ليس ثمة شيء غاية في البساطة كتلك التي تتضح في سؤال يُثار. فعدد الاسئلة التي طرحها بطرس على الرب، والتي سجلها الروح القدس لهي جديرة بالاهتمام، لما لنا فيها من استفادة جمة. كان الرسول بطرس شخصًا على سجيته، تلقائيًا وعفويًا، ويبدو ذلك واضحًا من طبيعة استفساراته التي طرحها على الرب يسوع. ولكنها في الوقت نفسه تُبين كم كان مستمعًا يقظًا لأحاديث سيده المُبارك، وكيف كان عقله يُفكر مليـًا في الخدمة السماوية التي كان الرب يسوع يتلقاها يوميًا. وإن كان يبدو جليًا أن هذه الخدمة كانت تفوق إدراكه آنذاك، لكن الطريقة التي طرح بها الأسئلة التي كانت تثير اهتمامه، والتي كانت على صلة وثيقة بموضوع تعاليم الرب، تدل على نشاط ذهني متوهج، يعكس ما يدور داخل لُبه من أفكار، والتي غالبـًا ما يفاجئنا بها هذا الرجل، لكونه صاحب شخصية مندفعة. وهذه الاستفسارات الكثيرة ندين له بها، فإجاباتها من فم الرب حملت لنا تعاليم قَيِّمة. وسنستعرض بعض هذه الاستفسارات حسب ترتيب ورودها، بقدر ما يُمكننا جمع تسلسلها حسب سردها بالإنجيل.
السؤال الأول: المسؤولية والتعويض
«فقالَ لهُ بُطرُسُ: يا رَبُّ، ألَنا تقــولُ هذا المَثَلَ أم للجميعِ أيضًا؟» (لو ١٢: ٤١)
قد نتساءل: ما المقصود بالمثل؟ يُعرف المثل في الكتاب المقدس بأنه ”التعبير عن شيء غامض أو مجازي“، كقول المرنم: «أُميلُ أُذُني إلَى مَثَلٍ، وأوضِّحُ بعودٍ لُغزي» (مز ٤٩: ٤). وكذلك قول المرنم: «أفتَحُ بمَثَلٍ فمي. أُذيعُ ألغازًا منذُ القِدَمِ» (مز ٧٨: ٢). ومن خلال لغة المرنم نُجمع أن ”المثل“ و”اللغز“ هما مترادفان. ويتضح من السؤال الذي طرحه بطرس على الرب، أنه كان ينظر لتعاليم الرب الرائعة الواردة في لوقا ١٢ باعتبارها ”لغزًا“، ولم يتم استيعابه بصورة كاملة إلا بعد مجيء الروح القدس، وسكناه في التلاميذ. ودعونا نلقي نظرة على هذا الإصحاح، لنستفيد من هذا المثل الذي يكتسي بجمالٍ بديعٍ.
يُجمَّعَ لوقا دائمًا حقائقه من أجل تشكيل صورة تحمل مغزى، فلا الحقيقة التي تعتمد على الترتيب الزمني ولا تلك التي تعتمد على الشريعة هي جل مقصده. ففي حين يركز البشير متى على الشريعة، يبدو واضحـًا أن مرقس هو البشير الذي يركز على الترتيب الزمني للأحداث. نرى في لوقا ١١ أن أمة إسرائيل ترفض المسيح رفضًا نهائيًا. لذلك يفترض لوقا ١٢ غيابه – أي بجسده - عن الأرض، وتعيين تلاميذه في موضع الشهادة – أي على الأرض- بقوة الروح القدس، الذي أتى عندما صعد الرب بجسده، بينما يبدي العالم مقاومة لهم. إن الفخاخ التي قد يتعرضون لها وإمدادات الرب لخاصته أثناء غيابه، والتوجه الذي ينبغي أن يمتلكهم حتى عودته، هي مقصد لوقا الرئيسي في هذا المقطع الكتابي.
أولاً: الرياء يرفضه نور الله؛ فالحاجة إلى الحقيقة (الأصالة)، لأن كل شيء سيُستعلن (لو ١٢: ١-٣).
ثانيًا: الخوف من الإنسان يطرده خوف أكبر؛ ألا وهو خوف الله، حين يمتلئ القلب بحماية الرب القدير. فالرب يحصي بالفعل شعور رؤوسهم (لو ١٢: ٤-٧).
ثالثًا: الِاعتراف بإخلاص للمسيح (لو ١٢: ٨-١١).
رابعًا: مساعدة الروح القدس للتلاميذ لاحقـًا فيما سيقولونه إذا ما تم استدعاؤهم قدام المجامع (لو ١٢: ١١، ١٢).
