ الْخَبَرُ الَّذِي سَمِعْتُهُ فِي أَرْضِي عَنْ أُمُورِكَ وَعَنْ حِكْمَتِكَ. وَلَمْ أُصَدِّقِ الأَخْبَارَ حَتَّى جِئْتُ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، فَهُوَذَا النِّصْفُ لَمْ أُخْبَرْ بِهِ. زِدْتَ حِكْمَةً وَصَلاَحًا عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي سَمِعْتُهُ» (ع ٦، ٧).

من الواضح أن الأمور في بلاط سليمان - في ذلك الوقت - كانت تتم بطريقة منظمة ومهيبة، مما ترك انطباعًا عميقًا لدى الملكة. لم تكن الملكة قد رأت مثل هذا المشهد المُثير للإعجاب من قبل، كما شهدت هي بالفعل بذلك (ع ٦، ٧). ولكن لا يُمكننا أن نستنتج من كلماتها أنها أصبحت مؤمنة حقيقية في هذه المرحلة، ولكن تم ترك انطباعات إلهية عليها، من المؤكد أنها كانت ستبقى بعد عودتها إلى وطنها. وهذا يضع الكنائس المحلية اليوم في تحدٍّ فيما يتعلق بالانطباع الذي تعطيه لغير المؤمنين الذين يدخلون الاجتماعات. لقد ذكّر الرسول بولس المؤمنين في كورنثوس بأن «اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ، كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ ... وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ» (١كو ١٤: ٣٣، ٤٠). ولقد أدرك أن هذا من شأنه أن يقود ”غَيْر المُؤْمِنٍ أَوْ العَامِّيّ“ إلى أن «تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ ِللهِ، مُنَادِيًا: أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ» (١كو ١٤: ٢٤، ٢٥) على الرغم من أن هذه الكلمات قيلت في سياق استخدام المواهب الروحية، إلا أن لها تطبيقًا عامًا على جوانب أخرى من اجتماعات القديسين.

كانت زيارة مَلِكَة سَبَا قصيرة، ولكنها تحدَّثت بحماس عظيم وشعور حقيقي ودهشة حقيقية حول الأمور التي رأتها. ولم يكن في صوتها أي نبرة من الحسد أو الغيّرة، وهي تهتف: «طُوبَى لِرِجَالِكَ وَطُوبَى لِعَبِيدِكَ هؤُلاَءِ الْوَاقِفِينَ أَمَامَكَ دَائِمًا السَّامِعِينَ حِكْمَتَكَ» (ع ٨). لقد أجاب سليمان على جميع أسئلتها، ولا شك أنها كانت تود أن تُتاح لها فرصة الاتصال المباشر بحكمته، على أساس يومي مستمر، وهي في مملكتها. ولكن للمؤمنين الآن حرية وثقة بالدخول المباشر والمستمر إلى محضر الرب «الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ» (كو ٢: ٣). ولا يتساهل الرب مع الذين أدركوا هذا الامتياز، أن يتعاملوا معه بدون تقدير وباستخفاف.

كانت كلمات الملكة الأخيرة المسجلة في زيارتها، تتعلق بالرب: «لِيَكُنْ مُبَارَكًا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي سُرَّ بِكَ وَجَعَلَكَ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ. لأَنَّ الرَّبَّ أَحَبَّ إِسْرَائِيلَ إِلَى الأبد جَعَلَكَ مَلِكًا، لِتُجْرِيَ حُكْمًا وَبِرًّا» (ع ٩). وسواء كانت هذه كلمات الإيمان الحقيقي أم لا، فهذا لن يُعرَف إلا في الأبدية. ولكنها تُقدِّم تحديًا للمؤمنين اليوم، حول مدى تقديرهم وعرفانهم وتسبيحهم للرب، نظير محبته التي أعطتنا ابنه الوحيد، ليُجلب لهم الخلاص الأبدي، ويضمن لهم مكانًا معه في مجده. وهكذا يكتب الرسول بولس إلى القديسين في أفسس: «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ» (أف ١: ٣). ومرة أخرى يكتب إلى قديسي كولوسي: «شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا» (كو ١: ١٢-١٤).

أَعْطَتِ (ع 10-12)

تأثرت هذه المَلِكَةُ بكل ما اختبرته في زيارتها لسليمان لدرجة أنها، من ثروتها الهائلة «أَعْطَتِ الْمَلِكَ مِئَةً وَعِشْرِينَ وَزْنَةَ ذَهَبٍ (نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلافٍ وَثَلاَثِ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ كِيلُو جْرَامًا؛ أو نَحْوَ أربعة أطْنَان ونِصْف)، وَأَطْيَابًا كَثِيرَةً جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً. لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِثْلُ ذلِكَ الطِّيبِ فِي الْكَثْرَةِ، الَّذِيِ أَعْطَتْهُ مَلِكَةُ سَبَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ» (ع ١٠). وبطبيعة الحال، يُمكننا القول إن سليمان لم يكن بحاجة إلى ثروتها، على الرغم من أن هديتها كانت كبيرة ومُعتبرة. ولكنها - على كل حال - أعطت بسخاء، وفقا لعادة أيامها، للتعبير عن تقديرها لكل ما كان لها شرف اختباره خلال زيارتها.

