الثورة هي حدث خطير، قد تمضى أجيال عديدة قبل أن تشهد الساحة تكرارًا له، بل إنَّ كثيرًا من الناس يولدون ويموتون ولا يحدث في حياتهم مثله. والمتتبع لهذا الحدث يستطيع أن يخرج بفكرتين أساسيتين، هما محور لكل الأحاديث وهما: مقدار الفساد الذي أصاب المجتمع كله، وتوقعات وترقب لتصحيح الأوضاع.
ودعنا من قراءتنا لهاتين الفكرتين أن نتأمل في:
(1) فساد السُلطة
وهذا من الأسباب المباشرة لقيام الثورة، ولكن حينما كُشف المستور، وتوالت التقارير من الجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية، على كم المخالفات وسرقة المال العام، وبيع أراضي الدولة والعمولات والرشاوي، اتضح أن الفساد في الواقع يفوق كل التقديرات، ورأينا الفساد يتناول الكل بدءًا من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، مرورًا بالوزراء أنفسهم، وصولاً إلى أصغر الموظفين في الدولة، فالكل لم يكن يتوقع أن تُكشف خبايا الأمور كما يحدثنا مزمور 36: 1 “ينبئني قلبي في داخلي بمعصية الشرير، الذي لا يرتدع خوفًا من الله، فإنه يتملق نفسه ليقنعها أن خطيته الممقوتة لن تكشف وتدان” (الترجمة التفسيرية). فكل الهرم الإداري وصل فيه الفساد إلى النخاع، وحتى الأجهزة الرقابية التي من المفترض أن تراعي أداء الأعمال، قد حُيدت بالكامل، وأصبح دورها مقصورُا على تقارير تُقَدَّم، فتظل حبيسة الأدراج، محرومة من أن ترى النور، فلا أحد يستطيع أن يحاسب أحدًا، وكل واحد يمسك على الآخر زلة وغلطة، مثل ما حدث في حادثة يؤاب حينما أمسك على داود خطيته (راجع 2صم 11: 17-25)، فالكل في النهاية ينطبق عليهم مجازيًا القول: «مِنْ أَسْفَلِ الْقَدَمِ (أسفل الهرم في السلطة) إِلَى الرَّأْسِ (أعلى رأس في السلطة) لَيْسَ فِيهِ صِحَّةٌ، بَلْ جُرْحٌ وأحباط، وَضَرْبَةٌ طَرِيَّةٌ لَمْ تُعْصَرْ وَلَمْ تُعْصَبْ وَلَمْ تُلَيَّنْ بِالزَّيْتِ» (إش1: 6).
كان من المفروض أن السلطة ترعى مصالح الرعية ولكن انطبق عليهم قول حزقيال: «وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْعُونَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ الْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ الشَّحْمَ وَتَلْبِسُونَ الصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ السَّمِينَ وَلاَ تَرْعُونَ الْغَنَمَ الْمَرِيضُ لَمْ تُقَوُّوهُ، وَالْمَجْرُوحُ لَمْ تَعْصِبُوهُ, وَالْمَكْسُورُ لَمْ تَجْبُرُوهُ، وَالْمَطْرُودُ لَمْ تَسْتَرِدُّوهُ, وَالضَّالُّ لَمْ تَطْلُبُوهُ، بَلْ بِشِدَّةٍ وَبِعُنْفٍ تَسَلَّطْتُمْ عَلَيْهِمْ» (حز34: 2-4). فرجال السلطة ملأوا أكياسهم وسمنوا لحمهم على حساب شعوبهم، وقهروا القطيع، معتبرين أنهم أسياد لهم، والشعب والأرض ميراث لهم، من حقهم أن يتصرفوا فيه كما يشاءون، عوضًا أن يكونوا أمثلة للرعية.
(2) فساد الشعب
كنا نتوقع أن الشعب الذي ثار على الفساد في السلطة، يظهر كل بر وصلاح، ولكن في الواقع إن صفة الصلاح هي أبعد ما تكون عن صفات الإنسان، «فليس أحد صالح إلا الله». فالشعب على النقيض تمامًا مما كان يُتوقع منه، ما “إن رُفع الذي يحجز” أقصد به جهاز الشرطة - والاقتباس والتطبيق هنا أيضًا مجازي وليس نبويًا كما يُقْصَد به في النص - فقد استُعلن الإثم وتجسدت الخطية أمام أعيننا بصورة لم نكن نتوقعها على الإطلاق. فسر الإثم الذي كان يعمل فقط في داخل الإنسان (2تس2: 7؛ مز36: 4؛ مر7: 21) خوفًا من القانون، متمثلاً في قوة الشرطة الرادعة، ما إن تهيأت وسنحت له الفرصة، سرعان ما استعلن وظهر على السطح بصورة علنية سافرة، فقد نهب الشعب المحلات والمنازل، وكثرت حوادث السرقة والاغتصاب، ولقد حاولت وسائل الدعاية أن تتهم من أسمتهم “بالبلطجيه والهاربين من السجون”، في محاولة أن لا يشوهوا صورة الثورة، ولكن في الواقع أن التعديات التي حصلت على الأراضي الزراعية وعلى أراضي الآثار بالبناء عليها، ناهيك عن التجاوزات والمخالفات اليومية المتمثلة في كسر إشارات المرور، والمرور في الاتجاه المخالف التي كانت تحدث من جميع أفراد الشعب بدون استثناء، أضف إلى ذلك الأتاوات التي فُرضت من كثير من اللجان الشعبية على الناس بحجة أنهم القائمون على حمايتهم، لتأكدنا أن الفساد هو الصفة التي تلازم الكل دون استثناء، السلطة والشعب على حد سواء، الحاكم والمحكوم. آه لو استطاع الإنسان أن يرى الحقيقة كما هي عليه فإنه سيصرخ مع بولس قائلاً: «فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ».
