أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2012
دراسة فى سفر النشيد - قراءة من بين السطور
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
تراءى لي الرب من بعيد.  ومحبة أبدية أحببتكِ، من أجل ذلك أدمتُ لكِ الرحمة» (إر31: 3).
ذكرنا في العدد السابق أن سفر النشيد يحدثنا عن علاقة الرب بشعبه إسرائيل، من بدايتها حتى نهايتها. وقد قسمنا تلك العلاقة بحسب أقسام السفر الستة، أي قسمناها إلى ست فترات، بدءًا من دعوة إبراهيم، وحتى تأسيس ملك المسيح السعيد الألفي. ونبدأ في هذا العدد الحديث عن أولى تلك الفترات، وهي الواردة في نشيد 1 إلى 2: 7
الفترة الزمنية الأولى:

من دعوة إبراهيم حتى تأسيس المملكة وبناء الهيكل (ص1: 2-2: 7).

هذه الفترة الطويلة نسبيًا يمكن تقسيمها – بحسب تتبعنا لها في سفر النشيد –  إلى فترتين:
الفترة الأولى هي فترة الآباء، ومولد الأمة؛ والفترة الثانية من بداية الأمة وحتى السبي البابلي.  كل قسم يتكون من اثني عشر بيتًا في القصيدة، أو 12 آية.

أولاً: فترة الآباء (1: 1-12)

تميَّزت هذه الفترة ببعض العلامات البارزة مثل:
 ظهور الرب لإبراهيم ودعوته له للانفصال عن أصله الوثني، وإظهار ذاته للآباء.
 المعاملات الظالمة التي تعرض لها الآباء والشعب، ودفاع الرب عنهم.
 إخراجهم من مصر بذراع ممدودة ويد رفيعة، مع تعويضهم عن سني العبودية، إذ خرجوا بأملاك جزيلة كما قال الله لإبراهيم.

ثانيًا: فترة المملكة (1: 12-2: 7)

