أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2012
الحديد يطفو
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
وَقَالَ بَنُو الأَنْبِيَاءِ لأَلِيشَعَ: هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ مُقِيمُونَ فِيهِ أَمَامَكَ ضَيِّقٌ عَلَيْنَا.  فَلْنَذْهَبْ إِلَى الأُرْدُنِّ وَنَأْخُذْ مِنْ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ خَشَبَةً، وَنَعْمَلْ لأَنْفُسِنَا هُنَاكَ مَوْضِعًا لِنُقِيمَ فِيهِ.  فَقَالَ: اذْهَبُوا.  فَقَالَ وَاحِدٌ: اقْبَلْ وَاذْهَبْ مَعَ عَبِيدِكَ.  فَقَالَ: إِنِّي أَذْهَبُ.  فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ.  وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الأُرْدُنِّ قَطَعُوا خَشَبًا.  وَإِذْ كَانَ وَاحِدٌ يَقْطَعُ خَشَبَةً وَقَعَ الْحَدِيدُ فِي الْمَاءِ. فَصَرَخَ: آهِ يَا سَيِّدِي لأَنَّهُ عَارِيَةٌ! فَقَالَ رَجُلُ اللَّهِ: أَيْنَ سَقَطَ؟ فَأَرَاهُ الْمَوْضِعَ، فَقَطَعَ عُودًا وَأَلْقَاهُ هُنَاكَ، فَطَفَا الْحَدِيدُ. فَقَالَ: ارْفَعْهُ لِنَفْسِكَ.  فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ» (2مل6: 1-7).
يا له من أمر عجيب أن أليشع الذي تدخل لكي يُوفّر الماء لثلاثة جيوش، كانت ستهلك بالعطش، بسبب عدم وجود الماء، يتدخل بنفسه لكى يُخرج قطعة حديد سقطت في الماء!  لكن لا عجب، فالله يهتم بأمورنا الكبيرة كما يهتم بالصغيرة أيضًا.  إن أمورنا الصغيرة كبيرة أمام محبته، وأمورنا الكبيرة صغيرة أمام قدرته.
وهناك خمسة أفكار نراها في هذه المعجزة:

