(١) يوسف (تكوين ٣٧: ٢؛ ٣٩: ٧ - ١٢):
لقد تحدثنا عن عدد ليس بقليل من نساء الله القديسات. الآن أريد أن أتحدث بإيجاز عن بعض من رجال الله القديسين. ويوسف هو أول قديس أريد أن أتحدث عنه. عندما كان يوسف صبيًا صغيرًا، كان موضوع محبة أبيه، كان يُخبر أبيه بحكايات عن إخوته. لم يكن نمامًا، ولم يكن مفتريًا، بل كان يخبر أبيه عما يخص شئونه - أي شئون يعقوب. هذا الأمر كان بلا شك صحيحًا من جانب يوسف.
تعرض يوسف للتجربة في وقت لاحق من حياته. قد يكون أمرًا جيدًا جدًا أن نشير إلى فشل الآخرين، ولكن ماذا عندما يأتي الاختبار إلى يوسف ذاته، كيف ستكون ردة فعله؟ كان الإغواء من قبل امرأة شريرة اختبارًا حقيقيًا. لكن شكرًا للرب فقد هرب. ولم يتوقف كي يقول: ”أنا يوسف، أنا رجل الله، يمكنني أن أصمد أمام هذا النوع من الأشياء“، كان يعرف قوة الطبيعة، عرف قوة الشر، ومن ثم هرب تاركًا ثوبه في يد المرأة الشريرة. لقد أثبت بالدليل القاطع أنه أمين؛ فلم يلفت الانتباه إلى إخفاقات إخوته فحسب، ولكن عندما طالت التجربة شخصه، ثبت أنه رجل مقدس لله، إذ صرخ: «كيفَ أصنَعُ هذا الشَّرَّ العظيمَ وأُخطِئُ إلَى اللهِ؟» (تك ٣٩: ٩). إنها كلمات قديس بحق، رجل يُقدر فوق كل شيء مجد الله أكثر من أي شيء يخصه شخصيًا.
(٢) موسى (عب ١١: ٢٤ - ٢٧):
أُتيح لموسى أن يكون كل شيء تحت قدميه، وكانت له كل الفرص المواتية ليشق طريقه في هذا العالم، ويكون رجلاً صِيتُه يطبّق الآفاق، ذا شهرة وقوة عظيمتين، إلا أنه تخلى عن كل شيء قائلاً: ”إني أرتضي الذل مع شعب الله عن أن أصبح على رأس قوة مصر وبريق ذهبها الأخاذ“. يا له من قرار اتخذه! ما يُحسب لموسى أنه لم يرتد أبدًا للوراء. ربما الذين قادهم رجعوا إلى الوراء، وإن لم يكونوا قد رجعوا بأجسادهم، إلا إنهم فعلوا ذلك بقلوبهم (أع ٧: ٣٩)، ولكن لم يكن موسى أبدًا كذلك. ثابر موسى في المضي قدمًا، فهو حقًا رجل الله المقدس. لقد حافظ على حياته وطريقه لله، على نحو مكَّن الله من التحدث معه وجهًا لوجه، وشهد عنه: «أمّا عَبدي موسَى ... هو أمينٌ في كُلِّ بَيتي» (عد ١٢: ٧). ما أروع ما تكلَّم به الله عن هذا العبد مُعربًا عن تقديره له!
(٣) فينحاس (عد ٢٥: ٦ - ١٣):
يا له من يوم حزين ذلك اليوم الذي ضل فيه بنو إسرائيل بسبب بلعام، وأولئك الذين تبعوا تعاليمه. ويومها نهض فينحاس طاعنًا الرجل الاسرائيلي والمرأة المديانية معًا بالرمح، لأنهما جلبا مثل هذا العار على إسرائيل، وقد امتدح الرب فعله هذا. ككاهن لا ينبغي أن يكون لدى فينحاس سلاح حربي في يده، كان هناك آخرون ليقوموا بالقتال، لكن للأسف وُجدوا غير راغبين في ذلك، فقام فينحاس، غيورًا على الله، غيورًا لفعل ما هو حق لله، وكان يتصرف بطريقة تستحق استحسان الله. في بعض الأحيان، يعني الدفاع عن الصواب، اتخاذ إجراءات جذرية في حياتنا، وكذلك بين حياة أبناء الله. هناك تأثيرات من شأنها - إذا سُمِح لها أن تتنامى - أن تدمر أمور الله. هذه التأثيرات - للأسف - تمثل طبيعة اليوم الذي نعيش فيه.