ويمكننا أن نرى في هذه الفترة العلامات البارزة التالية:
إقامة خيمة الاجتماع، وتقديم الذبائح لله، التي هي طعام الرب.
بناء الهيكل في زمان داود وسليمان.
لكن الشعب - وقد ذاق لمحة من حلاوة الرب ومُلكه - فإنه في مجموعه تَحَوَّل إلى الوثنية، مما استلزم سبيه إلى بابل.  وبذلك تأجل مشروع الله، أعني مُلك المسيا على شعبه، واقترانه بهم كعروس، حيث إن الشعب لم يكن مهيئًا لقبول المسيح المَلك.
*   *   *   *
يبدأ سفر النشيد بذكر “قبلات المُحِب”.  والقبلة هي علامة محبة خاصة.  وهذا عين ما نجده في تعامل الله مع الآباء، فهو اتجه إليهم بالمحبة، ويَذْكر الكتاب عن إبراهيم ثلاث مرات أنه “خليل الله” (2أخ20: 7؛ إش41: 8؛ يع2: 23).  ولقد قَدَّر إبراهيم محبة الرب له، واعتَزَّ بها، فعندما ظهر له الرب، وطلب منه أن يخرج من أرضه ومن عشيرته، خرج فعلاً، وكان أول مُهاجر في التاريخ يَتَغَرَّب عن أرضه وعن أهله.  وفي زمان لم تكن المواصلات ولا الاتصالات قد تطوَّرت مثل أيامنا، لم يكن ترك أرض الآباء ولا ترك الأحباب بالأمر الهين.  لكن إبراهيم في سبيل محبته لله “أطاع أن يخرج” (عب11: 8).  وكان هذا أول امتحان من الرب لإبراهيم، ونجح إبراهيم فيه.
بعد ذلك طلب الرب منه أن يطرد الجارية وابنها، فَبَكَّر أبرام صباحًا وفعل كما أمره الرب (تك21: 14).  ثم جاء الامتحان الأصعب، لما طلب الرب منه أن يُقَدِّم ابنه المحبوب الوحيد، ومرة أخرى لم يتردد إبراهيم، بل بَكَّر صباحًا، وذهب إلى أرض المريَّا ليقدم إسحاق محرقة للرب (تك22: 1-3)!  
ربما يكون أمرًا هينًا نسبيًا أن يُوَدِّع الشخص أهله وبيت أبيه، فهم في النهاية سيفترقون عنه إن لم يفترق هو عنهم.  لكنه أمر أصعب أن يُطْلَب منه طرد إسماعيل ابنه!  وأصعب الكل أن يقدم ابنه الوحيد المحبوب محرقة للرب على المذبح!
عندما تَرك إبراهيم الأرض والأهل فقد ضحَّى بماضيه؛ ولما طرد إسماعيل فقد ضحَّى بحاضره، لكنه ضحَّى بكل شيء، حتى المستقبل، لما بَكَّرَ ليُقَدِّم وحيده، الذي قيل له “بإسحاق يُدعى لك نسل” (عب11: 17، 18)؛ وكأنه يقول للرب: “تركتُ الكلَّ طُرًا في هواك”.  هذا معنى القول: «لأن حبك أطيب من الخمر». فإن كانت الخمر تُمَثِّل أفضل ما تنتجه الأرض من متع، فإن إبراهيم بلغة سفر النشيد فَضَّل محبة الرب على كل ما تنتجه الأرض من أفراح.
واستمرت علاقة المحبة هذه مع نسل إبراهيم من بعده.  فقال الرب عن يعقوب: «أحببت يعقوب» (ملا1: 2)؛ ليس يعقوب في شخصه فقط، بل أيضًا كتعبير عن الأمة كلها (انظر ملا3: 6).  في هذا يقول موسى للشعب في آخر أيامه: «ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم، لأنكم أقل من سائر الشعوب، بل من محبة الرب إياكم، وحفظه القَسَم الذي أقسم لآبائكم، أخرجكم الرب بيد شديدة، وفداكم من بيت العبودية، من يد فرعون ملك مصر» (تث7: 7، 8).  وفي ختام حياته يشير موسى إلى هذه المحبة فيقول: «جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم.  فأحب الشعب» (تث33: 2، 3).  ويؤكد الرسول بولس هذا المعنى في العهد الجديد إذ يقول عنهم: «من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم، وأما من جهة الاختيار فهم أحباء من أجل الآباء» (رو11: 28).
وبعد قبلات الفم، يتحدث الوحي عن اسم الحبيب، فتقول المحبوبة: «اسمُك دهن مهراق».  وهذا يُذَكِّرنا كيف سُرَّ الرب أن يُعلن اسمه لإبراهيم، ثم للآباء.  فهو عُرف عند الآباء بأنه “الله القدير” (تك17: 1؛ 28: 3؛ 35: 11)، وبعد ذلك أَعلن اسمًا آخر من أسمائه لموسى وللشعب، وهو “يهوه” (خر3: 14؛ 6: 3).  وهكذا باستعلان اسمه للآباء باعتباره “الله القدير”، وللشعب باعتباره “يهوه” إله العهد، أمكنهم أن يتغنوا قائلين: “اسمك دهن مُهْراق”.
