«أُعَوِِّّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ
الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ» (يؤ٢: ٢٥)
إذا كنا نريد أن نفهم القوة الحقيقية لهذا الجزء، وغِنَى الوعد الذي يحتويه، علينا أن نُذَكِّر أنفسنا بالأثر الرهيب لضربة الجراد في الشرق. علينا أن نتذكر أن أحد الضربات العشر التي ضربت مصر كانت “ضربة الْجَرَادُ”:
«فَصَعِدَ الْجَرَادُ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ، وَحَلَّ فِي جَمِيعِ تُخُومِ مِصْرَ... وَغَطَّى وَجْهَ كُلِّ الأَرْضِ حَتَّى أَظْلَمَتِ الأَرْضُ. وَأَكَلَ جَمِيعَ عُشْبِ الأَرْضِ وَجَمِيعَ ثَمَرِ الشَّجَرِ الَّذِي تَرَكَهُ الْبَرَدُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ أَخْضَرُ فِي الشَّجَرِ وَلاَ فِي عُشْبِ الْحَقْلِ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» (خر١٠: ١٤، ١٥).
وبلغة تصويرية قوية في يوئيل ٢: ٣-١٠ يصف النبي الدمار الشامل الذي تلحقه هذه الحشرة:
«الأَرْضُ قُدَّامَهُ كَجَنَّةِ عَدْنٍ وَخَلْفَهُ قَفْرٌ خَرِبٌ، وَلاَ تَكُونُ مِنْهُ نَجَاةٌ. كَمَنْظَرِ الْخَيْلِ مَنْظَرُهُ، وَمِثْلَ الأَفْرَاسِ يَرْكُضُونَ... يَمْشُونَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي طَرِيقِهِ، وَلاَ يُغَيِّرُونَ سُبُلَهُمْ... يَتَرَاكَضُونَ فِي الْمَدِينَةِ. يَجْرُونَ عَلَى السُّورِ. يَصْعَدُونَ إِلَى الْبُيُوتِ. يَدْخُلُونَ مِنَ الْكُوى كَاللِّصِّ. قُدَّامَهُ تَرْتَعِدُ الأَرْضُ وَتَرْجُفُ السَّمَاءُ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُظْلِمَانِ وَالنُّجُومُ تَحْجِزُ لَمَعَانَهَا».
إنه يأتي كثيف كالثلج، يُظلم السماء، حفيف أجنحته كصوت نهر واسع. فكوكه المتحركة بدون توقف تُحدِث ضوضاء مثل نار آكلة، أو عربات حربية. وفي ساعات قليلة تتقلص أمامه الحقول الخضراء إلى عيدان عارية، أو حتى مجرد قش. ولكن أمام هذه الكارثة الرهيبة، وفي وجود الحقول العارية والحصاد المُفسِد، يقول الله: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ».
إن فداحة المصيبة لا تزيد الوعد إلا روعة، ولا تزيدنا إلا ترحيبًا به. هل يجلب هذا الوعد مزيدًا من الراحة لنا، حتى وإن كنا في بلاد لا تعرف هذا المُفسِد؟ ألا يوجد جراد من نوع آخر؟ بكلمات أخرى، ألا تتعرى الحياة الإنسانية - لسبب أو لآخر - مما يبدو وكأنه خسارة لا يمكن تعويضها؟ سنوات من الحزن، المرض، أو بعض أشكال المعاناة، حين تبدو الحياة مُجردة من كل ما كان يومًا واعدًا: مناطق جرداء، أنتجها فشلنا الشخصي، أو فشل الآخرين؛ فقر يمتد في حياتنا، ولا تستطيع الذاكرة استرجاعه بدون غصة في الحلق وقشعريرة في البدن؟ إذا كانت تجربتنا تشبه هذا الوصف بأي شكل من الأشكال، ألا يحتوي هذا الوعد على راحة رائعة: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ».
