«تراءى لي الرب من بعيد. ومحبة أبدية أحببتك، لأجل ذلك أدمت لك الرحمة»
(إر31: 3)من روائع كلمة الله أن هذا السفر (نشيد الأنشاد) بعباراته الموحى بها، وأقسامه المختلفة، يعطينا وصفًا لتاريخ الأمة كله، من بدايته إلى نهايته؛ أي من دعوة الرب لإبراهيم، وحتى يملك المسيا عليها. إنه يغطي تاريخها كله في دقة أخاذة وعجيبة حقًا، كما سنرى في هذه الدراسة.
هذا السفر - كما نعرف - يُحَدِّثنا عن قصة حب، ليس مجرد حب رجل لفتاة، بل بالحري حب يهوه لشعبه، قصة بدأت في أسفار موسى، وتبلغ نهايتها المجيدة في الأسفار النبوية. وسفر النشيد يُعتبر حلقة الوصل بين البداية السعيدة والخاتمة المجيدة.
كانت البداية في سفر التكوين، عندما شاهد آدم امرأته حواء، المعطاة له من الله، فقال: “هذه الآن”: أي هذه هي التي طالما اشتقت إليها قبل أن أراها. أخيرًا وجدتها.
والخاتمة المجيدة نقرأ عنها في النبوات، عندما يتزوج الرب بعذراء إسرائيل، التي ستُسمى باسم جديد مُحَمَّل بالدلالات، هو “حفصيبة”، ومعناه: مسرتي فيها.
أقسام السفر
ليمكننا تتبع هذه الفكرة فإننا نلاحظ بداية أن هذا السفر عبارة عن مشاهد متتالية، وكأن الستار يُسْدَل عند نهاية أحد المشاهد، ليبدأ فصل جديد. وإذ يُرفع الستار نجد أنفسنا أمام مشهد مختلف عن المشهد الذي انتهينا منه تمامًا.
وفي هذا السفر هناك عبارة هامة، تكررت ثلاث مرات، وهي تُقَسِّمه إلى أربعة أقسام. هذه العبارة هي: «أحلفكن يا بنات أورشليم، ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء». وكما ذكرنا فإن الكلام التالي لا يأتي استطرادًا لما سبقه، بل إن الستار يُرفع عن مشهد مختلف. وقد وردت هذه العبارة في أصحاح 2: 7؛ 3: 5؛ 8: 4. وبهذا فهي تُقَسِّم السفر إلى أقسام أربعة كالآتي:
القسم الأول: من أصحاح 1: 2 إلى أصحاح 2: 7
القسم الثاني: من أصحاح 2: 8 إلى أصحاح 3: 5
القسم الثالث: من أصحاح 3: 6 إلى أصحاح 8: 4
القسم الرابع: من أصحاح 8: 4 إلى أصحاح 8: 14
والمشكلة في هذا التقسيم أنه يجعل القسم الثالث أكبر كثيرًا من بقية الأقسام الأخرى، وعليه فقد تم تقسيم هذا القسم الثالث إلى أقسام ثلاثة، وبذلك أصبحت أقسام هذا السفر هي ستة أقسام، يُقِر بها معظم المفسرين، وهي كالآتي:
1- من أصحاح 1: 2 إلى أصحاح 2: 7
وموضوعه:
توثيق المحبة.
2- من أصحاح 2: 8 إلى أصحاح 3: 5
وموضوعه:
إحياء المحبة.
3- من أصحاح 3: 6 إلى أصحاح 5: 1
وموضوعه:
شركة المحبة.
4- من أصحاح 5: 2 إلى أصحاح 6: 12
وموضوعه:
عودة المحبة.
5- من أصحاح 6: 13 إلى أصحاح 8: 3
وموضوعه:
أحاديث المحبة.
6- من أصحاح 8: 4 إلى أصحاح 8: 14
وموضوعه
: نصرة المحبة.
أو للاختصار تكون عناوين هذه الأقسام الستة كالآتي:
أشواق – طلب – شركة – تدريب – جاذبية – وأخيرًا الخاتمة المجيدة.
