ليس ثمة كلام لغو أو حشو في الكلمة المُوحى بها، فكل عبارة، وكل إشارة، بل كل كلمة لها غرضها وسببها. إن ملاحظاتنا كثيرًا ما تتضمن كلمات غير ضرورية، ولكن ليست هكذا كلمة الله.
ونجد مثالاً لافتًا لذلك في يهوذا 14 حيث نقرأ: «وَتَنَبَّأَ عَنْ هَؤُلاَءِ أَيْضًا أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ»؛ أي أن أَخْنُوخ كان رقم سبعة في سلسلة النسب بحسب شيث، وهي حقيقة يمكن إدراكها بسهولة من تكوين 5. ولكن قد يُجرَّب المرء فيتساءل: لماذا يُخصِّص يهوذا بضعة كلمات ليلفت انتباهنا إلى هذه الحقيقة. هل ثمة مغزى وراء ذلك؟ يقينًا، فسبعة في الكتاب هو رقم الكمال والتمام. وهو عادة يُشير إلى ما هو صالح، وإن كان أحيانًا يُشير إلى كمال الشر. ومن ثم كان لائقًا أنه بين الآباء العشرة البطاركة الذين جاءوا قبل الطوفان، يأتي رقم سبعة مُعبرًا عن الإيمان وحياة الإيمان في تمامها.
ولكن ثمة ما هو أكثر. فإذا نظرنا إلى تكوين 4 وأحصينا الآباء الذين جاءوا قبل الطوفان، سنكتشف أن رقم سبعة في سلسلة النسب بحسب قايين هو لامك.
في تكوين 5 نُعطى سلسلة النسب بحسب شيث بدون تعليق، إلا ذكر أعمارهم، إلى أن يصل إلى أخنوخ حيث يتوقف روح الله ليُسجل تفاصيل معينة خاصة به. وفي أصحاح 4 يحدث الأمر ذاته، فيذكر نسل قايين بأسمائهم فحسب، إلى أن يصل إلى السابع: لامك، فإذا بروح الله يتحول ليُعطينا بعض التفاصيل بخصوصه.
تتكون سلسلة نسب قايين من رجال يُعبّرون عن فساد الجسد ومبادئ العالم. بينما في سلسلة نسب شيث، نرى الله يحفظ النسل التقوي قصرًا على رجال الإيمان. وفي كلتا الحالتين فإن الرجل البارز، الشخصية المحورية التي نجد فيها تعبيرًا كاملاً عن نسبه، كان الرجل رقم سبعة. ففي لامك نجد العالم في ملامحه الرئيسية (تك4: 19-24). وفي أخنوخ نجد مسار المؤمن عبر العالم (تك5: 21-24).
والطريقة التي يتناول بها روح الله سيرة كلا الرجلين تستحق التنويه، لأنها ذات الطريقة المتسقة مع المكتوب طولاً وعرضًا. ففي 1كورنثوس 15: 46 نقرأ: «لَكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ الْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذَلِكَ الرُّوحَانِيُّ». فأولاً مَن هو مِن الإنسان ومآله إلى السقوط. وثانيًا مَن هو كليًا مِن الله، وهذا يثبت. وفي مكان آخر نقرأ: «يَنْزِعُ الأَوَّلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ الثَّانِيَ» (عب10: 9).
كان عصر ما قبل الطوفان عصر شر وفساد فائقين، ولذلك «مَلَكَ الْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى» (رو5: 14)، إذ كثرت الخطية، ولكن لم يكن ثمة تعدٍ حيث لم يكن ثمة ناموس ليُكْسَر. وليس ذلك فقط، بل لم تكن بعد ثمة سُلطة إلهية مُرتبة على الأرض، حيث لم يكن هناك أحدٌ مُخولاً بحمل سيف العدالة، مُمثّلاً لله أمام رفقائه من الجنس البشري. ولكن ذلك ترتب وتثبت بعد الطوفان (تك9: 1-6). في ذلك العصر الغابر كان كل إنسان ناموسًا لنفسه. وبلغ الأمر ذروته في حالة لامك.
ويُسجل لنا الوحي ثلاثة أمور بشأن تلك الشخصية القوية المتمردة:
1- لقد كسر ترتيب الله الذي من البدء بخصوص الزواج، حيث كان رجل واحد يتحد بامرأة واحدة. ويبدو أنه كان أول مَن كسر هذه القاعدة وارتبط بأكثر من زوجة. لم يكن يعبأ بترتيب الله. حقيقي أنه ارتبط بزوجتين فقط، أي أن سليمان وأحشويرش فاقاه كثيرًا، لكن لامك كان هو الذي فتح بوابات طوفان ذلك الشر! وكان أول مَن ارتاد سبيل هذا الشر البغيض على الأرض. هذه هي شهوة الجسد.
