هل اتخذت أية قرارات للسنة الجديدة؟ هل تعهدت وعزمت أن تفعل بعض الأشياء في بداية هذا العام؟ هل كسرتها بعد؟ ربما تكون قد كسرت قرار إتباع نظام غذائي، أو ممارسة التمرينات الرياضية، وربما تكون قد كسرت قرارًا روحيًا بخصوص قراءة الكتاب المقدس خلال العام أيضًا، فأُحبطت بسبب عدم التزامك. إلا أنك ربما تكون في صراع مع فشل أكبر وأخطر من الإخفاق في قرارات العام الجديد.
هل خذلت الرب بطريقة ما، تعتقد أنها لا تُغفر؟ هل يُلاحقك الشعور بالذنب والإحباط نتيجة لذلك؟ هل يئست من الوصول إلى الحياة بصورة تُرضى الرب؟ هل تشعر بأنك لن تكون نافعًا مرة أخرى لخدمة الرب؟ حسنًا، هناك أمل؛ الفشل ليس النهاية!
حتى الإخفاق الخطير في الحياة المسيحية يجب ألاَّ يتعدى نقطة اللا عودة. لا يمكن للسقوط أن يُبرَّر أو يُقبَل، لكن يمكن أن يكون فرصة لتتعظم محبة الله ونعمته. إن الله يعلم أننا ضعفاء وأننا عُرضة للسقوط، لذلك فهو يمد كل مؤمن تائب بنعمة رد النفس (مز103: 8-14)، وله طريقة بديعة في جمع الأشلاء وصنع شيء جميل من حياة مؤمن محطمة. وهناك أمثلة كتابية عديدة لم يكن السقوط فيها نهاية عمل الله الفعال.
في هذا المقال يمكننا سرد أمثلة عديدة للفشل في حياة كل من إبراهيم وموسى وداود وإيليا ويونان وأبطال الإيمان الآخرين! لكن لضيق المساحة سنركز على اثنين من مؤمني العهد الجديد فقط وهما بطرس ومرقس.
واحدة من أشهر القصص في حياة الرسول بطرس هي إنكاره للرب. ونحن نتعجب كيف استطاع بطرس أن يفعل هذا – لكن هل كنا سنختلف عنه؟ لقد كان بطرس بعد العشاء الأخير واثقًا جدًا من إيمانه حتى أنه صَرَّح: «وَإِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!». فأجابه يسوع: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ ... قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». فرد بطرس مسرعًا وبِأكثرِ تَشْدِيدٍ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ» (مر14: 29- 31).
وبعد ساعات قليلة تحققت نبوة الرب يسوع، وَصَرَّح بطرس ثلاث مرات بلعن وحلف أنه لا يعرف يسوع (مر14: 71). هل بإمكانك تخيل شعور بطرس بالذنب والندم عندما صاح الديك فجأة. والرب يسوع إذ كان أسيرًا في ذلك الوقت نظر إليه مباشرة بحزن وبإشفاق وبمحبة، فخرج بطرس من الدار وبكى بكاءً مرًا. لا بد أنه ظن أن فشله كان هو النهاية، وعلى أي حال فهو لم ينكر كونه تلميذ الرب فحسب، لكنه حلف أنه لا يعرفه! وعلى الأرجح اعتقد بطرس أنه خسر وإلى الأبد كل فرصة للتعبير عن أسفه وطلب الغفران من الرب عندما اقتيد الرب إلى المحاكمة.
رد نفس بطرس
لم يكن فشل بطرس هو النهاية لأن الرب في نعمته احتفظ له بخطط عظيمة، وكان هدفًا خاصًا لمحبة الرب يسوع عند إفطار رد النفس الذى كان عند بحر الجليل. لقد كان الرب على علم بمشاعر الذنب التى اجتاحت بطرس وكان يعرف تمامًا كيف يرد نفسه بلطف بتقنية السؤال والجواب (يو21: 15- 19). إن رد الرب لنفس بطرس بهذه الرقة هو بكل تأكيد تحقيق للمقطع المسياوي الرائع الوارد في إشعياء: «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لاَ يُطْفِئُ» (أش42: 3).