1- الشعور بالاحتياج

لقد شعر بنو الأنبياء بحاجتهم لتوسيع مكان إقامتهم.  وإنها لواحدة من أعظم البركات التى يُنتجها تعامل الله معنا؛ الشعور بالاحتياج.  وهذا الشعور بالاحتياج يقود إلى التغيير في حياتنا.  وبدون هذا الشعور نكون في رضى عن حالتنا وأوضاعنا، وبالتالي لن يكون هناك تغيير.  إن العملية الأولى التي يُسرّ الله أن يُوجدها في حياتنا هي شعورنا بالاحتياج، هذا الأمر سيكون نقطة انطلاق لمحاولة تغيير حالتنا التي نحن عليها، بل ونقطة انطلاق لنرتمي على الرب لكى يصنع لنا ما نحتاجه.  لقد غاب الشعور بالاحتياج عن ملاك كنيسة لاودكية، فشعر بأنه غني وقد استغنى ولا حاجة له إلى شيء، في حين أنه «الشَّقِيُّ وَالْبَائِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ»، وهذه الخماسية تحكي عن حالته الفعلية وما كان يحتاجه ولكنه للأسف لم يكن لديه شعور بذلك (رؤ3: 17).
لقد شعر بنو الأنبياء بالاحتياج، فقالوا لأليشع: «هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي نَحْنُ مُقِيمُونَ فِيهِ أَمَامَكَ ضَيِّقٌ عَلَيْنَا».  لم يكن لديهم أية رغبة في طمس الحقيقة.  قالوا لأليشع الموضع الذى نحن مقيمون فيه «أَمَامَكَ»؛ فأمام أليشع كل شيء واضح، وكل شيء يحكى ويعكس بوضوح الاحتياج.
لقد كان مكان إقامتهم ضيق، ونحن من الممكن أن نشعر أن مكان إقامتنا روحيًا ضيق.  ما أكثر ما أعده الله لنا! وما أحلى وأجمل المكان الروحي الذي نقلتنا إليه نعمة الله! ولكن ما أقل تمتعنا به!  لنا الكثير، ولكن ما نقيم فيه ضيق وصغير بالمقارنة بما لنا.
وما لم نشعر باحتياجنا إلى النمو، والمزيد من الشركة والعلاقة مع الرب، فلن نطلب التغيير في أمورنا الروحية؛ سنقول كما قال ملاك كنيسة اللاودكيين: «لا حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ».  بعكس يعبيص الذي قال للرب: «لَيْتَكَ تُبَارِكُنِي، وَتُوَسِّعُ تُخُومِي» (1أخ4: 10).  وبقدر ما نكون في شركة مع الرب - مثل يعبيص – كلما تعمَّق الاحتياج في قلوبنا لمزيد من الامتلاك والتمتع بما لنا.  أما إذا رضينا وقنعنا بحالتنا فهذا دليل على أننا لسنا في حالة صحيحة.  إذا تركنا قلوبنا للعالم وأمور العالم، حتمًا لن نشعر بما نحن فيه من ضيق وعوز، وسنقنع بحالتنا.  لكن العكس تمامًا إذا رفضنا أمور العالم وكنا في شركة حقيقية مع أليشعنا الحقيقي، سنكتشف أن احتياجنا أكبر وأعظم.
كانت الوسيلة للتغيير معروفة: «فَلْنَذْهَبْ إِلَى الأُرْدُنِّ وَنَأْخُذْ مِنْ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ خَشَبَةً، وَنَعْمَلْ لأَنْفُسِنَا هُنَاكَ مَوْضِعًا لِنُقِيمَ فِيهِ» (ع2).  كان لدى بني الأنبياء قناعات صحيحة، وها هي تتحول إلى قرارات صحيحة، فلا حل للمشكلة سوى بالذهاب إلى الأردن «فَلْنَذْهَبْ إِلَى الأُرْدُنِّ». هذه هي البداية.  الأردن يتحدث عن موتنا مع المسيح، هذه الحقيقة المؤلمة كثيرًا ما نتجنبها كمؤمنين، ولكن بداية كل تغيير تأتي من نظرة صحيحة لذواتنا.  الجسد قد دِين في الصليب، ولم يكن هناك أي حل له، لا تعديل أو تحسين أو تغيير بل موت.
«فَلْنَذْهَبْ إِلَى الأُرْدُنِّ وَنَأْخُذْ مِنْ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ خَشَبَةً».  الخشبة لا تحتاج أن تُقطع فهي قد قُطعت بالفعل، “قُطْعَ الْمَسِيحُ وَلَيْسَ لَهُ (المُلْك)” (دا9: 26).  هناك فقط نذهب لنأخذ خشبة.  وعلينا أن ندرك شيئًا عن الخشبة التى عُلّق عليها المسيح، فالصليب كان الوسيلة للحكم على الجسد «لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْجَسَدِ، فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ» (رو8: 3، 4).  وأن يأخذ كل واحد خشبة، هذا يُذكرنا على نحو ما بكلام الرب يسوع: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَتْبَعْنِي» (لو9: 23).  فالمسيح – تبارك اسمه - قُطع مرة واحدة، ولكن علينا نحن أن نحمل الصليب كل يوم وكل لحظة.
عندما نأخذ لأنفسنا كل واحد خشبة، يأتي القول الجميل: «وَنَعْمَلْ لأَنْفُسِنَا هُنَاكَ مَوْضِعًا لِنُقِيمَ فِيهِ».  إنهم لن يبنوا مكانًا بعيدًا عن الأردن، بل بالقرب منه ويقيموا هناك.  وهكذا لنا ثلاثية رائعة تبدأ بالذهاب للأردن، ثم يأخذوا كل واحد خشبة، وأخيرًا نعمل لأنفسنا موضع.
في الأولى نرى التوجه الصحيح،
وفي الثانية نرى العمل الصحيح،
وفي الثالثة نرى الرغبة الصحيحة.
لقد أقام بولس عند الأردن، فاستطاع أن ينتصر على رغبة الجسد فقال «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غل6: 14)، في الصليب الموضع الذي فيه يقال: «صُلِبَ الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ».  
هنا يكتشف بنو الأنبياء أنهم لم يكونوا فى حاجة إلى توسيع الموضع، بل إلى تغيير الموضع، ليكون بجوار الأردن، ومصنوع من خشب الأردن.
لقد ذكروا كل ما سيفعلونه، وتركوا لأليشع المجال لاتخاذ ما يحسن في عينيه.  وبالفعل كانت إجابته لهم ليس أن ما يفعلونه صحيح فقط، بل كانت إجابته إلزامية «فَقَالَ: اذْهَبُوا».  لقد استعرضوا أشواق قلوبهم أمام أليشع، وإذ بهم يجدونه موافقًا بل ويأمرهم بأن يفعلوا هذا.  كم من المرات ندخل فيها إلى عرش النعمة، ونُظهر أشواقنا ورغائبنا، وإذا بالرب يُفاجئنا بتكليف إلهي لِما فكرنا في فعله.
 في مرة سابقة «أَلَحُّوا عَلَيْهِ» وبعد الإلحاح «خَجِلَ وَقَالَ: أَرْسِلُوا» (2مل2: 17)، ولكن تجاه الرغبات الصحيحة والحقيقية، لا حاجة للإلحاح أبدًا، بل على الفور نسمع كلمة “اذْهَبُوا”.

