خلاصة ما نُشر: سفر النشيد، بالإضافة إلى معانية الروحية العميقة عن العلاقة الحبية بين النفس ومُخَلِّصها، وبالإضافة أيضًا إلى تطبيقه النبوي الدقيق على ما سيحدث في آخر الأيام، فإنه يحدثنا عن تاريخ هذه الأمة التي اختارها الرب، وأحبها؛ من البداية (من دعوة الله لإبراهيم)، وحتى النهاية (أي حتى مجيء المسيح بالمجد والقوة ليملك عليهم وعلى كل الأرض). وهذه هي واحدة من روائع كلمة الله.
وكنا قد عرفنا أن تاريخ هذه الأمة ينقسم إلى ست فترات، تماثل أقسام سفر النشيد الستة. انتهينا في ما سبق من دراسة القسم الأول، الذي يحدثنا عن دعوة إبراهيم وفترة الآباء، ثم بداية تأسيس المملكة، وهذه الفترة الهامة انتهت بسبي الأمة إلى بابل نحو سنة 600 ق. م. ثم بدأنا في القسم الثاني الذي يحدثنا عن عودة الشعب من السبي (نش2: 7-17)، ولم يكن ذلك إلا تمهيدًا لمجيء المسيح إليهم في الأرض، وهو ما سنراه الآن في الأعداد الخمسة الأولى من الأصحاح الثالث.
تقول كلمة الله:
«فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ. وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ فَقُلْتُ: «أَرَأَيْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي؟» فَمَا جَاوَزْتُهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي فَأَمْسَكْتُهُ وَلَمْ أَرْخِهِ حَتَّى أَدْخَلْتُهُ بَيْتَ أُمِّي وَحُجْرَةَ مَنْ حَبِلَتْ بِي. أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحَقْلِ أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ» (نش3: 1-5).
الشوق لمجيء المسيا
الجزء الثاني من القسم الثاني من سفر النشيد يحدثنا عن اختبار ليلي. وكون هذا الاختبار ليليًا فهذا يدل على أن هذا الاختبار حدث في ليل غياب الرب. ونحن هنا لا نقرأ فقط عن ليل، بل أيضًا عن فراش، لا تقول عنه “سريرنا”، تعبيرًا عن الشركة الحميمة (قارن 1: 16)، بل تقول: “في الليل على فراشي”، صورة لا لسعادة الشركة بل للكسل وانقطاع الشركة. هذا يُصوِّر لنا كيف كانت الحالة الروحية للشعب قبيل مجيء المسيح إليهم بالجسد في منتهى الانحطاط.
وقراءتنا للأصحاحات الأخيرة من سفر نحميا، السفر الذي فيه وقف الرب وراء الحائط يتطلع ويوصوص (2: 9)، فرحانًا بالبقية التي رجعت في أمانة، يدل على مدى الانحطاط الروحي الذي أصاب تلك البقية سريعًا. ثم قراءتنا أيضًا لنبوة ملاخي، مع الأصحاحات الأولى من إنجيل لوقا تجعلنا نرى مدى هذا الانحطاط الروحي والأدبي والسياسي والمدني. وعليه فهذه الفقرة تمثل سني الصمت بين العهدين: من ملاخي وحتى المعمدان، حيث لم يُسمع صوت أحد من الأنبياء، لكن الأتقياء طوال هذه الفترة لم يهدؤوا، بل ظلوا يطلبون من تحبه نفوسهم.
هذا هو الاختبار المشترك لكل الأتقياء في كل العصور، لا سيما عندما تسوء الأحوال. يقول المرنم معبرًا عن هذا الشعور: «إذا ذكرتك على فراشي، في السهد ألهج بك (في سهر الليالي أُفَكِّر فيك)» (مز63: 6). كما يقول النبي: «بنفسي اشتهيتك في الليل، أيضًا بروحي في داخلي إليك أبتكر» (إش26: 9).
لقد طلبت العروس (أي البقية) حبيبها مرة ومرتين، ولم تجده (ع1، 2). لم يمكنها أن تجده في المدينة، وحركة التمرد المدني التي قادها “ثوداس” اتضح أنها حركة طائشة من شخص مغرور (أع5: 36). وبعده جاء أيضًا يهوذا الجليلي، ورغم أنه أزاغ وراءه جمعًا غفيرًا، فقد هلك، وجميع الذين انقادوا إليه تشتتوا (أع5: 37). ونعلم أن حركة يهوذا الجليلي هذا حدثت في أيام الاكتتاب، أي في زمان مولد المسيح (قارن مع لو2: 1-7)، ولذلك فإنه في التطبيق هنا نقرأ أن العروس لم تتجاوزهم إلا قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسها. فلقد ظلت قلوب الأتقياء لا تهدأ حتى وجدوه. وهكذا تعلَّمت البقية الأمينة الدرس بعد سلسلة من الإحباطات، إحباط وراء إحباط.