أولاً: الحزن
هل أظلمت حياتك بسبب بعض الأحزان؟ تمامًا مثلما نرى الشمس والقمر والنجوم قد أظلمت بسبب أسراب الجراد (خر١٠: ١٥؛ يؤ٢: ١٠)، وهكذا يبدو وكأن الشمس لن تشرق لك أبدًا ثانيةَ، أو على الأقل، ليس بنفس الطريقة التي كانت في السابق. لكن الله يستطيع أن يجعلك تنسى أنك كنت أبدًا حزينًا «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ». هل تحتضن أحزانك وتجتر عليها، بدلاً من أن ترى أنه «مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أَكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ» (قض١٤: ١٤)، وأنه حتى المصائب يمكن أن تصبح مصدرًا للخير، وتُنتج رجاءً لا يأسًا (رو٨: ٢٨؛ إش٦١: ٣)، حين تنسكب محبة الله في القلب؟
قد يكون حزنك بسبب خيبة أملك في شخص تحبه. صعد الجراد على حياتك الزوجية. الحقل الذي كنت تتوقع منه حصادًا وفيرًا من السعادة، أصبح تقريبًا عاريًا. تنظر للخلف، ربما، على سنين من الفراغ، سنين تخلو من أكثر شيء كنت تشتهيه. توقعت الحصول على الكثير من هذا الأمر، انتظرت أن تحظى كل أمنية لك بكل اهتمام؛ تمنيت أن يوضع كل شيء عند قدميك، وفكرت في كل ما يمكنك إعطائه كمقابل. لكن أتى الجراد؛ وبدا وكأنه ترك القليل جدًا. هل تستطيع أن تثق في الله للتعويض عن هذه السنين؟ ألن تأخذ هذا الوعد إلى داخل قلبك، وتعتمد على من أعطاه؟
أو قد يكون الحزن على ابن أو ابنة كان واعدًا جدًا. كان هناك وقتًا كان فيه مطيعًا لك ويبغي رضاك. كانت لديه مواهب؛ لكنها تبددت. أنفق كل معيشته لكنه لم يَعُد إليك. أنت تتحاشى الحديث عنه الآن. قبلاً كنت تحب الكلام عنه. لكن تفكر فيما يستطيع الله عمله: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ».
ثانيًا: أزمات مادية
هل واجهت سوء الحظ في أمور مادية؟ تبدو الحياة بخصوص الأمور الزمنية مثل صحراء مُقارَنةً بما كانت عليه قبلاً. ترك الجراد القليل من الرفاهية والراحة التي كنت تظنها قبلاً أساسية لسعادتك. انتقلت لمنزل أصغر، اضطررت للاستغناء عن سيارتك، وتسريح بعض عمالك. وليس ذلك فقط، بل اختفى بعض أصدقائك مع هذه التوابع. كانوا متعلقين فقط بمنزلك الفاخر وسيارتك، وبالرغم من أنهم كانوا يتظاهرون بمحبتك وأنت تمتلك هذه الأشياء، إلا أنهم بصورةٍ ما نسوا أنك موجود أصلاً الآن. كل هذا مؤلم جدًا. إلى أين ستذهب؟ اذهب إلى الشخص الذي مِلت لنسيانه في أيام ازدهارك، ولكنه هو ما نسيك أبدًا. وإذا رأي هو أنه من المناسب أن يُرجع هذه الممتلكات الأرضية التي كنت تُقدِّرها جدًا وفقدتها، فهو يستطيع أن يفعل ذلك بصورة أعلى وأفضل «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ». إنه يريدك أن تفهم فقط أن جزءًا صغيرًا جدًا جدًا من السعادة الحقيقية يعتمد على الأشياء الخارجية؛ لأن العالم لا يستطيع أبدًا أبدًا أن يعطى السلام الحقيقي. بينما كلما امتلك الناس من أمور العالم أكثر، كلما زاد قلقهم. وهو يريدك أن تمتلك ما يستطيع هو وحده أن يهبه؛ «سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ» (في٤: ٧)، هذا السلام الذي تحدث عنه المسيح حين قال: «سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ» (يو١٤: ٢٧).