ويا لروعة المحفزات والمشجعات المعطاة هنا! نور الله، ورعاية الله، ومكافأة المسيح، وقوة الروح القدس!
يرفض الرب بعد ذلك أن يكون قاضيـًا كمن هو مرفوض من الأمة. ومن خلال الموقف الذي عُرض أمامه، قدم لخاصته هذا التحذير «تحفظوا من الطمع». ومن ثم يقدم الرب مثل الغني الغبي. وا أسَفَاه! ماذا حدث ”لنفس“ هذا الغني التي كان يتحادث إليها؟! لقد كان علاج المرض الذي أصابه – أي الطمع – أن يصبح «غنيـًا لله» (لو ١٢: ١٣-٢١).
تتكشف بعد ذلك المبادئ العملية العظيمة التي تميز خاصته. إذ ليس عليهم أن يفكروا في الغد، بل أن يثقوا بالله، «وأمّا أنتُمْ فأبوكُمْ يَعلَمُ أنَّكُمْ تحتاجونَ إلَى هذِهِ». ما أجمل هذه الكلمات حقًا! فإذا ما طلبنا ملكوت الله، فسيُزاد لنا كل شيء. ما أروع هذه التعاليم الثمينة لقلوبنا المضطربة! (لو ١٢: ٢٢-٣١). فهكذا يتم التخلص من الخوف والطمع والاهتمام، والتي هي بمثابة ثلاثة ثعالب رهيبة تفسد العنب في كرم الله: الخوف من الإنسان يزيحه خوف الله، الطمع يزيحه أن يصبح المؤمن غنيـًا لله؛ والاهتمام يزيحه الثقة في رعاية الرب. وهكذا يحرر الرب المبارك القلب من الأرض ويرفعه نحو كل ما هو سماوي، فينشغل هذا القلب بشخصه الكريم، منتظرًا عودته من السماء.
ولكن الرب يعلن ما هو أكثر من ذلك قائلاً: «لا تخَفْ، أيُّها القَطيعُ الصَّغيرُ، لأنَّ أباكُمْ قد سُرَّ أنْ يُعطيَكُمُ الملكوتَ». قد تخاف قلوبنا خشية ألا يكون لنا خبز للغد، إلا أن الرب يظهر ما في قلبه من نحونا، بأنه أعطانا الملكوت (لو ١٢: ٣٢). معرفة أمر كهذا يرفع القديس، ويجعله عمليـًا غريبًا ونزيلاً. يمكنه حينئذ أن ينفصل عن الأشياء التي هنا في العالم، لأن لديه كنز في السماء «لأنَّهُ حَيثُ يكونُ كنزُكُمْ هناكَ يكونُ قَلبُكُمْ أيضًا» (لو ١٢: ٣١، ٣٤).
أن شعار العالم هو ”اكدح ... واكنز“، بينما أمر الرب لخاصته هو: ”بع ... وأعطِ“. يا له من اختلاف! لكن هذا الأخير لن يتأتى للقديس أبدًا فعله، ما لم يمتلك كنزًا في السماء؛ أي الرب يسوع ذاته كنزه الثمين. هل أسمعك تقول: ”أحاول أن أجعله كنزي“. دعني أخبرك: إنك لن تتمكن أبدًا بهذه الطريقة ما لم تدرك أن الرب شخصيًا لديه كنزًا على الأرض، وأنك أنت هو هذا الكنز، سيصير الرب حينئذ - دون أدنى مجهود - هو كنزك «نَحنُ نُحِبُّهُ لأنَّهُ هو أحَبَّنا أوَّلاً» (يو ٤: ١٩). العث والصدأ واللصوص جميعًا ستقضي – آجلاً أم عاجلاً – على كل ما نضع قلوبنا عليه هنا. ما أحسن أن يكون لديك «كنز لا يَنفَدُ في السماواتِ»!