بعض الناس، لا يرون عواقب تلك المبادئ التي يسعون إلى إدخالها بين شعب الله، فهم يرون فقط ذلك الشيء بعينه الذي يهتمون به، ولا يرون النتيجة المنطقية التي تترتب على هذه المبادئ حالما تُتبَع. ولكن يُمكن للكثيرين ممن يتمتعون بالتمييز أن يروا، ولذلك يتطلب الأمر إجراءً جذريًا لإيقاف اتباع مثل هذه المبادئ، من أجل الحفاظ على ما هو طاهر ومقدس بحسب الله. كان فينحاس رجلاً مُمَيِّزًا وذا فطنة.
(٤) نوح (تك ٦: ١- ٩؛ لو ١٧: ٢٦، ٢٧؛ عب ١١: ٧):
«كانَ نوحٌ رَجُلًا بارًّا كامِلًا في أجيالِه» (تك ٦: ٩). كانت تلك الفترة التي اتسمت بالاختلاط وانتشار الفساد، فارتبط أبناء الله ببنات الناس. يعتقد البعض أن هذا كان فسادًا من نوع غريب، بحيث تركت بعضٌ من الملائكة وضعهم الأول، وارتبطوا ببنات الناس على الأرض. يُذكَر أن ارتداد الملائكة هذا مُشار إليه في يهوذا ٦، وإن كان هذا شيء يصعب فهمه. كتب العديد من الإخوة أطروحات لإظهار أن أبطال الأساطير اليونانية والرومانية ينحدرون من هذا الاختلاط، ومن هذا المكان صار لهم هذا الأصل «كانَ في الأرضِ طُغاةٌ في تِلكَ الأيّامِ» (تك ٦: ٤). كانت ذرية هذا الارتباط الشرير أمرًا في غاية الخطورة، ومُنتَج لمزيد من الشر، أدى إلى دينونة الله بالطوفان، الذي به أزالهم جميعًا. ولكن في خضم كل هذا كان هناك رجل واحد يمكن أن ينظر إليه الله؛ رجل بار وكامل حقًا بين كل جيله، أثناء فترة غمرها الشر.
لكن يا له من أمر رائع - يا قديسي الله الأحباء - أن نحيا حياة نقية، في مشهد يملأه الفساد، كما نراه في يومنا هذا. أنا أعلم أننا لسنا كاملين، ولن نكون كاملين أبدًا في هذه الحياة، لكن أشكر الله على الرغبات الصحيحة، ليس فقط أن نكون مستقيمين ومحترمين (هناك العديد من الأشخاص غير المُخَلَّصين الذين يتمتعون بالاستقامة والاحترام)، ولكن لنعش حياة القداسة التي بحسب فكر الله، ووفقًا للمعايير التي وضعها، وهذا يعني أن كل سمة من سمات حياتنا يجب أن تخضع لطاعة كلمته. وعندئذ ننال انتصارًا به نرنم في ملء الفرح هاتفين:
أنت إلهي لا سواك أنت إلهي لا سواك
(٥) أخنوخ (تك ٥: ٢٣، ٢٤؛ عب ١١: ٥):
عاش أخنوخ قبل نوح، وسار أيامه مع الرب وقد صارت له هذه الشهادة، إذ يقول عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين إنه «قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عب ١١: ٥). يا له من ثناء! دعنا نتصور أنه بإمكاننا أن نتلقى اتصالا هاتفيًا من السماء الليلة بخصوص أمر يعنينا نحن على وجه التحديد، والله يقول لكل واحد منا: ”أنا مسرور بالطريقة التي تعيش بها حياتك“. يا لها من شهادة! ويا له من ثناء! ألن نكون حقًا فخورين؟ لا أقصد الفخر على نحو أناني أو جسدي، ولكن الفخر الذي يتأتَّى من أننا نفعل ما يرضي الله. ومع ذلك يمكننا أن نكون على يقين من أننا إذ نطيع كلمة الله ونبتعد عن الخطية والشر، لدينا هذه الشهادة بأننا نرضي الرب، تمامًا كما فعل أخنوخ.
(٦) داود (١أخ ٢٢: ٦ - ١٦؛ ٢٩: ١ - ٥):
ارتكب داود سقطات مؤسفة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه كيف استعاد عافيته الروحية بهذه السرعة، وعاد مجددًا إلى الشركة مع الله، وفعل الأمور التي كانت مرضية في نظر الله. بصفتي شابًا مسيحيًا، كنت أسمع الإخوة القدامى وهم يقولون، ”اجعل حسابك قصير الأجل عند الله“؛ إذا سقطتَ، اركع على ركبتيك، واعترف بذلك لله، واستعد الشركة سريعًا، واستمر في الطريق، لا تستسلم لكونك ساقط. كان داود كذلك، ولكنه لم يستسلم أبدًا.