2- طلب واشتياق

لقد كان اشتياق بني الأنبياء صحيحًا، كما كانت إجابة أليشع على هذا الاشتياق واضحة «اذْهَبُوا».  وبالرغم من صحة توجّههم ومصادقة أليشع على رغبتهم، إلا أنه كان ينقصهم شيء في غاية الأهمية؛ معيّة أليشع معهم.  قد يُنشِىء الله فينا رغبات صحيحة، وقد يصادق عليها، بل ويأمرنا بفعلها، ولكن علينا أن نُطالبه بتحركه معنا.
هنا نرى رغبة أخرى لا تختص بالعمل الذي يتطلبه بناء البيت، بل رغبة تختص برفقة شخص هو أليشع «فَقَالَ وَاحِدٌ: اقْبَلْ وَاذْهَبْ مَعَ عَبِيدِكَ.   فَقَالَ: إِنِّي أَذْهَبُ.  فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ».  الرغبة الأولى كانت جماعية، ولكن الرغبة في ذهاب أليشع هي فردية.  إن الرغبة أن نكون في شركة مع الرب نفسه في خدمتنا، أمر فردي، قد يقدم عليه البعض وقد لا يقدمون.
رغبة هذا الرجل جاءت بطريقة رائعة، حيث طلب من أليشع قائلاً: «اقْبَلْ وَاذْهَبْ مَعَ عَبِيدِكَ». إن رغبة صحيحة من شخص واحد، تستجلب الخير للجماعة كلها، فإذا ذهب أليشع لن يذهب معه فقط بل مع «عَبِيدِكَ».  
والطلب يعكس احتياجهم الشديد لأليشع، وليس احتياج أليشع، كما أنه شرف عظيم أن يذهب معهم «اقْبَلْ واذهب».  هذه الدعوة بلا شك تمنح أليشع مكانته اللائقة به من حيث الكرامة والرفعة؛ وهي تعكس أيضًا شعورهم بمكانتهم الحقيقية، فهم مجرد «عَبِيدِكَ».  أليشع هو كل شيء، وهم كلا شيء.
هل لنا الإدراك بمَن هو الرب يسوع فى ذاته، من حيث قدرته وقوته ومجده، ومن نحن مِن حيث ضعفنا وهشاشيتنا، واحتياجنا لمعيته وإرشاده.
إن عبارة هذا الرجل، لخَّصت صورة الخدمة الصحيحة، أنها عمل مع الرب نفسه، وهي عمل مع شخص يُشرفنا جدًا أن نعمل معه.  بالاختصار الرب هو السيد ونحن العبيد الخاضعين له ولإرشاده.
لقد قال الرب يسوع مرة لتلاميذه «بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا» (يو15: 5).  وعلينا أن ندرك جيدًا، أننا قد نتحرك في الخدمة ونفعل أشياء كثيرة، ولكن إذا تحركنا بدون الرب ستكون النتيجة أولاً: لا تأثير على الأرض، ولا مكافأة أمام كرسي المسيح.  دعونا نرتعب أن نقوم بأي شيء حتى لو كان هناك مصادقة من الرب شخصيًا عليه، دون الشعور بمعيته في كل لحظة.
ونلاحظ أن وجود أليشع لا يضمن عدم حدوث مشاكل أثناء العمل، ولكنه يضمن علاج المشكلة إذا حدثت، وبالفعل حدثت المشكلة، ولكن أليشع قام بحلها وقدَّم العلاج.