لنلاحظ أن أمامنا هنا ثلاثة أشياء تأسر القلب - الآب يعطي الملكوت، والكنز الثمين في السماء، وتوقع عودة الرب. «لتَكُنْ أحقاؤُكُمْ مُمَنطَقَةً وسُرُجُكُمْ موقَدَةً، وأنتُمْ مِثلُ أُناسٍ يَنتَظِرونَ سيِّدَهُمْ مَتَى يَرجِعُ مِنَ العُرسِ، حتَّى إذا جاءَ وقَرَعَ يَفتَحونَ لهُ للوقتِ. طوبَى لأولئكَ العَبيدِ الّذينَ إذا جاءَ سيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ ساهِرينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّهُ يتَمَنطَقُ ويُتكِئُهُمْ ويَتَقَدَّمُ ويَخدُمُهُمْ ... فكونوا أنتُمْ إذًا مُستَعِدّينَ، لأنَّهُ في ساعَةٍ لا تظُنّونَ يأتي ابنُ الإنسانِ» (لو ١٢: ٣٥-٤٠). يجب على العبيد، حتى مجيء سيدهم، أن يكونوا منتظرين وساهرين، سرجهم موقدة، الجميع مستعدون، الوضع برمته يُعبِّر عن الانتظار، أما ساعات الانتظار، فهي ليست الانتظار السلبي بلا عمل، بل تملؤها الخدمة المُكرسة. عندما يرجع، سيُحضرهم إلى بيت الآب، وسيتمنطق ويتكئهم، ويتقدم ويخدمهم. يشير هذا – حسب رأيِّ - إلى أن الرب يسوع سيظل بجسده طوال الأبدية، ذاك الجسد الذي سبق وأن خدمنا به في محبته. تلك المحبة التي قادت إلى تجسده وموته. وعندما تكون خاصته معه في المجد، فإنه وقتئذ سيخدمهم، لأن محبته لن تتوقف أبدًا. المحبة التي يسرها أن تَخدِم، بينما يروق للأنانية أن تُخدَم. حقًا، ما أشد التباين في كثير من الأحيان بين يسوع وبيننا!
يبدو الآن تعليم هذا الأصحاح واضحًا بما فيه الكفاية - على الرغم من أنه يجب أن نعترف بصعوبة السلوك دائمًا بموجب هذا التعليم - ولكن من الواضح أن بطرس اِلتبس عليه شأن تطبيقه، من ثم يقول: «يا رَبُّ، ألَنا تقولُ هذا المَثَلَ أم للجميعِ أيضًا؟». ومع ذلك، فجواب الرب أيضًا واضح بما يكفي، إذ يقول: «فمَنْ هو الوَكيلُ الأمينُ الحَكيمُ الّذي يُقيمُهُ سيِّدُهُ علَى خَدَمِهِ ليُعطيَهُمُ العُلوفةَ في حينِها؟ طوبَى لذلكَ العَبدِ الّذي إذا جاءَ سيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفعَلُ هكذا! بالحَقِّ أقولُ لكُمْ: إنَّهُ يُقيمُهُ علَى جميعِ أموالِهِ» (لو ١٢: ٤٢-٤٨).
المسؤولية هي النقطة المحورية هنا، والمرتبطة بالاعتراف. إذ يبدو واضحًا أن جميع الذين يعترفون باسم الرب مشمولون داخل حديث المسيح. وسواء كان الاِعتراف اِعترافًا قلبيًا حقيقيًا أو زائفًا اسميًا - رغم أن مسألة الاعتراف الزائف محزنة إلى أبعد حد - فليس هذا ما يرمي السؤال إليه.
أمران يجب أن يميزا تلاميذ المسيح: (١) أن يسهروا وينتظروه. (٢) أن يخدموه حتى رجوعه.
إن كان أمر السيد هو «تاجِروا حتَّى آتيَ» (لو ١٩: ١٣)، فهو أيضًا الشعار المُحبَب للعبد الساهر الصادق في محبته لسيده، ذلك العبد الذي ينتظر عودة سيده بينما أحقاؤُه مُمَنطَقَةً، يعمل بصبر حتى مجيئه، ثم يجد مكافأته وراحته في الوجود مع سيده محتفلاً به – ويا للفرح والبهجة اللتين يتمتع بهما هذا العبد حين يخدمه السيد بذاته - في حين أن أمانته في الخدمة ينال مكافأتها بإن يقيمه السيد على كل ماله! إذا كان هناك خدام اعترافهم زائف، ودون حقيقة جوهرية في حياتهم، فإن مصير مثل هؤلاء مذكورة بالتفصيل لبطرس في الأعداد ٤٥-٤٨، بطريقة لا أشك بأنها تركت عميق الأثر في نفسه، وهذا الأثر يظهر بوضوح في رسائله – لاسيما الرسالة الثانية. يطلب الله من الناس حسب وزناتهم التي أعطاها لهم. إذا كان الأمر كذلك، فمن سيكون مذنبًا كذنب أولئك الذين لا يفعلون مشيئته ولا ينتظرون رجوعه بينما يَدَّعِون دائمًا أنهم خدام الرب؟ لذا، وجب على جميع الخدام، من دُعي عليهم اسم المسيح، أن يلتفتوا بعناية لرد الرب على أول استفسار سجله الوحي للرسول المغبوط.
(يتبع)