وإن كان الرب قد دعا إبراهيم “وهو واحد” (إش51: 2)، فلقد قال له: “تتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (تك12: 3)، وهو ما يمكننا أن نراه هنا في قول المحبوبة: «اجذبني وراءك، فنجري» (ع4).  فإن المجد الذي ظهر لإبراهيم وجذبه، كان له التأثير المبارك مع جماهير لا تُحصى، فإبراهيم هو أبو كل المؤمنين (رو4: 16، 17).  وهو أمر لم يحدث قبل إبراهيم.  
وهذه الفكرة تتكرر مرة ثانية إذ تقول المحبوبة: «أدخلني الملك إلى حجاله (بالمفرد)، نبتهج ونفرح بك (بالجمع)» (ع4).
وقبل ترك هذه الفقرة لعله من الجميل أن نلاحظ أن الحجال (أي غرفة الملك الخاصة) نرى فيها الظهورات الفردية للآباء.  فهو ظهر لكل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ظهورات خاصة.  لكن عندما نصل إلى بداية المملكة، سنقرأ لا عن الحجال (الظهورات الخاصة)، بل عن المائدة (وهي شركة عامة) كما سيتضح في ما بعد.  
ثم يأتي اعتراف المحبوبة، فتقول عن نفسها إنها “سوداء وجميلة” (1: 5).  هذه هي الحقيقة، سواء تَفَكَّرنا في الآباء أو في الشعب.  هل كان في الآباء أي شيء يجعل الرب يحبهم أكثر من غيرهم؟  أ لم يقل يشوع في خطابه الوداعي للشعب: «آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر، تارح أبو إبراهيم وناحور، وعبدوا آلهة أخرى» (يش24: 2).  إذًا فلقد طالتهم ظلمة الوثنية وسوادها، كما طالت غيرهم من الشعوب.  لكن الرب ظهر لهم، وفصل قلبهم عن تلك الوثنية المظلمة، فأمكنهم القول: “أنا سوداء وجميلة”؛ “سوداء” نظرًا لأصلي الوثني، “وجميلة” نظرًا للنعمة التي غيرتني وجعلتني في علاقة مع الرب.
وهو فكر يملأ القلب بالتعزية والفكر بالسلام: أنه ليس بسبب شيء فينا اتجهت محبة الرب لنا، كقوله له المجد: «أنا... أحبهم فضلاً» (هو14: 4).
وعبارة «لأن الشمس قد لوحتني» تُذَكِّرنا بتدريبات الله المُذِلَّة مع يعقوب (رأس تلك الأمة)، ثم مع نسله من بعده.  فلقد أدخل الرب يعقوب في مدرسته وقام بتدريبه وتهذيبه.  ونحن نرى في حياته كم لوحته الشمس، حتى قال قرب ختامها: «أيامي .. قليلة وَرَدِيَّة» (تك47: 9).  وكان قد قال قبلها، بقلب كسير: «صار كل هذا علي؟» (تك42: 36).  
ثم تقول المحبوبة: «بنو أمي غضبوا عليّ».  ومن أحق من يعقوب أن يقولها؟  فلقد غضب عليه عيسو ابن أمه، مما اضطره أن يهرب عند لابان أخي أمه. ولم يكن لابان خيرًا من عيسو.  وبعده يوسف، الابن المفضل ليعقوب: كم أبغضه إخوته، حتى إنهم باعوه للإسماعيليين؟  “فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام” (تك49: 23).  
ونلاحظ أن يعقوب تألم بسبب الخطية، بينما تألم يوسف بسبب البر.  وهكذا فإن النسل الذي يريد الرب أن يباركه، ستجده متألمًا على كل حال.  وهو ما أراه الله لأبرام في الرؤيا، عندما لخص له فترة مئات السنين من تاريخ نسله: «اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيباً فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ. ثُمَّ الأُمَّةُ الَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا أَنَا أَدِينُهَا. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ بِأَمْلاَكٍ جَزِيلَةٍ» (تك15: 13، 14).  ولقد دعا النبي هذه المعاملات القاسية التي تعرضوا لها في أرض مصر “كور المشقة” (إش48: 10)!  ولا سيما في تلك الفترة التي فيها قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف.  لكننا نحن نعرف الآن كيف كان هذا جزءًا من الخطة الإلهية العجيبة من نحوهم؟