ثالثًا: الحزن والحِداد
هل كان الحزن والحِداد في حالتك بسبب فَقْد عزيز؟ هل أُخذ منك زوجًا، زوجة، ابن، ابنة، حبيب، أو صديق؟ أيًّا كان، فأنت تشعر أن الحياة مُوحشة، فَقَدَتْ طعمها. لم تَعُد الأمور تثير انتباهك كما كانت سابقًا. تفكر فيما أكله الجراد. هل يستطيع الرب أن يعوض عن هذه السنين؟
قد يتذكر بعض قُراء هذه السطور القصة التي رواها “واشنطن أيفرينج” في دفاتره، عن فتاة أيرلندية شابة، كان حبيبها مناضل أيرلندي، حوكم في أثناء الاضطرابات بأيرلاندا، وأُدين، وحُكم عليه بتهمة الخيانة. لم تُشفَ المرأة الشابة أبدًا من هذه الضربة. تُخبرنا القصة: “أولتها العائلات الغنية والمتميزة كل أصناف الانشغال والتسالي لتبديد حزنها، وفصلها عن قصة حبها المأساوية. لكن ضاعت كل هذه المجهودات هباءً. هناك بعض الضربات الكارثية تضر النفس وتلهبها - تخترق إلى كرسي السعادة الحيوي - وتُدمره، بحيث يصبح غير صالح لزرع برعم أو زهرة فيه مرة ثانية. لم تعترض الفتاة أبدًا على التردد على مصادر اللذة، لكنها كانت وحيدة هناك بقدر وحدتها وهي بمفردها. لم يستطع أي شيء أن يشفي الحزن الصامت المفترس الذي دخل إلى عمق نفسها. ضاعت في انحدار بطيء ويائس، وغرقت مطولاً في قبر، ضحية للقلب المكسور”.
وبقدر كآبة هذا التقرير، بقدر صدقه: «حُزْنُ الْعَالَمِ يُنْشِئُ مَوْتًا» (٢كو٧: ١٠). كم كانت ستختلف قصة هذه الفتاة لو كان هناك أي شخص قريب ليقودها إلى المصدر الحقيقي للسلام والراحة. كانت تحتاج لأمر أعظم وأفضل وأكثر إسعادًا من الأمر الذي فقدته. وهذا ما يستطيع الله فقط أن يهبه. وهذا ما وهبه لنا الله في المسيح. الشخص الذي وعد بالراحة لمن يأتون إليه (مت١١: ٢٨): الذي قال: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ» (يو٨: ١٢). وتظل كلماته لامرأة فارغة القلب فعَّالة لأجلنا كما كانت لأجلها: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو٤: ١٠).
إذا كنت قد عرفته؛ فمهما كان ألم القلب، سيتعزى؛ ومهما كان الكسر، سيُشفى؛ ومهما كان الفراغ، سيمتلئ. هو يعلم أنه - للأسف - قد يرفض القلب البشري المسكين هذه الراحة، وقد يُفَضِّل الأمور الإنسانية وما يخاطب الطبيعة، وقد يذبل ويموت بفعل الخسارة التي تكبدها، مُفضلاً احتضان حزنه؛ لكن هذا في النهاية، إذا سُمي باسمه الحقيقي، فهو صورة أخرى من الفساد الإنساني، لأنه يجعل الخليقة أمر أسمى من الخالق. ولكن هذا لا يغير حقيقة أن المسيح كافٍ، حتى لو أُخذ منا كل شيء آخر. هو يستحق مشاعر قلوبنا، ويستطيع أن ينسجها ويضفرها حول شخصه الكريم، فقط إذا رغب القلب بذلك، حتى وإن كانت هذه المشاعر مُصابة وذابلة. إن خطية رفض التعزية قد تكون خاطئة بمقدار التمرد الصريح ضد حكومة الله. فهي تضع الخليقة فوق الخالق. فهي تفترض أن الرب ليس كافيًا.