إنها تذكِّر المؤمنين بمسؤوليتهم وامتيازهم في العطاء للرب، الذي أعطى كل شيء من أجلهم. وكانت لداود هذه الروح الصحيحة، عندما أعطى هو وبنو إسرائيل، من أجل بناء الهيكل، وبارك الرب أمام كل الجماعة، وقال: «وَلكِنْ مَنْ أَنَا، وَمَنْ هُوَ شَعْبِي حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَنْتَدِبَ هكَذَا؟ لأَنَّ مِنْكَ الْجَمِيعَ وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ ... وَقَدْ عَلِمْتُ يَا إِلهِي أَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَحِنُ الْقُلُوبَ وَتُسَرُّ بِالاسْتِقَامَةِ. أَنَا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِي انْتَدَبْتُ بِكُلِّ هذِهِ، وَالآنَ شَعْبُكَ الْمَوْجُودُ هُنَا رَأَيْتُهُ بِفَرَحٍ يَنْتَدِبُ لَكَ» (١أخ ٢٩: ١٤، ١٧).

بغض النظر عن مقدار ما قد يُعطيه المؤمنون إلى الله، فإنهم سَيُكافَئون بشكل لا يمكن قياسه. ويكتب الرسول بولس: «وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ» (أف ٣: ٢٠، ٢١). ومرة أخرى يكتب: «فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في ٤: ١٩). في الواقع جاءت مَلِكَةُ سَبَا «بِمَوْكِبٍ عَظِيمٍ جِدًّا، بِجِمَال حَامِلَةٍ أَطْيَابًا وَذَهَبًا كَثِيرًا جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً» (ع ٢)، لكنها انصرفت وذهبت إلى أرضها أكثر ثراءً.

وللتأكيد على ثروة سليمان العظيمة، يدرج الوحي في هذا القسم الثروات التي كانت تأتي عن طريق البحر إلى مملكته، بما في ذلك كميات هائلة من أشجار الصندل: «وَكَذَا سُفُنُ حِيرَامَ الَّتِي حَمَلَتْ ذَهَبًا مِنْ أُوفِيرَ، أَتَتْ مِنْ أُوفِيرَ بِخَشَبِ الصَّنْدَلِ كَثِيرًا جِدًّا وَبِحِجَارَةٍ كَرِيمَةٍ» (ع ١١). وخَشَبِ الصَّنْدَلِ كان يُجلّب من الهند، وكان خشبًا متعدد الاستخدامات اشتهر برائحته الزكية، وقد استخدمه سليمان لعمل «دَرَابَزِينًا لِبَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ الْمَلِكِ، وَأَعْوَادًا وَرَبَابًا لِلْمُغَنِّينَ. لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يُرَ مِثْلُ خَشَبِ الصَّنْدَلِ ذلِكَ إِلَى هذَا الْيَوْمِ» (ع ١٢). الدَرَابَزين هو سياج من أعمدة قصيرة مُزخرفة. ويقترح ”ماكشين“ أنه قد تم بناء دَرَابَزِينًا لرواق الهيكل، وآخر لرواق القصر.

انْصَرَفَتْ وَذَهَبَتْ (ع 13)

قبل رحيلها «أَعْطَى الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِمَلِكَةِ سَبَا كُلَّ مُشْتَهَاهَا الَّذِي طَلَبَتْ، عَدَا مَا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ حَسَبَ كَرَمِ الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ. فَانْصَرَفَتْ وَذَهَبَتْ إِلَى أَرْضِهَا هِيَ وَعَبِيدُهَا» (ع ١٣). وسيكون من الخطأ التخمين كثيرًا بشأن ما حدث بعد هذه الزيارة الخالدة التي لا تُنسى، ولكن من المقبول أن نتوَّقع أنها بعد رجوعها إلى بلدها، نشرت - في جميع أنحاء مملكتها - أخبار عظمة سليمان وحكمته وثروته. أما إذا كانت قد تجاوزت المظاهر السطحية والظاهرة، وأدركت جوهر أسباب عظمته ومجده المرتبطة بمجد الرب (ع ١)، أم لم تُدرك، فهذا أمر غير مؤكد!


س. ت. ليسي