وكلمات المحبوب لحبيبته: «اخرجي على آثار الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة»: تُذَكِّرنا بأن الآباء جميعًا، سواء إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب كانوا رعاة غنم ومواشٍ.  بل وحتى موسى كان راعيًا لغنم حميه في مديان.  ونتذكر أنه لما نزل يعقوب وعشيرته إلى مصر، عُرفوا لدى فرعون بأنهم رعاة مواشٍ، وكانوا بذلك رجسًا عند المصريين.  والرب في حكمته سمح بذلك ليظلوا منفصلين عن المصريين، الذين كانوا يكرهون الرعاة، وسبق لهم - على الأرجح - أن طردوا الهكسوس (الذين هم ملوك الرعاة).  لكن الأمر العجيب والمُعَزِّي في آن، أن الرعاة المكروهين لدى المصريين كانوا محبوبين محبة خاصة لدى الرب، الذي هو الراعي الأعظم.  وليس من تعليل لذلك إلا لأنه من نسلهم كان سيأتي راعي الرعاة، الراعي الصالح، ربنا يسوع المسيح.
وأين كان الرب في خلال تلك الفترة؟  إنه بجوار الغنم (ع7، 8).  فالرب - بلغة يعقوب لابنه يوسف، وكلاهما عانى كثيرًا وقاسى من القريب والغريب - هو «الراعي صخر إسرائيل» (تك49: 24).  نعم، كان الرب قريبًا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب، و «لم يدع إنسانًا يظلمهم، بل وَبَّخ ملوكًا من أجلهم، قائلاً: لا تمسوا مُسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي» (مز105: 14، 15).  وليس الآباء فحسب، بل حتى بنو إسرائيل كان الرب قريبًا منهم.  لقد أذلهم ملك مصر وشعبها بقصد القضاء عليهم، ولكن «بِحَسْبِمَا أَذَلُّوهُمْ هَكَذَا نَمُوا وَامْتَدُّوا» (خر1: 12).  فما أعظم هذا “الراعي، صخر إسرائيل”!
وعندما نصل إلى كلمات الحبيب لحبيبته: “أخرجي”، فإننا نَتَذَكَّر إرسالية الرب لموسى لكي يُخرج بني إسرائيل من أرض مصر، وكان ذلك بناء على كلام الله لإبراهيم «وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة» (تك15: 14).  لقد قال الرب لموسى: «فالآن هلمَّ فأرسلك إلى فرعون وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: مَنْ أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر» (خر3: 10، 11).  لكن موسى بعد ذلك نال القوة من الرب فنقرأ: «هذا أَخرجَهُمْ صانِعاً عجائِبَ وآياتٍ في أَرضِ مِصْرَ وفي البحرِ الأَحمر وفي البرِّية أَربعين سنةً» (أع7: 36).  وما كان موسى رجل الله يعرف المساومة في هذا الأمر، فأكد لفرعون أن كل الشعب سيخرج، وأنهم سيخرجون بغنمهم وبقرهم، وأنه لن يبقى ظلف في أرض مصر!
وبخروج الشعب من أرض مصر تحولوا من أفراد إلى أمة، بل ومن عبيد إلى جند الرب وشعب الرب.  وهنا يُشَبِّه الحبيب محبوبته بالفرس (ع9)  والتشبيه عينه ذكره إشعياء النبي: «ثُمَّ ذَكَرَ الأَيَّامَ الْقَدِيمَةَ: مُوسَى وَشَعْبَهُ. «أَيْنَ الَّذِي أَصْعَدَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ مَعَ رَاعِي غَنَمِهِ؟ أَيْنَ الَّذِي ... سَيَّرَهُمْ فِي اللُّجَجِ كَفَرَسٍ فِي الْبَرِّيَّةِ فَلَمْ يَعْثُرُوا؟» (إش63: 11-14).
أما الزينة التي على هذا الفرس (ع10) فليس صعبًا أن نرى فيها أمتعة الفضة والذهب التي وضعها الشعب على بنيهم وبناتهم عند خروجهم من أرض مصر (خر3: 22).  ويخبرنا خروج 33: 4-6 صراحة أن الشعب عند خروجه من أرض مصر كانت عليه “زينة”.  ولم يكن ذلك إلا مكافأة لهم على خدمتهم الطويلة في مصر بدون مقابل، كما كان إتمامًا لكلام الرب مع إبراهيم أنهم “سيخرجون من مصر بأملاك جزيلة”.  
ثم يقول الحبيب لمحبوبته: «ما أجمل خديك بسموط، وعنقك بقلائد!  نصنع لكِ سلاسل من ذهب، مع جمان من فضة». جمال مكتسب، ومزيد من الجمال الاكتسابي، نقرأ عن مثيل له في نبوة حزقيال 16: 8-14، وهو يتحدث عن بداية تاريخهم كأمة، وعندما صاروا مملكة.
{يتبع}

يوسف رياض

 


يوسف رياض