لم يُعانِ الكثير من الأشخاص حرمانًا وحزنًا وحدادًا أقوى مما عاناه يعقوب. لم ينسَ أبدًا فقدان راحيل. فمع أنفاسه الأخيرة، كان اسمها على شفتيه «وَأَنَا حِينَ جِئْتُ مِنْ فَدَّانَ مَاتَتْ عِنْدِي رَاحِيلُ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ فِي الطَّرِيقِ، إِذْ بَقِيَتْ مَسَافَةٌ مِنَ الأَرْضِ حَتَّى آتِيَ إِلَى أَفْرَاتَةَ، فَدَفَنْتُهَا هُنَاكَ فِي طَرِيقِ أَفْرَاتَةَ، الَّتِي هِيَ بَيْتُ لَحْمٍ» (تك٤٨: ٧). ولمدة عشرين عامًا انفصل عن ابنه المحبوب المُفَّضَل، مُعتقدًا أنه مات. ولوقتٍ ما اضطر للانفصال حتى عن بنيامين. وبالرغم من كل ذلك كانت أيام يعقوب الأخيرة هي أفضل أيامه. تم تعويضه عن السنين التي أكلها الجراد. فلم يرَ يوسف مرة ثانية فقط، بل شهد مجده ورأى نسله (تك٤٨: ١١). وقف أمام فرعون وباركه (تك٤٧: ٧، ١٠). وحين نأتي إليه ضمن أبطال الإيمان في عبرانيين ١١، فالسجل الوحيد المذكور عنه يرتبط بأيامه الأخيرة: «بِالإِيمَانِ يَعْقُوبُ عِنْدَ مَوْتِهِ بَارَكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنِ ابْنَيْ يُوسُفَ، وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ» (عب١١: ٢١)؛ مُبَارِكًا وسَاجدًا! مَنْ واجه كل هذه التجارب المُرة من خطوب الزمان والتجارب، والحزن والحرمان والحِداد السابق، والترحال والتجوال طوال سني العمر الماضية، هو الآن سعيد هانئ مستقر فرحٌ. عرف الله، وانشغل به، وفاض قلبه بالشكر والتسبيح. فيا له من اقناع بقدرة الله على التعويض عن السنين التي أكلها الجراد!
رابعًا: الابتعاد عن الله
والسِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ قد تأخذ في بعض الأحيان صورة أخرى. إنها سنين تُقضى في البُعد عن الله، في ملاحقة للملذات العالمية وإرضاء الذات. كم يترك هذا الأمر القلب فارغًا، خصوصًا إن كان قد عرف المسيح سابقًا. ظل عويل “نُعمِي” يتصاعد طوال رحلة رجوعها من موآب إلى بيت لحم: «لاَ تَدْعُونِي نُعْمِيَ بَلِ ادْعُونِي مُرَّةَ، لأَنَّ الْقَدِيرَ قَدْ أَمَرَّنِي جِدًّا. إِنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ الرَّبُّ فَارِغَةً. لِمَاذَا تَدْعُونَنِي نُعْمِيَ، وَالرَّبُّ قَدْ أَذَلَّنِي وَالْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي؟» (را١: ٢١). نعم، فالروايات والجرائد ليست بديلاً عن الكتاب المقدس، واللعب والرقص لا يستطيعان أن يحلا محل الشركة مع الله، صداقات العالم هي مقايضة فقيرة لصُحبة المسيح. لكن كم من البشر حاولوا مثل هذه المقايضات. لقد تخلى المسيحيون المعترفون فعليًا عن مسؤولياتهم، وأبحروا في عالم غير معروف، بدون خريطة أو بوصلة. عهودهم التي قدموها في المعمودية التي قاموا هم بها، أو قام بها آخرون بالنيابة عنهم، بأن يتبرؤوا من عظمة وبُطل هذا العالم، أصبحت رسالة ميتة، ونُسيت كل نذورهم - وأُهملت أكثر التعهدات رسمية. هل تتعجبون من تعري الحقول؟ هل تتساءلون لماذا هناك سنين أكلها الجراد؟
سمح الله للجراد أن يأتي كقضاء على شعبه قديمًا حين ابتعدوا عنه. فهل اضطر للتعامل بنفس الطريقة معك بسبب عنادك وتيهانك؟ كان على “نُعمِي” أن تعترف: «الْقَدِيرَ قَدْ أَمَرَّنِي جِدًّا ... الرَّبُّ قَدْ أَذَلَّنِي وَالْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي».
