إن الترتيب الإلهي الموضوع للمؤمن هو المعمودية أولاً، ثم الثبات في التعليم الصحيح والشركة وكسر الخبز والصلوات (أع ٢: ٤٢). وكل هذا يجب أن يتم قبل أن يكون للخدمة أو العمل أي قبول عند الله، لأن الترتيب الإلهي دائمًا هو العبادة أولاً ثم الخدمة.
أهمية العبادة:
في سفر العدد أصحاحي ٦، ٧ نجد هذا الترتيب؛ أولاً: انفصال النذير عن العالم، وهذا يُشير إلى انفصال المسيحي بالمعمودية لموت المسيح. ثانيًا: عبادة النذير عندما يأتي بتقدماته إلى الرب، وهذا يأتي بالمسيحي إلى اجتماع العبادة، لأن البركة لا تأتي إلا بعد العبادة. ثم آخر الكل، بعد أن تتم عمليتا الانفصال والعبادة، تأتي الخدمة؛ فنرى في الأصحاح السابع كيف أحضر الرؤساء بعدئذٍ خدمتهم أمام الرب: العجلات والثيران.
ويا ليتنا نعبد الرب بالطريقة التي تُسرّ الرب، ويا ليتنا نهتم بذلك قبل أي شيء آخر، خصوصًا وأن هذا هو الظاهر حتى في ترتيب كلمة الله؛ فسفر العدد الذي يتكلَّم عن خدمة وسلوك وشهادة مفديي الرب، يأتي مباشرة بعد سفر اللاويين الذي يتحدث عن العبادة والشركة. وسفر الأمثال الخاص بالسلوك والخدمة، يأتي بعد سفر المزامير الذي يتحدث عن السجود والعبادة والشركة.
وتظهر أهمية العبادة والسجود أيضًا في إشعياء ٦ حيث نجد هناك أربعة أجنحة من كل سِتَّة أجنحة للسَّرافيم، تُستخدم في تغطية الوجه والرجلين (السجود والعبادة)، بينما هناك جناحان فقط يُستخدمان للطيران (الخدمة). وقد نجد هنا النسبة المضبوطة التي يجب أن تكون عليها العبادة والخدمة. وبالرغم من ذلك، فإن الفكر الجسدي يميل إلى قلب هذا الأمر رأسًا على عقب!
لقد كان السَّرَافِيمُ في شغل شاغل بقداسة الله وعبادته، وبعد أن رأى النبي إشعياء هذا المنظر، وبعد أن اشترك في السجود، جاءته الدعوة إلى الخدمة، فيقول: «ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ قَائِلاً: مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ فَقُلْتُ: هأَنَذَا أَرْسِلْنِي. فَقَالَ: اذْهَبْ» (إش ٦: ١ - ٩)، هذا لأن الخدمة امتياز للذين يسجدون ويعبدون.
وهلا نتعلَّم الدرس الحيوي المُدوَّن في لوقا ١٠؟ هناك نجد مريم جالسة عند قدمي الرب يسوع جلوس السجود، وكانت تسمع الكلام الطَيِّبٍ وكلام التَعْزِيَة «وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ. فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي! فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها: مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ» - مثلها مثل الكثيرين مِنا الذي ينشغلون في الخدمة - «وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ (السجود والشركة مع الرب). فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لو ١٠: ٣٨ - ٤٢).
ولا ننسى سجود مريم في بيت عنيا، يوم «أَخَذَتْ مَرْيَمُ مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ». ويومها أنَّبَ الرب يسوع يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيّ الذي قال: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» (يو ١٢: ١ - ٨). ألا يُذكرنا هذا بأن بعض المؤمنين مُخطئون حين تكون لهم هذه النظرة التجارية، إذ يتفكرون لماذا لم يُقضَ وقت السجود والعبادة بطريقة أكثر ربحًا، كأن نخدم الرب مثلاً؟!
هل يهم الله كيف نعبده؟
نعم، إن للعبادة أهمية كبيرة في نظر الله، ولهذا رسم الطريقة التي نعبده بها. فالعبادة بحسب تفكير الإنسان واختراعه، غير مقبولة لدى الله. وهذا ما حدث في أيام القضاة (قض ١٧)، يوم انحرف مِيخَا عن رغبة الله الصريحة في العبادة، وتحوَّل إلى أفكاره الخاصة، فسمح لأُمُّهِ أن تعمل له تمثالاً من فِضَّة وتصوغ منها صنمًا، ولكي يُغطي جُرمه الواضح الفاضح، أقحما اسم الرب في الأمر «فَقَالَتْ أُمُّهُ: تَقْدِيسًا قَدَّسْتُ الْفِضَّةَ لِلرَّبِّ مِنْ يَدِي لابْنِي لِعَمَلِ تِمْثَال مَنْحُوتٍ وَتِمْثَال مَسْبُوكٍ. فَالآنَ أَرُدُّهَا لَكَ» (قض ١٧: ٣). وهذه حجة بعض الطوائف المسيحية التي تفرض عبادتها الغريبة البعيدة عن كلمة الله، ثم تُقدِّم خدمة كسر الخبز حسب فكرها، وكأنها تَسْخَر من إرادة الله المُعلنة في كتابه.
وهذا يُفسر لنا وصف الوحي لأيام سفر القضاة «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (قض ١٧: ٦). ويا ليت هذا الاستحسان لا يكون فينا نحن أيضًا، لئلا نستحق هذا التهكم اللاذع والخطير على عبادتنا «كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ».
إذًا هل يهم الله كيف نعبد؟ نعم يهمه جدًا، وهذا يتضح من كلمات الرب «السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يو ٤: ٢٣، ٢٤). ولا يوجد أقوى من هذه العبارات. إنها القاعدة التي لا تسمح لنا بالاختيار، بل تأمرنا بالطاعة لما هو مرسوم في كلمة الله. فهل نعبد الله بطريقته، أم بطريقتنا نحن؟!
نيجل ترنر