2- كوَّن لامك مع زوجتيه عائلة كبيرة. وهنا يظهر الطابع الثاني لشخصيته والذي يبدو في أولاده. وهكذا أدت شهوة الجسد إلى شهوة العيون. فأحد أبنائه أضحى رائد التجارة «كَانَ أَبًا لِسَاكِنِي الْخِيَامِ وَرُعَاةِ الْمَوَاشِي»، حيث سكن مع ذريته في خيام بدوية، تجول الأرض مع قطعانها، وتردد مع حيواناتها دونما استقرار لفلاحة الأرض، فكونوا نواة التجارة والنقل.
ابن آخر صار رائد الفنون والعلوم، إذ «كَانَ أَبًا لِكُلِّ ضَارِبٍ بِالْعُودِ وَالْمِزْمَارِ»؛ أي أول مَن أبدع الجانب الذهني والذوقي الجمالي في الحياة.
وصار الابن الثالث رائد الصناعة والاختراعات؛ «الضَّارِبَ كُلَّ آلَةٍ مِنْ نُحَاسٍ وَحَدِيدٍ»، ومن ذريته خرج صناع آلات النحاس والحديد.
ثم يُسجل الوحي اسم أخت لهم “نَعْمَة”. ومعنى اسمها على ما يبدو “مسرة” أو “جمال”، وهي اسم على مسمى، فقد مثلت جانب المتعة في الحياة، وصارت رائدة في هذا المضمار؛ مضمار المسرات العالمية.
ولنذكر أن “شهوة العيون” ليست قصرًا على ما نراه بعيون رؤوسنا، بل بعيون عقولنا. وهي تنسحب على كل مسعى روح الإنسان الدؤوب، ومحاولاته اللاهثة للبحث والمعرفة، والتي توصم الإنسان المتجنب عن مصدر المعرفة الحق، الله. واليوم فإن الإنسان محموم بالاندفاع وراء اكتشاف عوالم جديدة وأفكار حديثة في مجال المعرفة، ولكنهم “دائمًا يتعلمون، ولا يقبلون إلى معرفة الحق أبدًا”.
وهكذا نرى في لامك وعائلته ما يُشبه جدولاً صغيرًا تنامى وفاض حتى أصبح نهرًا جارفًا اليوم.
3- ولكن لامك لم يكن فقط رائدًا في مجال الفساد باعتباره أول مَن أدخل تعدد الزوجات، بل أيضًا ضالعًا في ميدان العنف. فقد كان أنانيًا كبيرًا معجبًا بذاته. وهكذا نرى فيه تعظُّم المعيشة. والآيتان تكوين 4: 23، 24 تقولان: «إِنِّي قَتَلْتُ رَجُلاً لِجُرْحِي وَفَتىً (شابًا) لِشَدْخِي (رضّ - كدمة)»؛ أي أن فتى تعسًا ألحق بلامك جرحًا جسميًا، فما كان مِن لامك إلا أن قتله انتقامًا لنفسه.
وقبل عدة أجيال كانت جريمة قايين البشعة والتي جلبت عليه إدانة الناس، ودينونة الله، مما جعل الناس ينظرون باحترام ورهبة إلى قدسية الحياة الإنسانية. ومجددًا صار لامك أول مَن كسر هذا الحاجز. ولم يكتف لامك بقتل الفتى، بل عاد إلى زوجتيه في روح الزهو والفخار بما عمل. لقد افتخر بفعلته، وليعطي زوجتيه فكرة عن فرط أهميته، أشار بوقاحة للحماية الإلهية التي بسطها الله على قايين، لكي لا يسمح لأحد أن يمسه، كما هو واضح في الآية 15 من تكوين 4. لقد أكد أنه إذا اُنتقم لقايين سبعة أضعاف، فبالنسبة له يُنتقم سبعة وسبعين. أي أنه أكثر أهمية إحدى عشرة ضعفًا من قايين. حقًا إنها تعظم معيشة!
وما هي هذه الأمور إلا عناصر هذا العالم؟ «لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ» (1يو2: 16). وعلى أساس هذه الدعامات الثلاث يقوم نظام هذا العالم. واليوم نراها جلية واضحة قريبة من الاستعلان الأقصى، وإن كان يمكن تمييزها منذ أيام لامك.
وبينما كان لامك يلهو ويمرح في الأرض قبل نحو ألف عام من الطوفان، ويتعدى كافة الحدود التي كانت تحد دون الفساد والعنف البشريين، فاتحًا لها الطريق لتطغي، إلى أن «فَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا» (تك6: 11)، في نفس هذا الوقت عينه ظهر رجل آخر بسيرة حياتية مختلفة؛ هو أخنوخ. وسار مع الله نحو 300 سنة بعد ولادة ابنه “مَتُوشَالَح”.