كان هناك سيدة تقضي الصيف في سويسرا. في يوم ما، كان عليها أن تتسلق الجبل، وجاءت إلى قطيع خراف. هناك جلس الراعي وحوله ربض قطيعه. قريبًا منه، فوق كومة قش، اضطجع خروف، بدا وكأنه يعاني. عندما تأملته عن قرب، رأت السيدة أن ساقه مكسورة. سألت: “كيف حدث ذلك؟” ولدهشتها، أجاب الراعي: “سيدتي، أنا كسرت ساق هذا الخروف”.
اكتسحت نظرة ألم وجه الزائرة. وحين رأي الراعي ذلك، استطرد: “سيدتي، وسط كل الخراف في قطيعي، هذا الخروف كان الأكثر عنادًا. لم يُطع أبدًا صوتي. لم يَسِر أبدًا في الطريق الذي أقود فيه القطيع. مرارًا كثيرة تحوَّل إلى حافة الجرف المحفوفة بالمخاطر، وإلى الهاوية الخطرة. ولم يكتفِ بعدم الطاعة، بل قاد باقي خراف قطيعي للضلال. كان لي تجربة سابقة مع خروف من هذا النوع. لذلك كسرت ساقه. أول يوم ذهبت إليه بالطعام، حاول عضي. تركته يجلس بمفرده ليومين. ثم ذهبت إليه ثانية. والآن، لم يأخذ فقط الطعام، بل لعق يدي، وأظهر كل علامات الخضوع، بل وأيضًا المحبة. والآن دعيني أخبرك شيئًا. حين يصبح هذا الخروف صحيحًا - كما سيحدث قريبًا - سيكون القدوة في قطيعي. لن يسمع أي خروف لصوتي أسرع منه، ولن يتبعني أي خروف عن قرب مثله. وبدلاً من قيادة أصحابه للعصيان، سيصبح الآن مثلاً وقائدًا لمن يصعب قيادتهم، ويقودهم بنفسه، لطريق الخضوع لندائي”.
هل تعامل الله معك بطريقة تشبه إلى حد ما تعامل هذا الراعي مع خروفه؟ كان ذلك لأنه يحبك. لذلك لن يتركك وحدك. إنه يريد أن يتمتع ثانيةً بصحبتك. ولذلك يكسر الرابط الذي يربطك بالعالم وتفاهاته. والآن، إذا فقط أصبحت صادقًا معه ووثقت فيه، يستطيع أن يعوض لك عن السنين التي أكلها الجراد. ربما لن تعرف أبدًا كيف حفظك في تيهانك. كيف تتبَّعك، بالرغم من رفضك لتبعيته. هذه السنين التي قُضيت بعيدًا عنه، وبعيدًا عن الشركة معه، كانت سنوات ضائعة. كانت روحك مُهمَلة وجائعة، لم تعرف الأفراح الروحية، ولم تُنفَق طاقاتك في خدمته. كانت حياتك كلها مفتونة بأباطيل العالم الفاني الذي تعيش فيه. لقد عشت وتحركت وكان كل وجودك ليس لأجل الله أو حتى لأجل الجزء السامي منك، بل لأجل أحط جزء في كيانك. فلتسعَد حقًا إذا كنت قد بدأت في اكتشاف أنه إذا كانت عينك مثبتة على أمر أكثر بريقًا، فستبدأ في التغني: “يسوع أنت تكفي ... لملء العقل والقلب”.
القديس أوغسطينوس
استطاع القديس أوغسطينوس أن ينظر للخلف على السنين التي أكلها الجراد. وكيف عوض الله له عنها بصورة رائعة. كتب مائة وثماني عشر منتجًا ما بين كتب ومواعظ وخطابات وأوراق وملاحظات على أجزاء مختلفة من الكتاب المقدس؛ وجُمعت كلها معًا في عشرين مجلد ضخم.
