أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2012
إسحاق - دروس ورموز
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
يُمثل إسحاق بحسب ظروف ولادته ونسبه، أبناء عهد النعمة، لكن بحسب صفاته وتاريخ حياته هو رمز للمسيح، حسب مفهوم عبارة «أَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في2: 8)، وأيضًا حسب مفهوم النتائج التي ترتبت على ذلك بالقيامة.  حياة المسيح تتحقق مع كِلا هذين الوجهين، بل إن حياة المسيح اتسعت لِما كانت عليه حياة إسحاق، ولما ظهر في حياة داود من صفات، ولأكثر منها.
وإذا كانت صفات إسحاق يُميزها الصبر والهدوء والطاعة، كان لا بد أن يُلاقي إسحاق قدرًا كبيرًا من احتقار العالم.  وهو لم يُولد بعد، قوبل وعد مولده بالضحك من تلك التي ستكون أمه؟ وفي طفولته اُضطُهد من ابن الجارية؛ النسل الجسدي.  والحقيقة هي أن اسمه يبدو أنه لا يعني فقط “ضحك” الرضا والابتهاج من جانب الإيمان، بل أيضًا يعني ضحك السخرية والاحتقار من جانب عدم الإيمان.  وفي ختام حياته يتآمر عليه ابنه وزوجته كما لو كانا يحسبانه في غفلة.
كانت حياته في أغلبها تتصف بالهدوء.  ومرتين ينبش الآبار التي طمها الأعداء، ثم يختم حياته ببركة يعقوب.  والمسيح بالمثل اجتاز الموت في خضوع اختياري، وفي قيامته فجَّر ينابيع النعمة ثم انطلق من هذا العالم رافعًا يديه بالبركة لتلاميذه.
حياة إسحاق اتصفت عمومًا بالهدوء والتواري، وخَلَت من جسارة الاقتحام، وأحبت العيش في المراعي الخُضُر، وعند صفو المياه، إلا أنه لم يُعفَ من شدائد الحياة.
قال واحد: “إن مَنْ لم يُكابد البلوى، لا يعرف للسعادة معنى”.  ورجال الله المعروفون، لم يُعفَ واحد منهم من شدائد الحياة وتجاربها.  على إبراهيم وعلى ابنهِ إسحاق دَنَت في تكوين 22 سحابة داكنة كئيبة جدًا.  وعلى الملايين مثلهما من الجنس البشري تعيَّن أن يروا النور من خلال الظلمة، ويجتنوا البركة من براثن الحزن، وتعلموا من صروف الأيام أن العطور زهور مسحوقة، وأن الطيب أعواد محروقة.  وكلنا لا نختبر بركة الضيقات إلا عندما يهتز عشنا ويهدده الخطر.
وبين هذا وذاك قد يطرق القَدَر السيء بابنا بعنف أو بلطف.  وجميل بنا أن ننهض لنواجهه بجنان ثابت قوي هادئ، كما فعل إبراهيم وإسحاق عند جبل المُريا.  حينذاك كان إبراهيم شيخًا متقدمًا في الأيام، وكان إسحاق في عنفوان الشباب.  ولو لم يكن إسحاق - بطبعه الهادئ المُذعن - راغبًا في أن يُربَط وأن يُذبح، لتغير الحال.  في هذا كان إسحاق رمزًا تصويريًا رائعًا للمسيح.  إنه في ذلك لم يكن ضحية بريئة فقط، بل كان أيضًا ذبيحة مُذعنة وخاضعة.  لقد «وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ» (في2: 8).
*  *  *
ترتب على موت وقيامة إسحاق الرمزيين: أولاً: ثبَّت الله عهده لإسحاق.  وثانيًا: لا يرث إسماعيل ولا غير إسماعيل مع إسحاق.  وثالثًا: تموت سارة أمه.  ورابعًا: تُستدعى رفقة زوجةً له.  وخامسًا: يعطيه أبوه كل ما له (تك25).  وسادسًا: تستقر البركة على إسحاق.  وسابعًا: يُصلي من أجل زوجته العاقر.  وهذه الأمور كلها رمزية.