من الجدير بالذكر أن الرب يسوع استخدم لفظين يونانيين مختلفين ومعروفين للتعبير عن المحبة عندما سأل بطرس «أَتُحِبُّنِي؟» (يو21: 15- 17). فالكلمة اليونانية “phileo” تشير إلى “المشاعر الرقيقة” بينما تشير الكلمة “agapao” إلى “محبة تتضمن تضحية وإنكارًا للذات طوعًا من أجل المحبوب”. ولقد استخدم الرب لفظة “agapao” في سؤاله الأول والثاني لبطرس ولفظة “phileo” في المرة الثالثة، إلا أن بطرس أجاب في الثلاث مرات مستخدمًا التعبير “phileo”. وعلى الأرجح كان الرب يتكلم مع بطرس بالأرامية التى لا تحتوى على كلمات مساوية في المعنى الدقيق لهاتين الكلمتين اليونانيتين عن “المحبة”. إلا أن يوحنا (الذى كان حاضرًا لهذا الحوار) استخدم هذين اللفظين المحددين بقيادة الروح القدس، لينقل بالضبط جوهر حوار ربنا مع بطرس لرد نفسه.
بعد خبرته الأخيرة من تصريحاته اللا مسؤولة وبالتالي فشله، يبدو أن بطرس كان في غاية الخجل من أن يُعرِّف محبته أنها كانت “agapao” (المحبة القوية التى تحوى تضحية إرادية بالذات) للرب. لكن كان للرب خطط لحياته، وكالشفيع أخبره أن فشله ليس هو النهاية، وكانت شفاعته مؤثرة فاستمر بطرس مُستخدَّمًا من الله بقوة! فقادته محبته للمسيح إلى خدمة مضحية على مدى ما بقى من حياته، حتى إلى السجن والموت كشهيد أمين. وإن كان الرب قد سامح بطرس ورد نفسه، ألا يفعل هذا معنا؟ إن الله يُعَلِّمنا هذا الدرس الرائع بتسجيل فشل بطرس ورد نفسه في كلمته.
لم يكن يوحنا مرقس رسولاً، لكن من الواضح أنه كان مُصاحبًا للرسل منذ أيام المسيحية الأولى. ويمكن جدًا أن يكون الشاب الذى هرب ليلة القبض على يسوع هو مرقس نفسه (مر14: 51-52). لقد اجتمع المؤمنون الأوائل في بيت تملُكه مريم أم مرقس، ولما خرج بطرس من السجن بمعجزة أتى إلى ذلك البيت (أع12). ويشير بطرس إلى مرقس كابنه في الإيمان في 1بطرس5: 13، لكننا لا نعرف متى وأين أو إن كان بطرس هو مَنْ قاد مرقس إلى الإيمان بالمسيح، لكن بكل تأكيد كانت هناك علاقة أب وابنه بين بطرس ومرقس.
وكان برنابا ذا قرابة لمرقس (كو4: 10) فعرَّفه بالرسول بولس. وأتى كل من برنابا وبولس من أنطاكية إلى أورشليم ليُقدما خدمة إلى الكنيسة التى في اليهودية بسبب الجوع المنتشر آنذاك (أع11: 27-30)، ولما عاد برنابا وبولس إلى أنطاكية رافقهما مرقس، فكان بذلك في المكان الصحيح في الوقت الصحيح عندما بدأ بولس وبرنابا أُولى رحلاتهما التبشيرية. وإذ رافقهما مرقس اشترك أيضًا في خدمتهما في جزيرة قبرص.
لكن لما استعد فريق التبشير للتوجه إلى قلب أسيا الصغرى تركهم مرقس وعاد إلى بيته في أورشليم (أع13: 13). لماذا؟ نحن لا نعلم بالتحديد: ربما بسبب الحنين للوطن، أو بسبب مرض جسدي؛ بأي نوع من “الأنفلونزا الآسيوية”! ربما لم يحتمل قسوة السفر التبشيري لأن مخطط الرحلة التبشيرية العتيدة تضمن عبور جبال وعرة مليئة باللصوص، أو ربما لم يرضَ بتغيير القيادة غيرالمتعمد من خاله برنابا إلى بولس الأصغر سنًا.
على أية أحوال لقد تخلف مرقس عن التزامه للرب ولفريق التبشير، فما كان يعنيه هذا الفشل بالنسبة لبولس هو أن مرقس لم يكن مؤهلاً للقيام بالرحلة التبشيرية الثانية (أع15: 38). واختلف كل من بولس وبرنابا بشدة حول مرقس حتى افترق الرسولان عن بعضهما، فاتجه بولس مع سيلا إلى أسيا الصغرى، وأخذ برنابا مرقس معه إلى قبرص. وكون فشل مرقس نتج عنه فريقان للكرازة فهذا لا يُبرر فشل مرقس، لكنه يرينا بالفعل أن الله يستطيع أن يعمل من خلال فشلنا ليحقق مقاصده.