لم يكن دائمًا قديسًا. حين أصبح شابًا وقع في خطايا واضحة وشنيعة، وتحول أيضًا عن الإيمان الحقيقي. وأبدًا لم تكفِ والدته “مونيكا” عن الصلاة لأجله. وبالنسبة لأوغسطينوس نفسه، تمنى دائمًا أن يتوب في يومٍ أو آخر، واعتاد أن يصلي: “يا رب، قدسني، ولكن ليس الآن”. كم كان الله رحيمًا ومُنعِمًا إذ لم يدِنه بكلامه، وكانت أفكار الله من نحوه أكرم من أفكاره هو الشخصية. ففي يومٍ ما، بعد أن سمع عن أحد القديسين الأوائل، قام عن مقعده، وذهب للحديقة في حزن ذهني عظيم، وألقى بنفسه على الأرض. وهو في هذا الوضع سمع صوت جميل لطفل يصرخ: خذ واقرأ! خذ واقرأ! نظر حوله، ورأي نسخة من رسائل القديس بولس على العشب. أخذ الكتاب وفتح على هذا العدد: «لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي النَّهَار:ِ لاَ بِالْبَطَرِ وَالسُّكْرِ، لاَ بِالْمَضَاجِعِ وَالْعَهَرِ، لاَ بِالْخِصَامِ وَالْحَسَدِ. بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ» (رو١٣: ١٣، ١٤). من تلك اللحظة تغيَّر، ثم فكَّر في أنه سيكون لمجد الرب إذا روى عن تاريخ حياته السابقة. وهكذا تكلَّم عن نفسه قائلاً: “أتمنى أن أسترجع ذكرى ماضيَّ اللئيم الأليم، وفساد نفسي، ليس لأني أحبهما، لكن لكي أظل أحبك، يا إلهي. أفعل ذلك حبًا في الحب، استرجع لذهني طرقي الرديئة، حتى - حين أشعر بمرارة خطيتي - أشعر أيضًا بحلاوة شخصك”.
وهكذا يحوّل الله الخاطئ لقديس. هل هناك أحدًا ممن يقرأون هذه السطور يُشارك أوغسطينوس في الجزء الأول من تجربته؛ حياة ضائعة في الخطية؟ هل تصعد أشباح هزيلة ومتجهمة لترحب بك وأنت تراجع ماضيك؟ مَنْ عوَّض القديس أوغسطينوس عن هذه السنين، يستطيع أن يفعل نفس الشيء معك. نفس الإله ما زال حيًّا. وحتى وإن شوهت خطايا كثيفة مثل الجراد حياتك الماضية، فهو يستطيع أن يعوض عن السنين التي أكلها الجراد.
أخيرًا، قليل من الناس لم يأتِ الجراد على حياتهم في وقتٍ أو آخر. قد تكون أُجبرت على قضاء سنوات في ألم وضجر، عبئًا على نفسك وعلى الآخرين. أو أطاح الفشل المستمر بمجهوداتك لمتابعة حياتك والتي كنت تسعى فيها باجتهاد للنجاح. ولم تحظَ بأي مكافأة على كل ما تكلفته من تعب، وربما، من مال. أو قد تكون الشخص الذي عليه أن ينظر للخلف فيجد سنوات من الشك والتكهنات الجرداء. تخليت عن إيمانك الأول، ومنذ ذلك الحين سرت وراء أنوار وثقت فيها، الواحد تلو الآخر، لتجد نفسك أخيرًا في ظلمة أعمق. تركت رؤية تلو الأخرى، ولم يتبق لك شيء الآن سوى الفراغ التام أو الرجوع للإيمان البسيط بالكتاب المقدس، والالتجاء لعمل المسيح الكفاري. كم أضاع جراد عدم الإيمان من سنين عمرك بوحشية! سنوات من الفكر العديم النفع، تهت فيها في متاهة يائسة، حيث لم تصل لأي شيء، وبالفعل، أصبحت أقل تأكدًا من أي شيء مقارنة بالوقت الذي شرعت فيه بالبحث. في كل هذه الحالات، وأخرى أكثر كثيرًا من أن نذكرها هنا، يظل الوعد صالحًا: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ».