وبخصوص هذه الشخصية المُعتبرة، يُسجل الوحي أمرين في سفر التكوين، وشيئين في العهد الجديد؛ أي أربعة أمور. دعونا نتتبعها، لأنها تُعلمنا الطابع الحقيقي لمسلك القديسين خلال العالم، كما نراه في “أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ”.
أولاً: سَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ
يا له عالمًا من المعاني متضمن في هذه الكلمات القليلة! “سَارَ” وتشير إلى النشاط لا الراحة، سواء نشاط العقل أو نشاط الجسم. أنشطة عقل أخنوخ كانت في طريق الاتصال والشركة، كما كانت في طريق الخدمة أيضًا. وذلك كله “مَعَ اللهِ”. كان الرب الإله يسير مع آدم في الجنة قبل السقوط، كما يُشير تكوين 3: 8، ولكن أخنوخ كان وسط مشهد من الخراب المتزايد والعنف، فلم يكن ممكنًا أن يسير الله معه كما فعل مع آدم قبل السقوط، ومن ثم فإن أخنوخ هو الذي سار مع الله. لقد عرف الله نفسه، وعاش وتحرك تحت إمرته، واستمد وجوده منه. بالجسد وطأ الأرض التي لم تعد بعد مكانًا لائقًا للسير مع الرب الإله في برودة شر أيامه، وبالروح سار مع الله في مكانه، ووسط أموره.
ومع ذلك هو لم يكن ناسكًا أو شخصًا خياليًا مبهمًا، لأنه مكتوب: «وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَتُوشَالَحَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ» (تك5: 22). لقد انخرط في حياة إنسانية عادية، وعرف التجارب البشرية المعتادة؛ مآسيها وأفراحها. لقد اختبر أفراح إنشاء أسرة. وعادة ما كانت العائلات في هذا الزمان الغابر، كبيرة. وعلى الرغم من ذلك فقد سار مع الله ليس بصفة عارضة أو سطحية، بل بإصرار دؤوب لفترة ثلاث مئة سنة. ويا لها من مسيرة رائعة! أطول مسيرة سجلها المكتوب. وفضلاً عن سيره مع الله بالروح، سار مع الناس بجسمه حاضرًا معهم، عارفًا بطرقهم وخطاياهم، شاهدًا لله أمامهم. ولكن هذا يأتي بنا إلى الملمح الثاني الذي يُميزه:
ثانيًا: لقد شهد أخنوخ لله
ويُخبرنا يهوذا عن هذا الأمر مسجلاً موضوع شهادته «وَتَنَبَّأَ عَنْ هَؤُلاَءِ أَيْضًا أَخْنُوخُ السَّابِعُ مِنْ آدَمَ قَائِلاً: هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ، لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمِ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ» (يه14، 15). حتى في هذه الحقبة الباكرة من تاريخ العالم كان ثمة شهادة واضحة لظهور الله بالمجد، ظهور من شأنه أن يقنع الفجار. لم يبخل أخنوخ على سامعيه رغم كونهم فجارًا بالأفعال والكلمات. ويا له من أمر لافت للغاية أن تتكرر - لثلاث مرات - لفظة “فُجَّار” ومشتقاتها في الآية 15 من رسالة يهوذا! فنحن لا نقرأ أن أحدًا رجع إلى الله نتيجة شهادة أخنوخ، ولكنها شهادة اتسمت بأقصى قدر من الأمانة والقوة.
ثالثًا: نُقل أخنوخ ليكون مع الله
يُسجل سفر التكوين أنه في نهاية الثلاث مئة سنة قيل عن أخنوخ: «وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ» (تك5: 24)، وهذا ما أبرزه العهد الجديد أيضًا: «بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ» (عب11: 5). ونتعلم من هنا أن الإيمان هو الطاقة التي دفعت أخنوخ للسير مع الله، ثم نُقل إلى حضرته. فبعد ثلاثة قرون من السير مع الله، يبدو طبيعيًا وبسيطًا أن “اللهَ أَخَذَهُ” في يوم ما. وهكذا تغير محل سكن أخنوخ الأرضي، ليمكث في حضرة الله نفسه.
وكل كلمة هنا لها مغزاها. لقد«نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ». هل معنى ذلك أن الموت كان يتربص به؟ هل كان مُهددًا بالموت؟ يبدو هذا الاحتمال صعبًا نظرًا لأن أباه عاش 962 عامًا، وابنه عاش 969 سنة، ومتوسط عمر الآباء التسعة الذين جاءوا قبل الطوفان (عدا هو) كان يفوق 900 سنة. يقول الكتاب: «لَمْ يُوجَدْ (أخنوخ)»، الأمر الذي يعني أنه “طُلب” و “بُحثَّ عنه”. ولكن اللغة واضحة، فقد «نُقِلَ ... لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ». فالتقرير الأدبي المجيد بصدد هذا أن قوة الله من خلال الإيمان تستطيع أن تنتشل إنسانًا من قبضة الموت وسلطانه. إنها تستطيع أن تحفظه في حياة روحية بينما يسير في دائرة يسودها الموت، وفي النهاية تُحرّره من يده السامة، وتنقله خارج دائرة سلطانه، إلى محضر الله ليحُلّ هناك إلى الأبد.