أريد أن أقول لكم أيها القديسون الشيوخ، استمروا، لأن أفضل سنوات داود كانت تلك الأخيرة. لقد اعتدتُ أن أعظ بهذا في العديد من الاجتماعات مؤخرًا، فلو اعتمدت الاجتماعات على شبابنا، فلن يكون لدينا في بعض الأماكن أي قراءات للكتاب المقدس، ولن يكون هناك أي اجتماعات تُقدم فيها الخدمة، وستفتقر الاجتماعات للشخصيات المُعتبرة في الكنيسة، أنتم، أيها الإخوة الأحباء، ازددتم نضجًا عبر الزمن، فيوم الرب يذهب، ويوم الرب الآخر يجيء، وأنتم داومتم في الحفاظ على تلك الاجتماعات. فواصلوا جهادكم، ولا تستسلموا. ستحتفظون بشيء يظل للشباب باقيًا، متى بلغت قناعتهم أن ثمة شيئًا مفيدًا في اجتماعاتنا، وأن هناك طعامًا لهم إذا ما أرادوه، واحتفظوا به، وحافظوا عليه، ووثقوا من أنه لا يزال موجودًا ومتاحًا أمامهم، متى خاب أملهم في الطرق الدنيوية التي ربما كانت مسعاهم قبلًا. هناك طعام، وهناك معونة روحية يمكن العثور عليها في الاجتماعات، فأنتم أيها الإخوة الأحباء من ستحافظون عليها حتى يأتي الرب بنعمته.
كانت أفضل سنوات داود تلك الأخيرة. لكن كيف يمكننا أن نُمَيِّز ذلك؟ لقد أعدَّ داود كل المواد لسليمان مملوءًا بعاطفة جياشة، وعزم وطيد لا ينثني، ودأبًا من غير فتور. يا لها من كميات هائلة من المواد تلك التي جمعها؛ من الذهب والفضة والخشب والحديد والحجر. وواضح أن داود جمعها حتى يتسنى لابنه أداء هذه الخدمة العظيمة لله. كان داود رجل الله، رجل حتى النهاية، وقدم بنشاط عزيمته التي لا تعرف الكلل أو الملل كل هذا في أيامه الأخيرة، حتى يُعبَد الرب. يا لها من نهاية رائعة عندما نقرأ في أخبار الأيام الأول ذلك الختام الرائع مسبحًا الرب قائلًا: «لأنَّ مِنكَ (أي من الله) الجميعَ ومِنْ يَدِكَ أعطَيناك» (١أخ ٢٩: ١٤). يا له من قلب ممتلئ، ذلك القلب الذي كان يملكه داود! كان داود حقًا رجلاً مقدسًا لله.
(٧) الرسول بولس (في ١ - ٤):
ما أقسى حياة مُضطهَدة تلك التي عاشها الرسول بولس، والتي ترتبط بأولئك الذين أحبوا المسيح! أنا متأكد من أنه ندم على كل الأذى الذي أحدثه بين أبناء الله قبل أن يخلص. لقد جعلهم يجدفون، فَكر مليًا في هذا، أن شخصًا يجعل الآخرين يجدفون، كما ويجعلهم يقولون شيئًا يهين الله أو المسيح! ألن يملأ قلبك الحزن جراء ذلك؟ لقد جعل بولس الكثيرين يجدفون، بل ووضعهم في السجن، وقتلهم، وأدلى بصوته ضد استفانوس عندما قُتل. يا له من مُضطهِد! ولكن فجأة تغيَّر كل شيء، حين التقى بالرب يسوع المسيح، وخضع لسيادته. لقد ارتكب أخطاء، ولكنها لم تكن كثيرة؛ فلم يستمر طويلًا في الانحراف في طريق أو آخر، وسرعان ما صار رجل الله المقدس. كانت الرغبة المُلحة في قلبه هي إرضاء المسيح. قال في رسالة فيلبي الأصحاح الأول «حَسَبَ انتِظاري ورَجائي أنّي لا أُخزَى في شَيءٍ، بل بكُلِّ مُجاهَرَةٍ كما في كُلِّ حينٍ، كذلكَ الآنَ، يتَعَظَّمُ المَسيحُ في جَسَدي، سواءٌ كانَ بحياةٍ أم بموتٍ. لأنَّ ليَ الحياةَ هي المَسيحُ والموتُ هو رِبحٌ» (في ١: ٢٠، ٢١). بمعنى آخر: ”إذا كان عليّ أن أموت، فليكن لمجد المسيح، وإن كانت مشيئة الله لي أن أعيش، فليكن أيضًا لمجد المسيح“. قضى الرسول بولس حياته كلها ممتلئًا بهذا التوجه «ما كانَ لي رِبحًا، فهذا قد حَسِبتُهُ مِنْ أجلِ المَسيحِ خَسارَةً» (في ٣: ٧). كان على استعداد للتضحية بأفضل ما يملك، للعيش من أجل المسيح.