لقد قامت لتسأل عنه، وسألت عنه الحرس الطائف في المدينة. ويمكننا في هذا التطبيق التاريخي أن نرى في الحرس صورة للأنبياء. إذًا فلقد انشغل الأتقياء بسؤال الأنبياء عنه. صحيح لم يكن هناك أنبياء في فترة الصمت هذه، ولكن كان لديهم كتاباتهم، وبسؤالهم لهم، أو بالحري بدراسة نبواتهم، فإنهم نادوا: «يا حارس ما من الليل؟». فأتتهم إجابة الحارس من الكلمة النبوية: «أتى صباح وأيضًا ليل» (إش21: 11)، بمعنى: قد قارب الصبح أن يطلع بمجيء المسيا، لكن سيعقب هذا الصباح ليل آخر، عندما ترفضه الأمة وتقتله، مُعَلقِّين إياه على خشبة! وهكذا ظل بحث الأتقياء دؤوبًا وجادًا طوال سني الصمت هذه، ولا سيما أن الرب كان قد وعدهم، بواسطة الأنبياء، أنه سيأتي بغتة (ملا3: 1).
ثم إذا اعتبرنا الحرس صورة للأنبياء فلا ننسى أن قبيل ظهور المسيح مباشرة أرسل الرب آخر أنبياء العهد القديم، يوحنا المعمدان، وبعد المعمدان مباشرة ظهر المسيح. ولهذا فمن المناسب أن تقول العروس: «ما جاوزتهم إلا قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي». واثنان من تلاميذ المعمدان سمعا يوحنا يقول عن المسيح: «هوذا حمل الله»، فتركا المعمدان وتبعا يسوع. وواحد منهما، وهو أندراوس، ذهب إلى أخيه وقال له: «وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح، فجاء به إلى يسوع» (يو1: 41، 42). ثم قال آخر، هو فيلبس لنثنائيل: «وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة» (يو1: 45). مما يدل على أن هذه الجماعة القليلة والتقية كانوا ينتظرون قدوم المسيا، وأنهم كانوا يبحثون الكتب، ويقرأون النبوات، لعلهم يهتدون على من تحبه نفوسهم.
ولهذا فلا عجب أن تردف العروس قائلة: «فما جاوزتهم إلا قليلاً حتى وجدت من تحبه نفسي». كان الرعاة الفقراء والبسطاء من ضمن تلك البقية الأمينة، ولقد كانوا – رغم رقة حالهم – أول من علم بمولد المسيح عندما قال لهم ملاك السماء: «ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطًا مضجعًا في مذود» (لو2: 10-12). ويخبرنا لوقا البشير أنهم «جاؤوا مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعًا في المذود» (لو2: 16). وبعدهم أتى رجال حكماء من المشرق، من آخر الدنيا ليسجدوا للوليد العظيم ابن داود، هؤلاء أيضًا وجدوا غرض قلوبهم وسجدوا له، وأما هيرودس القاتل الشرير فلم يجده ولم يقدر أن ينال منه. وكان سمعان الرجل البار واحدًا من تلك البقية الأمينة. وهو الذي أُوحي إليه بالروح القدس أنه لن يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. وبعد فترة وجيزة أعلمه الروح القدس بأن الموعد قد حضر، وما إن ذهب إلى الهيكل لاستقبال رب المجد حتى جاء بالصبي يسوع أبواه. ولما رآهم قال مقولته الشهيرة: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعدته قدام وجه جميع الشعوب» (لو2: 29).
ثم تقول العروس (التي تمثل البقية الأمينة في مجيء المسيح الأول): «فأمسكته ولم أرخه، حتى أدخلته بيت أمي وخباء من حبلت بي».
ماذا تعني العروس هنا بالقول: «أمسكته ولم أرخه»؟ إننا نرى المعنى في الكلمات التي تمت في التلاميذ، واحدًا بعد الآخر: فقيل عن بطرس وأخيه أندراوس، وكذلك يوحنا وأخيه يعقوب: «لما جاءوا بالسفينتين إلى البر تركوا كل شيء وتبعوه» (لو5: 11). وقيل عن لاوي (الذي هو نفسه متى العشار، كاتب إنجيل متى) «بعد هذا خرج (يسوع) فنظر عشارًا اسمه لاوي، جالسًا عند مكان الجباية فقال له: “اتبعني“. فترك كل شيء وقام وتبعه» (لو5: 27، 28). وفي ما بعد عبَّر بطرس نيابة عن باقي التلاميذ بالقول: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» (مت19: 27). وعندما امتَحن الرب يسوع تمسكهم به، قال لهم: «أ لعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟ أجابه سمعان بطرس: «يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك» (يو6: 67، 68).
وصل إذًا مُنتظَر الأتقياء إلى شعبه. ترى هل عرفه شعبه؟ نعم. لكن هل قبلوه أو قدَّروه؟ كلا بالأسف. يقول لنا البشير يوحنا: «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو1: 11). وسوف نرى في القسم التالي بقية القصة المثيرة، كيف رحَّب به الأتقياء وهم قلة قليلة، وكم سعدوا به. ورغم أنهم قلة قليلة، ولكنها غالية على قلب الرب. لكن ماذا فعلت جموع الشعب الغبي وقادته بملكهم، مسيح الله؟
وبوصول رب المجد لتلك البقية الأمينة، وتعرفهم عليه، نكون قد وصلنا إلى واحدة من أعلى قمم النبوة، توقفت عندها نبوات الأنبياء طويلاً؛ وهي كذا واحدة من أعلى قمم تعاملات الله مع هذا الشعب في كل تاريخهم. ولذا فحق لكاتب النشيد أن يأخذ وقفة هنا، ليبدأ بعدها قسمًا جديدًا. وحق له القول: «أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء».
(يتبع)
يوسف رياض