كما نستنتج أن موته كان وشيكًا، وأن نقله كان بالكاد قبيل وقوع الضربة. وبكلمات أخرى: إن الله ترك أخنوخ يسير في سبيل الشهادة الأمينة إلى آخر لحظة ممكنة، وعندما أوشك الناس الأشرار – في عصر ما قبل الطوفان – أن يقتلوه ليُسكتوا شهادته غضبًا من كلماته الجريئة الصريحة، «لَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ».
وإذا حالفنا الصواب في قراءة هذه الكلمات، فإن نقل أخنوخ كان بمثابة دينونة على هذا العالم. كما كان أيضًا شهادة حية لحقيقة أن الله كان في صفه. وهذا يقودنا إلى الملمح الرابع:
رابعًا: لقد أرضى أخنوخ الله
لقد أرضى أخنوخ الله وهو أمر يستحيل أن ينفصل عن الإيمان. وقد رأى العالم الدليل عليه في حقيقة نَقْلِهِ، فقد “شُهِدَ لَهُ ... قَبْلَ نَقْلِهِ” «إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عب11: 5).
والآية 4 من عبرانيين 11 تُخبرنا أن هابيل “شُهِدَ له أنه بار قبل قَتْلِهِ” «بِالإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلَّهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ. فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ اللهُ لِقَرَابِينِهِ». بينما الآية 5 تُقرر أن أخنوخ “شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ قَبْلَ نَقْلِهِ”. فأحدهما كان بارًا أمام الله وعرفه، والآخر كان موافقًا لله وعرفه. كلاهما تمتع بالمصادقة الإلهية أنه قد أرضى الله. وماذا يمكن أن يُقال بعد هذا؟ فالحياة التي يمكن تلخيصها في هذه الكلمات الثلاث هي الحياة التي تستحق أن تُعاش، رغم كونها – كما في حالة أخنوخ – حياة لا تُرضي العالم على الإطلاق.
إذن نحن هنا أمام صورة متكاملة – منذ فجر التاريخ – للعالم من جهة، ولسبيل المؤمن خلال العالم باتجاه المجد، من جهة أخرى. خمسون قرنًا قد مرت، وتقدم العالم تقدمًا هائلاً. والنبتة الصغيرة التي كانت على أيام أخنوخ صارت شجرة عملاقة، وفروعها الثلاثة الرئيسية التي ظهرت في لامك: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظُّم المعيشة، نمت وامتدت، وأصبحت أغصانًا تحمل أثمارًا بلا حصر.
ولكن اعترى الشجرة العظيمة علامات الضعف. هل أُطلعكم على السر؟ لقد نخر السوس داخلها، وقوض جذورها. لقد دينت الشجرة، وكُتبت عليها هذه العبارة: «الْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ» (1يو2: 17). هل نرثيها؟ في الحقيقة كلا! لتكن كيفما تكون، ولكن زوال نظام هذا العالم مدعاة للفرح. والعبارة المُقتبسة أعلاه لا تُختم دون أن تلحق بالقول: «وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (1يو2: 17).
وأخنوخ مثال واضح لنا. فكما أن نوحًا يمثل بقية تقية من إسرائيل، تُحْمَل بأمان لتجتاز طوفان الدينونة، وصولاً إلى الأرض الجديدة. هكذا أخنوخ يمثل مسار الطاعة والشهادة من جانب الكنيسة إلى أن تُختطف قبيل انصباب الدينونة. ألا يليق بنا نحن الذين نعيش في نور إعلان أروع كثيرًا مما كان لأخنوخ، أن نقتدي بإيمانه؟
بِناءً عليه، فإن شغلنا الشاغل ينبغي أن يكون السير مع الله، لا أن نسبقه فنجري أمامه، أو نسير متمهلين خلفه. بل أن نرافقه خطوة بخطوة، فرحين به، كما أعلن لنا ذاته في المسيح، متجاوبين مع كل ما أعلنه لنا بقوة الروح القدس المُعطى لنا. والأمر كله رهن بالتدريب والإيمان الشخصيين. فما أن نسير مع الله، حتى نشهد له، ونرضيه. والعاقبة مؤكدة ومضمونة – شكرًا لله! سنذهب لنكون مع الله، وننتقل إلى ذات محضره.
ف. ب. هول