وهذا التقسيم السداسي له أيضًا دلالته، فالرقم ستة له علاقة بهذا الشعب. فنحن نقرأ أن الابن السادس لليئة دعت اسمه “يساكر” قائلة: “الآن
يساكنني رجلي”. هذه هي الخاتمة المجيدة كما أشرنا قبلاً. وفي عرس قانا الجليل، كانت هناك ستة أجران فارغة امتلأت بالماء، فتحول الماء إلى خمر، والمشهد كله صورة لأفراح الأمة تحت ملك المسيا. والعجيب أن الاسم الوحيد المذكور في هذا المشهد هو اسم يسوع، فلا نقرأ عن اسم العريس ولا اسم العروس، ولا حتى اسم المُطَوَّبة مريم، ولا اسم أحد التلاميذ مع أنهم كانوا حاضرين هذا العرس. لا يرد سوى اسم يسوع، ولا يُذكر مرة ولا مرتين بل يرد فيه ست مرات. ولا ننسى أنه في اليوم السادس في تكوين 1 سلط آدم ومعه حواء على كل الأرض المجددة، صورة لتسلط آدم الأخير ومعه عروسه على كل المشهد المجدد في زمان الملك السعيد.
هذه الأقسام الستة لسفر النشيد تحكي لنا تاريخ هذا الشعب من بدايته وحتى النهاية، كل قسم منها يحدثنا عن فترة في تعامل الرب بالحب مع هذا الشعب، ذاك الذي كانت محبته لهم محبة أبدية، لذلك أدام لهم الرحمة (إر31: 3). وهذه الفترات الست هي كالآتي.
الفترة الأولى: تتحدث عن بداية تاريخ الأمة من دعوة إبراهيم، ثم فترة الآباء، ثم خروجهم من أرض مصر على عهد موسى، وسيرهم في البرية، ثم دخولهم الأرض وتأسيس المملكة على عهد داود، ثم بناء الهيكل على عهد الملك سليمان. وتستمر هذه الحقبة حتى السبي البابلي. وهذا ما نراه في القسم الأول من هذا النشيد، أي من (ص1: 2 - 2: 7).
والفترة الثانية: تحدثنا عن رجوعهم من السبي البابلي، وبنائهم للهيكل للمرة الثانية. ثم فترة الصمت التي استمرت من ملاخي آخر الأنبياء في العهد القديم، حتى خروج يوحنا المعمدان للخدمة، وفيها كان الأتقياء ينتظرون مجيء المسيا بالجسد. ولقد تم تجسد ابن الله ووصول المسيح إلى الأرض ليفتقد تلك الأمة ويباركها. وهذا ما نراه في القسم الثاني من سفر النشيد، أي من (ص2: 8 إلى 3: 5).
والفترة الثالثة: تمثل فترة وجود المسيح بالجسد، وخدمته بين شعبه الخاص لمَّا كان على الأرض، واتِّباع بقية قليلة من هذه الأمة له، بينما الأمة بصفة عامة لم تقبله، ورؤساء الأمة أبغضوه، وانتهت هذه الفترة (القصيرة نسبيًا) بصلب ابن الله، ثم قيامته من الأموات، وصعوده إلى السماء، من ثم أتى الروح القدس، وحل على التلاميذ في يوم الخمسين، في ما يُمَثِّل - بحسب الاصطلاح النبوي: “المطر المبكر”. وبمجيء الروح القدس إلى الأرض تَكَوَّنت. وهذه الأفكار نراها في القسم الثالث من سفر النشيد، أي (من أصحاح 3: 6 إلى 5: 1).