لا تسأل: هل يستطيع الرب؟ أو حتى، كيف سيفعل الله ذلك؟ ثق فيه. في لحظة سامية لتابعي المسيح الأقرب إليه، حين اقتربوا من الموت، وبدا كل شيء وكأنه يهرب من تحت أقدامهم، كانت كلمته لهم: «لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِاللَّهِ» (مر١١: ٢٢). والتعويض عن السنين لا يعني بالضرورة استعادة الأشياء التي فقدتها أو حُرمت منها؛ بالرغم من أن هذا قد يحدث. لكنه يعني في كل الحالات أكثر من ذلك؛ بركات مُضافة أعظم. يُؤكد سياق الجزء الذي اقتبسنا منه هذا المقطع على نفس المعنى. إليك وصف التعويض عن السنين بالنسبة لإسرائيل:
«فَتَأْكُلُونَ أَكْلاً وَتَشْبَعُونَ وَتُسَبِّحُونَ اسْمَ الرَّبِّ إِلَهِكُمُ الَّذِي صَنَعَ مَعَكُمْ عَجَبًا، وَلاَ يَخْزَى شَعْبِي إِلَى الأَبَدِ. وَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ وَلَيْسَ غَيْرِي. وَلاَ يَخْزَى شَعْبِي إِلَى الأَبَدِ» (يؤ٢: ٢٦، ٢٧).
نادرًا ما يُعوض الله عما فُقِدَ بنفس الصورة (بل ربما هو لا يفعل أبدًا ذلك). سواء كانت هذه الخسارة بسبب عدم أمانتنا، أو لأن الله رأي أنها تناسبنا، فهو عادةً يمنحنا شيئًا أفضل. هو لن يُرجع أبدًا جنة عَدْن التي فقدناها، لكنه سيجعل الأرض كلها عَدْن؛ «تَفْرَحُ الْبَرِّيَّةُ وَالأَرْضُ الْيَابِسَةُ، وَيَبْتَهِجُ الْقَفْرُ وَيُزْهِرُ كَالنَّرْجِسِ» (إش٣٥: ١). وهكذا يكون في حالتك أيضًا. يجب أن تترك للرب أمر التعويض عن السنين التي أكلها الجراد. إن ما يهم هو طريقة تأمين التعويض، وهذا ما يُشار إليه في نفس هذا الأصحاح الثاني من يوئيل:
«وَلَكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ: ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ. وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ. وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَيَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ. لَعَلَّهُ يَرْجِعُ وَيَنْدَمُ، فَيُبْقِيَ وَرَاءَهُ بَرَكَةَ ... وَأُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ» (يؤ٢: ١٢-١٤، ٢٥).
بقيت كلمة واحدة في الختام. نحن لا نحاول هنا عمل توافق بين النعمة والحق. ما قيل قد يُثير في بعض الأذهان القول القديم: «لِنَفْعَلِ السَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ الْخَيْرَاتُ» (رو٣: ٨). هل نُضيِّع السنين إذا كان الله سيعوضنا عنها؟ هذه الأسئلة تجاوب نفسها بنفسها بالنسبة لمن عرفوا أي شيء عن إضاعة السنين سواء في حياتهم أو حياة من حولهم، واختبروا نعمة الله التعويضية. هؤلاء لن ينصحوا أبدًا أي شخص بتجربة الأمر. فمن المؤكد أنه لم يوجد قط أي مزارع دعا الجراد للمجيء إلى حقله، متفكرًا بالحصول على حصاد أفضل بعد ذلك. نحن فقط نرغب في تثبيت اهتمام القارئ على أحد أثمن المواعيد، وهو، أنه مهما سرق الجراد مِنا؛ سواء من خلال أخطائنا الشخصية، أو من خلال أخطاء الآخرين، فالله يستطيع أن يفعل للناس الآن، إن تابوا، ما سيفعله لإسرائيل في المستقبل حين يتوبون: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ».
كم عدد السنين؟ لا يخبرنا الكتاب. فقط هذا: «أُعَوِّضُ لَكُمْ عَنِ السِّنِينَ الَّتِي أَكَلَهَا الْجَرَادُ». إن لم يكن في الزمان، فالأبدية ستكون طويلة بما يكفي.