رد نفس مرقس
إن الكتاب لا يُخبرنا عن نتائج خدمة برنابا ومرقس في جزيرة قبرص، لكن أعمال مرقس اللاحقة تثبت أن فشله لم يكن النهاية، فالرب لم يُنَحِّ مرقس عن الخدمة. وبعد عشر سنوات كان بولس في سجن منزلي في روما، ومن هناك كتب رسائل تحريضية ومشجعة لأفراد ولكنائس محلية. فنرى أن مرقس لم يعد فقط إلى عناية بولس لكنه كان عضوًا مُقدَّرًا في فريق عمله مرة أخرى، كما ذُكر بالاشتراك مع أعضاء الفريق في سلامات بولس الشخصية إلى فليمون (فل24).
وذُكرت سلامات مرقس أيضًا في كولوسي 4: 10، وحرَّض بولس الكنيسة التى في كولوسي على قبول مرقس إذا ما أتى إليهم. ويبدو أنه استمر في خدمة الرب تحت توجيه بولس بعدما أُطلق سراح بولس من السجن المنزلي في روما. وعندما كتب بولس رسالته الأخيرة من سجنه الثاني في روما، أوصى بمرقس مرة أخرى كاتبًا لتيموثاوس «خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ» (2تى4: 11). فما كان فشل مرقس السابق سوى تراجع مؤقت في مسيرة إيمانه.
ودليل آخر على أن فشل مرقس لم يكن النهاية، هو حقيقة اختيار الله له ليكتب واحدًا من الأناجيل وموضوعه المسيح كالخادم الكامل. فما أروع أن يختار الله مرقس بالذات ليخدمه ككاتب لهذا الموضوع العظيم! هل نحتاج إلى مزيد من الأدلة لنبرهن على أن الله قادر أن يجمع الأشلاء من حياة مؤمن فاشل؟
وكون بولس لم يُلْغِ مرقس نهائيًا من الخدمة المسيحية معه فيما بعد، لهو درس ثمين لنا. فهناك من يمسكون بفشل الماضي ضد مؤمنين تائبين، متسببين لهم الإحباط والضياع، وهناك آخرون يعتبرون من سبق وفشلوا أنهم مؤمنون “درجة ثانية” بصورة دائمة، لكن فشل أخ أو أخت في المسيح ليس بالضرورة علامة عيب دائم في الشخصية. فلنحذر من التطاول على طبيعة الله برفض مسامحة المؤمنين التائبين، الذين قَبِل الله أن يسامحهم (أف4: 32 ؛1يو1: 9). نحن بحاجة لأن نكون مستعدين لمسامحتهم وإصلاحهم للشركة وللخدمة النافعة.
بالرغم من أن هناك أنواعًا معينةً من الفشل تؤثر باستمرار على دائرة الخدمة المسيحية، إلاّ أن الله لا يمكن أن يُسقِط المؤمن، لا من الخلاص ولا من الخدمة المستقبلة. لذا دعونا لا نقسو على إخوتنا ونحكم عليهم أكثر من الله! إن إصلاح مؤمن متعثر لخدمة نافعة، هي وظيفة هامة للمؤمنين الروحيين لذلك كتب بولس: «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ» (غل 6: 1). وكلمة «أَصْلِحُوا» اليونانية تعنى أيضًا “التئام العظام” أو “إصلاح الشباك”، وهو تنويه واضح أن الشخص الذى أُصلح سيكون نافعًا للخدمة فيما بعد!
لقد حفظ الرب هذه الأحداث من حياة كل من بطرس ومرقس في الكتاب المقدس لتكون مشجعة لنا، أما الإحباط والشك فهما عائق لنا وقت فشلنا، إذ نتسرع ونلقي بأنفسنا في استنتاج خاطئ أن الله نفض يده منا. فلنحذر من أن نقلل من شأن صفات الله برفض الثقة في أنه سيغفر لنا سقطاتنا، مهما كانت. ربما تكون هناك تبعات لهذا الفشل الذى سامحنا عليه الله، حسب الأمثلة الكتابية العديدة التى توضح هذا الحق، لكن الفشل ليس هو النهاية! إن بطرس ومرقس يُثبتان أن لا شيء بعيد عن هذه الحقيقة.
ديفيد ريد