امتلأت صورة إسحاق الرمزية بالجوانب الكثيرة.  فليست كل جوانب الصورة هي طاعة الموت وقوة القيامة وما ترتب عليهما فقط، ولكن هناك جوانب أخرى للصورة.
كان إسحاق ابنًا وحيدًا، ومع ذلك عندما اقتضت المحبة والحكمة أيضًا، لم يشفق أبوه عليه.  وفي خضوع كامل لإرادة أبيه، حمل إسحاق الحطب، تمامًا كما حمل المرموز إليه خشبة الصليب إلى موضع الجلجثة.  وجبل المُريا وموضع الجلجثة قريبان جدًا.
ذهب الأب والابن كلاهما معًا.  ودار حديث بينهما موجع يكسر القلب.  لكن كان هناك أيضًا كمال المحبة الواثقة المُتبادلة «هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي.  وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي» (يو16: 32).
سار إبراهيم وإسحاق مسيرة ثلاثة أيام، وأُخذ إسحاق بالقيامة في مثال.  كما حدث تمامًا مع المرموز إليه مات وبعد ثلاثة أيام قام «انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يو2: 19).
أراد رجل أن يرى كسوف الشمس كيف يكون، لكنه لم يستطع أن يحدِّق في الشمس بسبب قوة الضوء.  فتناول ذلك الرجل مرآة صغيرة، وأعطى ظهره للشمس وبذلك استطاع أن يرى في المرآة صورة الشمس حين تنكسف.  ونحن بالمثل، لا نستطيع أن ندرك ماذا دار فوق الصليب بسبب هالة المجد التي تعمي الأبصار، فليس في طاقة إدراكنا أن نعي ماذا كان يجري هناك «فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ» (1كو13: 12).
*  *  *
في المُريا نرى صورة باهتة وضعيفة منعكسة للصليب.  فالآب والابن الوحيد الحبيب يتقدمان معًا بنية معقودة على تضحية حياة الابن.  لكن ويا للعجب، الرمز يتحطم، وبالرحمة والشفقة يتدخل الله فلا يموت الابن الرمزي إسحاق، لكنه في المرموز إليه نجد أن «اللهُ ... لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا» (رو8: 31، 32).
بعد مسيرة ثلاثة أيام «رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَأَبْصَرَ الْمَوْضِعَ مِنْ بَعِيدٍ ... فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ حَطَبَ الْمُحْرَقَةِ وَوَضَعَهُ عَلَى إِسْحَاقَ ابْنِهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ النَّارَ وَالسِّكِّينَ. فَذَهَبَا كِلاَهُمَا مَعًا» (تك22: 4-6).  يبدو أن المشهد كان يخيِّم عليه الصمت.  هذا واضحٌ من أسلوب الكلام.  وبعد فترة من الصمت «كَلَّمَ إِسْحَاقُ إِبْرَاهِيمَ أَبِاهُ وَقَالَ: يَا أَبِي.  فَقَالَ: هأَنَذَا يَا ابْنِي».  وسأل الابن سؤالاً هو في الحقيقة سؤال أي إنسان في أي زمان.  وتردده ألوف الألسنة من الخليقة التي تئن وتتمخض معًا:
«هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟»
هوذا عناصر الدينونة، فأين الفدية؟
   هوذا مسيس الحاجة، فأين المورد؟
     هوذا الخاطئ، فأين المخلِّص؟
        هوذا الساجد، فأين وسيلة الاقتراب؟
           هوذا أسباب الألم، فأين المتألم؟
«هُوَذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟»
كان هذا هو السؤال الذي يتردد عبر أربعة آلاف سنة على لسان كل إنسان حساس الضمير، إنْ في صمت أو في منطوق ضعيف التعبير.
ولم يكن هناك سوى جواب واحد وحيد هو «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي» (تك24: 8).  إنه جواب الإيمان أُعطي في يقين وفي هدوء شديدين، دون أن يفهم كيف يكون ذلك.  وفي خضوع صامت تقبَّل الإيمان أيضًا هذا الجواب.