3- عمل وارتياع

«فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ.  وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الأُرْدُنِّ قَطَعُوا خَشَبًا» (ع4).  لقد انطلق أليشع معهم، وعندما وصلوا إلى الأردن بدأوا في قطع الخشب.  في ع2 قرأنا أنهم ذهبوا ليأخذوا خشبًا، ورأينا في هذا قطع المسيح، وأن العمل قد أُكمل تمامًا، وما عليهم ألا أن يأخذوه فقط. ولكن هنا نقرأ أنهم ذهبوا ليقطعوا خشبًا وفى هذا لا يوجد تناقض، فالأمر هنا نراه بالارتباط لا بالنعمة وإكمال العمل، بل بالمسؤولية، وبدور المؤمن الذي لا بد أن يقوم به.
وهذان الجانبان نجدهما كثيرًا في عهد النعمة، أحيانًا يقول الكتاب إن الإنسان العتيق صُلب مع المسيح، بينما في أحيان أخرى يُطالبنا «أَمِيتُوا اعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ»، وهنا نجد الجانبين. دور قام به الله، ودور نقوم نحن به.
بالفعل ذهبوا إلى هناك وبدأوا العمل، وبينما كان أحدهم يقطع خشبًا، وقع الحديد في الماء.  لقد حدثت المشكلة لسبب من اثنين: إما أنَّ هذا الشخص كان خشنًا وعنيفًا أكثر من اللازم، فاستخدم الحديد بقسوة، وكانت النتيجة أن الرأس الحديد انخلعت وضاعت، أو أنه كان مهملاً ويعمل برخاوة، فلم يقم بتثبيت القطعة الحديدية بصورة جيدة فى قطعة الخشب التى تحملها، وبالتالي انخلعت وفُقدت.  والإنسان دائمًا يميل إلى أحد النقيضين: إما أن يتدين ويحاول بأعماله وقوته الذاتية أن يرضي الله كالفريسيين، أو يرتخي وينفذ كل شهواته ورغائبه كالصدوقيين، وفى الحالتين لايوجد سوى الضياع.
على أي حال لقد فُقد الرأس الحديد، فصرخ الرجل لأليشع: «آهِ يَا سَيِّدِي لأَنَّهُ عَارِيَةٌ!».  لقد كانت قطعة الحديد مُستعارة من شخص آخر، وهذا ما عَظَّم المشكلة.  والحقيقة أن كل ما لدينا هو عارية؛ نحن وكل ما لنا هو من الرب وللرب، وعلينا أن نكون أمناء تجاه كل ما أعطاه الله لنا.  وعندما ضاعت قطعة الحديد صرخ الرجل:  لقد فُقدت الأداة التي يقطع بها الشجرة؛ الفأس، وهى مكونة من جزئين، قطعة من الحديد وأخرى من الخشب تحمل القطعة الحديدية.  إن ضياع القطعة الخشبية أو تلفها لا يؤثر، لأنه من السهل تغييرها على الفور بقطعة أخرى، ولكن المشكلة هو ضياع الرأس الحديدي، لأن ضياعها يعني ضياع قيمة الشيء ذاته.  ونحن نرى هنا - بصورة رمزية - تلك الحقيقة الخطيرة التى تعكسها القصة ببساطة، أن الرأس قد ضاع، بدخول الخطية إلى العالم.  لقد فسد - لا قلب الإنسان فقط - بل عقله أيضًا.   في تكوين6: 5 نقرأ «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ».  ثم في سفر المزامير نقرأ: «اَلرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ أَشْرَفَ عَلَى بَنِي الْبَشَرِ، لِيَنْظُرَ: هَلْ مِنْ فَاهِمٍ طَالِبِ اللهِ؟ الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا، فَسَدُوا.  لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (مز14: 2، 3).  وفي سفر أيوب نرى الرأس الذي ضاع: «أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ، وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ» (أي11: 12)، ولم يكن هناك مكان نتأكد فيه من ضياع الرأس تمامًا قدر الصليب، فهناك أثبت الإنسان أنه عديم الفهم، لقد صُلب الرب في “جمجمة”.  والجمجمة هي رأس فارغ.  لقد فهم بولس هذه الحقيقة وتأكد من ضياع رأس الإنسان، فقال:  «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ» (1كو2: 8).  إن عقولهم كانت قد توقفت عن العمل عندما حكموا على المسيح وصلبوه.