الفترة الرابعة: في بدايتها نرى تعامل الرب مع هذه الأمة بعد نزول الروح القدس من السماء، يتودد إلى قلوبهم، لكي يتوبوا ويرجعوا فتأتيهم أوقات الفرج، ويرسل إليهم يسوع المسيح المُبَشَّر به لهم من قبل (أع3: 17-21)، ولكنهم تجاهلوه، فكان نتيجة ذلك أن رفضهم الرب رسميًا وَتَحَوَّل عنهم. وتنتظرهم فترة الضيقة العظيمة، والتي من خلالها سيقود الرب بقية من شعبه لكي يبحثوا عنه. ومن خلال التأديب المُذل ستتولد فيهم الأشواق الصادقة إليه. وهو ما نراه في القسم الرابع من هذا السفر أي من أصحاح 5: 2 إلى 6: 13.
الفترة الخامسة: تُمثل ظهور الرب لهم بالمجد والقوة ليؤسس ملكه السعيد على كل العالم. وهي فترة وإن كانت صغيرة زمنيًا لكنها مجيدة، وَتَكَلَّم الأنبياء عنها كثيرًا، وينتظرها الأتقياء من القديم. وهو ما نراه في القسم الخامس من سفر النشيد، أي من أصحاح 6: 14 - 8: 4.
الفترة السادسة: والأخيرة تمثل الملك الألفي، أي مُلك الرب على شعبه وعلى كل الأرض. وهو ما نراه في القسم السادس والأخير في هذا السفر من أصحاح 8: 5-14.
من هذا يتضح لنا أن الأقسام الستة لهذا السفر تمثل لنا ست فترات مختلفة في تاريخ هذا الشعب، الفترات الثلاث الأولى (وتشغل نصف السفر الأول) تمت في الماضي، والفترات الثلاث الأخيرة تنتظر الإتمام في المستقبل. كما نلاحظ أن هذه الحقب غير متساوية زمنيًا، ولكنها كلها هامة في خطة الله من نحو هذا الشعب.
وفي كلمات قليلة يمكننا أن نقول إنَّ أقسام هذا السفر الستة من جهة تعاملات الرب مع هذه الأمة هي:
القسم الأول: نرى فيه جذور الأمة، وبدايتها، وتستمر حتى السبي البابلي.
القسم الثاني: يُمَثِّل الرجوع من السبي، حتى ظهور المسيح بين شعبه.
القسم الثالث: تُصَوِّر لنا فترة المسيا، ووجوده معهم بالجسد على الأرض.
القسم الرابع: نرى فيه الضيقة العظيمة.
القسم الخامس: الظهور.
القسم السادس: المُلك.
يحكي النبي حزقيال في الأصحاح السادس هذه القصة المثيرة، فيُصَوِّر لنا الأمة كطفلة في يوم ولادتها. ويمكن القول إن إسرائيل في طفولتها لم يكن فيها ما يميزها عن سواها، لكن الرب تعامل معها بالنعمة والرحمة المُطْلَقتين. ثم رآها بعد ذلك وقد كبرت، وبعينيِّ المحبة رأى أن زمنها زمن الحب، فأحبها.
وهي لفترة قصيرة جدًا بادلته الحب. والرب في آخر تاريخ المملكة، وبعد مئات من السنين يقول للشعب على أيام إرميا: «ذكرت لك غيرة صباك، محبة خطبتك، ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة» (إر2: 2). تَذَكَّر الرب تلك الأيام الغالية على قلبه، وعاتب الشعب لأنهم تركوا المحبة الأولى (رؤ2: 4). ومع ترك المحبة الأولى حدث الانحراف، وانحرفوا جدًا عنه، فلم يكن ممكنًا أن تستمر العلاقة، رغم أن بيت الزوجية كان قد تهيأ، وذلك بوصولهم إلى أرض كنعان. لكن هذا لا بد أن يتم في المستقبل، وعدم أمانتهم لا يمكن أن يُبَطِّل أمانة الرب. وسيتم الزواج السعيد في الملك الألفي، كقول الرب: «لا يُقال بعد لك مهجورة، ولا يُقال بعد لأرضك موحشة، بل تدعين حفصيبة، وأرضك تدعى بعولة. لأن الرب يُسَرُّ بك، وأرضك تصير ذات بعل. لأنه كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك، وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك» (إش 62: 4، 5).
(يتبع)
يوسف رياض