(3) تذمر الشعب والعصيان المدني
وهذه مجموعة ثالثة ظهر فيها الفساد بصورة تختلف عما ظهر في الحكام وسواد الشعب، فهؤلاء بعد أن رأوا أن المظاهرات تحقق إرادة المتظاهرين، أرادوا أخذ نصيبهم من “الكعكة” التي ابتدأ الجميع تقاسمها قبل الأوان، بصور مختلفة فيما يسمى بالعصيان المدني، فهم امتنعوا عن مزاولة أعمالهم، الي أن تذعن الدولة إلى مطالبهم. والغريب أن جهاز الشرطة نفسه، والمفروض أن يمنع مثل هذا العصيان، انضم هو أيضًا للمعتصمين، ولم يدركوا أن التمرد والتذمر هو من الخطايا التي تستوجب قضاء الله المباشر «لأَنَّ التَّمَرُّدَ كَخَطِيَّةِ الْعِرَافَةِ, وَالْعِنَادُ كَالْوَثَنِ وَالتَّرَافِيمِ» (1صم15: 23) فالكتاب ينهينا عن التذمر «وَلاَ تَتَذَمَّرُوا كَمَا تَذَمَّرَ أَيْضاً أُنَاسٌ مِنْهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ الْمُهْلِكُ» (1كو10). فكل أمورنا يجب أن تكون مقترنة بالشكر لا التذمر، مصلين أن يعطينا الله حياة هادئة مطمئنة (1تي 2: 2). فعلينا أن نعمل كُلَّ شَيْءٍ بِلاَ دَمْدَمَةٍ وَلاَ مُجَادَلَةٍ (في2: 14).
(4)الفساد الدستوري
على مَرِّ الستين عامًا الماضية، كان كل رئيس للجمهورية، يُفصِّل بعض النصوص في الدستور تكون متفقه مع أغراضه ودوافعه. فأصبح عندنا دستور مهلهل، وأصبح من الحتمي وجود دستور جديد بجملته. وبقولنا جديد فقد عتّقنا الأول، وما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال (عب8: 13). وكانت خيبة الآمال حينما تم تعديل بعض المواد وتُركت الأخرى، وهي كفيلة بتحويل أي رئيس دولة منتخب إلى فرعون جديد ودكتاتور، ناهيك عن الصلاحيات المعطاه لمجلس الشعب. وقد أطلق علماء الدساتير والمحللون السياسيون، عن هذه التعديلات “ترقيع الدستور” وهذا التعبير تعبير كتابي يذكرنا بقول الرب: «لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ» (مت9: 17). فحتى الطبيعة تعلمنا أن كل شيء يجب أن يكون جديدًا.
(5) الفساد القضائي
وقد رأينا مجموعة من القضاة يقدمون بيانًا للمدعي العام، يتهمون وزير العدل بتدخله في القضاء لصالح البعض دون وجه حق، ولتنفيذ مصالحه الشخصية فانطبق عليهم القول: «مَوْضِعَ الْحَقِّ هُنَاكَ الظُّلْمُ، وَمَوْضِعَ الْعَدْلِ هُنَاكَ الْجَوْرُ»، «رَأَيْتُ كُلَّ الْمَظَالِمِ الَّتِي تُجْرَى تَحْتَ الشَّمْسِ: فَهُوَذَا دُمُوعُ الْمَظْلُومِينَ... وَمِنْ يَدِ ظَالِمِيهِمْ قَهْرٌ». فالكتاب يعلمنا أن «الرشوة تعوج القضاء» (جا3: 16؛ 4: 1). وقد انطبق عليهم أيضًا توبيخ الرب للقضاة قائلا «حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْراً وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ الأَشْرَارِ؟ اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ. أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ. نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ. مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا. لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فِي الظُّلْمَةِ يَتَمَشُّونَ. تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأَرْضِ». فإذا فسد القضاء فمن الحتمي أن تتزعزع كل أسس الأرض (مز 82)
(6) الفساد الاقتصادي
وإن كانت أرقام الموازنة العامة الحقيقية تثبت كم الفساد الذي أهدر الأموال العامة حتى أصبحت المديونية الداخلية والخارجية على الدولة تساوى 1,8 ترليون جنيهًا، أي 18 أمامها 12 صفرًا، وهذا الرقم الفلكي يجعلني شبه متيقن، من أن ما يأمل فيه الشعب من تصليح الأوضاع ورفع مستوى المعيشة والمرتبات، هو درب من المستحيل بلغة الاقتصاد، وهذا يذكرني بيوحنا 6 حينما أراد الرب إشباع الجموع ولم يكن أمام التلاميذ إلا الخمس الخبزات والسمكتين، فامتحن الرب التلاميذ قائلاً أعطوهم أن يأكلوا، فكان قول فيلبس الاستنكاري - وهو يمثل في هذه المعجزة خبراء الاقتصاد - «ما هذا لمثل هؤلاء؟». نعم فما هي الموارد التي للدولة التي تستطيع أن تشبع هؤلاء. علمًا بأننا لسنا في زمن المعجزات، بل في بداية مبتدأ الأوجاع والمجاعات.
مسعد رزيق
|