4- معجزة الارتجاع

دعونا أولاً نقف أمام سؤال أليشع: «أَيْنَ سَقَطَ؟»، فلا علاج لحالتنا بدون أن نجيب عن مثل هذا السؤال.  كانت نصيحة الرب لملاك كنيسة أفسس «اذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ» (رؤ2: 5).  ودعونا نُريه الموضع.  لم يكن في استطاعة هذا الرجل أن يسترجع قطعة الحديد، ولكن كان في استطاعته أن يُرشد أليشع إلى نقطة السقوط وموضع الضياع «فَقَطَعَ عُودًا وَأَلْقَاهُ هُنَاكَ، فَطَفَا الْحَدِيدُ».
«فَقَطَعَ عُودًا»؛ لقد استحضر أليشع بوضوح صورة الصليب.  لقد جاء الرب يسوع إلى هذا العالم باعتباره العود الأخضر الرَّطْب «نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ» (إش53: 2؛ لو23: 31).  كان العُود الذي قُطع يحمل الحياة.  إنه يُقدِّم صورة عن المسيح الذي «قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ ... ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي» (إش53: 8).  هذا العود ليس فقط قُطع ولكن أُلقيَّ في موضع سقوط الحديد، ولنا أن نتخيَّل أنه حدث شيء من اثنين:
1- إما أن هذا العود وهو يطفو فوق سطح الماء، بدأ يتحدث إلى قطعة الحديد التى توجد فى أسفل النهر؛ بدأ ينصحها بأن تترك الظلمة والطين، وتصعد إلى النور والحياة، وإلى النفع في الاستخدام.  وهنا نرى جانبًا رائعًا من تأثير الصليب، لقد قال الرب مرة: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو12: 32).  ويا له من شيء مجيد أن تترك هذه القطعة الحديدية الطين، وتصعد بفعل جاذبية العود. ومن المؤكد أنها غُسلت بالماء أثناء صعودها.   ثم هى جُذبت من الظلمة فى الأعماق إلى النور الموجود فى الخارج، ومن مكان عدم النفع وعدم الإستخدام، إلى السطح حيث الاستخدام بل النفع أيضًا.
2- وهناك تَصَوُّر آخر هو: ليس أن العود ظل طافيًا حتى جذب قطعة الحديد، بل إنَّ العود نزل إلى المياه، وظل ينزل، وربما وهو ينزل كأنه يصرخ: «غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ.  كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ» (مز42: 7).  لقد كان ينزل وهو يتحمل قضاء الله حتى وصل إلى الطين، فكان لسان حاله: «وَضَعْتَنِي فِي الْجُبِّ الأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ، فِي أَعْمَاقٍ.  عَلَيَّ اسْتَقَرَّ غَضَبُكَ، وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي» (مز88: 6، 7)، «خَلِّصْنِي يَا اللهُ لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي.  غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ.  دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي» (مز69: 1، 2).  وعندما وصل العود إلى قطعة الحديد ارتبط بها، وحملها وصعد بها إلى السطح.  وهل هذا التصور بعيد عن الحقيقة التي حدثت في الصليب؟!

5- شعور بالارتياح

«فَقَالَ: ارْفَعْهُ لِنَفْسِكَ.  فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ» لقد قام هذا الرجل بدور واحد يتلخص فى إضاعة قطعة الحديد، ولكن أليشع هو الذى قام بكل شيء لإرجاعها.  ولكن هناك جانب تركه أليشع للرجل ليعمله: «ارْفَعْهُ لِنَفْسِكَ».  فاليد التى أضاعت كل شيء، لا بد أن تعود لتستلم ما أضاعته، وهنا نرى عمل الإيمان، فلا بد أن يكون للإيمان عمل، وإيمان بدون أعمال، ميت.
وقال أليشع للرجل: «ارْفَعْهُ لِنَفْسِكَ».  وكلمة «لِنَفْسِكَ» توضح أنه سيمسك بهذا الرأس لا كما هو مُستعارة كما فى البداية، بل كما هو الآن ملك له، وقد أصبح له غلاوة خاصة ليهتم بها، وبالفعل كانت النهاية في المشهد هي الطاعة، حيث نقرأ: «مَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهُ».
لقد بدأ هذا الجزء بأن عرضوا على أليشع الأمر وكانوا على استعداد أن يخضعوا لما يراه، ويُختم بالطاعة.  الخضوع بلا شك شيء رائع، ولكنه يصبح أجمل عندما يرتبط بالطاعة.
إسحق شحاتة

إسحق شحاته