الخلاصة:
الآن، أيها الإخوة الأحباء والأخوات المباركات، إذا كانت أعمدة اجتماعاتنا تتكون من أشخاص تشبه تلك التي ذكرتها، فيا لها من اجتماعات مُبهِجة! حالما يكون داخلها أشخاص يتخلون عن كل ما كانوا يرتبطون به ارتباطًا طبيعيًا، أو يتنازلون عن رغباتهم المشروعة؛ أناسٌ مستعدون للتضحية لله، أناسٌ على استعداد لتكريس طاقاتهم لله، أناسٌ يعيشون حياة منفصلة عن الخطية ومغريات هذا العالم، أناسٌ ملتزمون تمامًا لله، فكم ستكون قوة اجتماعات كهذه!
كان الاجتماع - على ما أعتقد - في كورنثوس يتمتع بكل ذلك عند بداية تأسيسه، ولكن سرعان ما تسللت التأثيرات المفسدة. إذ كان هناك أولئك الذين جلبوا تعاليم ضارة «فكيفَ يقولُ قَوْمٌ بَينَكُمْ: إنْ ليس قيامَةُ أمواتٍ؟» (١كو ١٥: ١٢)، لكن الرسول بولس صحَّح هذا. هناك رجل، داخل هذه الكنيسة، كان قد ارتكب أكثر الأشياء المهينة، حين زنى مع امرأة أبيه، وكان لا بد من عزله من الشركة (١كو ٥: ١ - ٨). كما كان هناك من يتبعون قادة، وبهذا يشكلون أحزابًا داخل الكنيسة (١كو ١: ١٠ - ١٢). كانت تلك مآسي بين شعب الله، وكانت هذه تأثيرات مُفسِدة، وما كان ينبغي أن توجد، وقد خاطب بولس كل عضو من أعضاء جماعة كورنثوس وقال: ”إنَّ جَسَدَكُ هو هيكل الروح القدس، لذا ينبغي عليك أن تكون مقدسًا، فلا يجب مطلقًا أن تلتصق بأي شيء شرير؛ فالروح القدس يسكن فيك، ومن ثم ينبغي أن تكون حياتك مقدسة على المستوى العملي“. بينما يقول للكنيسة كجماعة «أم لَستُمْ تعلَمونَ أنَّ جَسَدَكُمْ هو هَيكلٌ للرّوحِ القُدُسِ الّذي فيكُمُ؟» (١كو ٦: ١٩). لذلك كان على الجماعة ككل، وعلى الأفراد الذين يشكلونها، أن يكونوا مقدسين؛ مقدسين في نظر الله، ومقدسين في جميع طرقهم.
كم سيكون أمر غاية في الجمال والروعة عندما نحيا في القداسة! فكم من أشياء تتسلل بين شعب الله والتي بدورها تمنع المحبة الأخوية الصادقة من أن تدخل حيز التنفيذ العملي (١بط ١: ٢٢، ٢٣). فقليل من الحسد، والغيرة، وانعدام الثقة ومن ثم تنامي الشك، كلها تتسلل بين شعب الله، وتخلق سدودًا تمنع التدفق الانسيابي للمحبة. ومع ذلك، فإن القداسة تحجز كل هذه الأشياء السيئة بعيدًا، وتقف في وجه كل منها على حِدَتِها، وحين تتمكن القداسة من ذلك، ستكون هناك الأوضاع والأجواء التي من شأنها أن تخلق - بكل السبل المُمكنة - هذا التدفق الانسيابي للمحبة؛ لأنه من الأهمية بمكان أن ينال المسيح الإكرام والعبادة من أن نتبارك نحن. إننا كثيرًا ما نتحدث عما يخصنا من بركات، في الوقت الذي ينبغي فيه أن نتذكر أن غرض اجتماع المؤمنين يكمن في إعطاء المجد لله وللمسيح بقوة الروح. وما أن تصير القداسة واقع فعلي بين شعب الله، حتى تتحقق هذه الاستجابة، ويُعطَى المجد لله وللمسيح، وستكون هناك شهادة للعالم، وخلاص للنفوس الغالية.
يقول بولس للمؤمنين في تسالونيكي: «أنتُمْ شُهودٌ، واللهُ، كيفَ بطَهارَةٍ وببِرٍّ وبلا لومٍ كُنّا بَينَكُمْ أنتُمُ المؤمِنينَ» (١تس ٢: ١٠)، ونتج عن ذلك رجوع أهل تسالونيكي إلى الله. فكما ترون، أيها الإخوة الأحباء، أن العيش في القداسة مسألة غاية في الأهمية.
أرجو أن نتشجع لنحيا من أجل اسمه، نساء قديسات ورجال قديسون، حتى مجيء الرب.
(تمت)