*  *  *
ولقد جاء الجواب الأكمل، والإيضاح الأوفى أخيرًا.  جاء الجواب عندما قارب ذلك التدبير على الغروب، وأخذ سمعان الطفل السماوي على ذراعيه وقال: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ» (لو2: 29، 30).
وجاء الجواب عندما نظر ذلك المعمدان الصارم يسوع المسيح مُقبلاً إليه وقال: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ!» (يو1: 29، 36).
«فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ.  فَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَهْوَهْ يِرْأَهْ.  حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ الْيَوْمَ: فِي جَبَلِ الرَّبِّ يُرَى» (تك22: 13، 14).
اتخذ الله اسم يهوه ليُعبِّر به عن العلاقة التي يُقيمها ويحفظها بالإيمان.  هذا الاسم يعني “أنا الكائن”.  ولكل ما يُحتاج إليه “يكون” إذا ما أُضيف إلى “الكائن”.  إنه يُشبه صكًا موقعًا عليه على بياض.  ليكتب الحائز له، القيمة التي يطلبها.  من أجل ذلك ترتبط كلمة «يهوه» بعبارة وصفية تُستمد من ظروف الحال وتتناسب معها.  هناك في تكوين22 سؤال يفتش عن حاجة ماسة «أين؟» وكان الجواب «يَهْوَهْ يِرْأَهْ».  الله يرى، أو “أنا هو الذي يرى ويدبر”.
وفي خروج17 هوجم شعب الله “إسرائيل” بعدو غاشم، وكانت حاجتهم إلى قائد يُنظم صفوفهم، وإلى راية يلتفون من حولها، فكان لهم «يَهْوَهْ نِسِّي»، أي “أنا هو رايتكم” أو “الرب رايتي” (خر17: 15).
وفي بداية سفر القضاة حيث كان الحال مضطربًا بسب غزوات العدو، وكان جدعون - جبار البأس - يَخبِط حنطة في المعصرة لكي يُهربها من المديانيين، ولما رأى ملاك الرب يذهب عنه، صرخ جدعون قائلاً: «آهِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ!» وخاف لأنه رأى ملاك الرب وجهًا لوجه.  فهدَّأ الملاك (الرب) من روعه وقال له: «السَّلاَمُ لَكَ.  لاَ تَخَفْ.  لاَ تَمُوتُ. فَبَنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَاهُ يَهْوَهَ شَلُومَ»؛ “أنا هو سلامك” أو “الرب سلامنا” (قض6: 24).
وفي إرميا 23 كانت هناك خطية كبرى وعظيمة أمام الرب، هي خطية الرعاة الذين فشلوا في رعايتهم، فبدلاً من رعاية الغنم والاهتمام بها وبأحوالها، أهلكوا وبددوا رعية الرب، ولم يَعُد هناك رجاء يُنتظر إذ قد فسد الرعاة تمامًا، ولم يبقَ إلا أن يشرق نور سماوي من اسمه اللامع والمحبوب «الرَّبُّ بِرُّنَا»؛ «يهوه صدقينو» (إر23: 1-6).
أخيرًا نلاحظ التناسب الجميل لآخر هذه الأسماء الوصفية في حزقيال40-48 حيث نقرأ عن الوصف المطوَّل للهيكل الألفي في عظمته وفخامته.  وينتهي كل هذا الجمال وكل هذه العظمة بمجد الأمجاد كلها: «وَاسْمُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَهْوَهْ شَمَّهْ»، أي “الرب هناك” (حز48: 35).  والذهن الروحي يُوقن أنه إن لم يكن “الرب هناك” فالجمال يبدو القُبح بعينه، والمجد كأنه عار.  أَ لم يحصل هذا في أيام وجود الرب في الجسد؟ إن أبنية الهيكل العظيمة والفخمة لم تجذبه، ولكن جذبته عِلِّية بسيطة مع تلاميذه.  تلك كانت أحب إلى نفسه.  وداود الملك عندما طُرد من أورشليم، التصق به مَن خرجوا معه إلى البرية.  هؤلاء عرفوا وفضَّلوا البرية معه على أورشليم مع غيره: فضّلوا الملك على قصر الملك بدونه.

شنودة راسم

 


شنوده راسم