عمود يعقوب الرابع: عمود قطع كل رجاء أرضي
«ثُمَّ رَحَلُوا مِنْ بَيْتِ ايلَ. وَلَمَّا كَانَ مَسَافَةٌ مِنَ الارْضِ بَعْدُ حَتَّى يَأتُوا الَى أفْرَاتَةَ وَلَدَتْ رَاحِيلُ وَتَعَسَّرَتْ وِلادَتُهَا. فَقَالَتِ الْقَابِلَةُ لَهَا: «لا تَخَافِي لانَّ هَذَا ايْضا ابْنٌ لَكِ». وَكَانَ عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهَا (لأنَّهَا مَاتَتْ) انَّهَا دَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ اونِي». وَامَّا ابُوهُ فَدَعَاهُ بِنْيَامِينَ. فَمَاتَتْ رَاحِيلُ وَدُفِنَتْ فِي طَرِيقِ أفْرَاتَةَ (الَّتِي هِيَ بَيْتُ لَحْمٍ). فَنَصَبَ يَعْقُوبُ عَمُودا عَلَى قَبْرِهَا. وَهُوَ «عَمُودُ قَبْرِ رَاحِيلَ» الَى الْيَوْمِ» (تكوين ٣٥: ١٧-٢٠).
لماذا لم يبقَ يعقوب في بيت إيل؟ حسنًا، لا بد أنه مكث هناك لبعض الوقت، لكن هناك المزيد من الدروس الروحية التي يجب تعلمها، والأماكن التالية تدل على نوعية تلك الدروس أيضًا. لكن العمود الأخير والعمود السابق مرتبطين ببعضهما البعض تمامًا. معنى ”أفراتة“ ”الإثمار“. بعد أن يأتي المرء إلى بيت الله سيكون هناك إثمار. وهناك رحلة لا بد أن تُقطع، فالغاية ليست الاستقرار في الأرض فحسب. بالرغم من أنك أنت وأنا، الذين خلصنا بنعمة الله وصرنا أعضاء في جسد المسيح؛ كنيسة الله، نعرف الحق الخاص بالاجتماع (ونشكر الله عليه، وأثق أننا لن نضل عنه)، لكن في الوقت نفسه نحن لسنا هنا لنستقر، وكأن كل شيء على ما يرام، بل هناك تدريبات للنفس علينا اجتيازها، لأننا لم نزل سائحين. فكرمز نحن في الأرض، وسائحون نحو الأرض التي أمامنا، لكن ”أفراتة“ تتحدث عن إثمار النفس الذي هو نتيجة وجودنا في مكان الله لنا.
مما لا شك فيه كان موت راحيل واحدًا من أشد الدروس إيلامًا ليعقوب ليتعلمه. لقد اخترق أعماق نفسه إلا أن كيفية شعوره نحو ذلك الأمر لم يُذكر قط في كل تاريخه. لقد ذكر ليوسف بعد ذلك بزمان كثير «وَانَا حِينَ جِئْتُ مِنْ فَدَّانَ مَاتَتْ عِنْدِي رَاحِيلُ فِي ارْضِ كَنْعَانَ فِي الطَّرِيقِ اذْ بَقِيَتْ مَسَافَةٌ مِنَ الارْضِ حَتَّى اتِيَ الَى أفْرَاتَةَ. فَدَفَنْتُهَا هُنَاكَ فِي طَرِيقِ أفْرَاتَةَ (الَّتِي هِيَ بَيْتُ لَحْمٍ)» (تك ٤٨: ٧). لقد أحس بمرارة الموقف، لكنى أعتقد أننا الآن نرى في يعقوب خضوع القلب الذي ميَّز أن ما حدث هو من صنع يد الله، وكان خاضعًا له. لقد تعلم الدرس؛ أن يخضع لله.
والآن دعونا نجمّع الأفكار عن راحيل. ليئة هي رمز لما أنا عليه بالفعل، وكانت ليئة مكروهة؛ راحيل هي رمز لما أود أن أكون عليه، الحالة الروحية التي أريد أن أحققها. كمؤمن أريد أن أكون أكثر روحانية مما أنا عليه، فأقول إني أريد أن أعلو إلى مكانة مرتفعة إن أمكن، لكن على أن أكف عن ذلك، كما كان على يعقوب أن يكف عن راحيل. إلا أنه بمجرد أن انسحب من راحيل وصل إلى الحالة التي في فكر الله من جهته. إن كنا نريد الوصول إلى حالة روحية سامية كهدف فلن نحقق ذلك أبدًا؛ أما إذا توقفنا عن ذلك فستأتي إلينا تلك الحالة بمجرد قبول بنيامين. بنيامين هو رمز للمسيح الممجد في يمين الله. لقد دعته راحيل ابن أوني أي ”ابن حزني“، لكن يعقوب دعاه ”بنيامين“ أي ”ابن اليمين“. هنا نجد رمزًا للرب يسوع كمن فيه كل القوة. كان على يعقوب أن يكف عن راحيل؛ رغبة قلبه، ليحصل على بنيامين. إن توقفنا عن السعي وراء الحالة الروحية السامية، وسعينا وراء المسيح كهدف نفوسنا، ستأتي هذه الحالة الروحية من تلقاء نفسها، فلن نفكر فيها بل سنجدها فينا. لو رأيت كل الجمال والمجد والكمال في الرب يسوع المسيح ماذا سيحدث؟ سأخضع طوعًا. لو رأيت كل شيء جميلاً في المسيح، وحاولت أن أخضع نفسي له لن أنجح في ذلك، لاعتبارها محاولة لعمل شيئًا من الجسد، وهذا مستحيل، وبدلاً من ذلك على أن أثبّت نظري على المسيح المعلق على الصليب.
كل الوقت الذي حاول فيه يعقوب أن يكون شخصية خاضعة وهو مع راحيل، لم يتمكن، لكن بمجرد أن انفض عن راحيل استطاع. إن طريق الوصول إلى الخضوع صعب. كانت رغبه يعقوب بالأكثر هي راحيل، وكان عليه أن يكف عنها. أعزائي: ألا تعتقدون أن هذا درس هام لنا جميعًا؟ ماذا نجد هنا على الأرض؟ ماذا يستحق العيش لأجله؟ كان على مريم المجدلية فعل ذلك أيضًا، أن تقدم الغالي لديها. قال لها الرب يسوع: «لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي، لكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يو٢٠: ١٧). بكلمات أخرى ”ستجديني في المجد يا مريم، لن تجديني على الأرض فيما بعد. ربما كُسر قلبك لأنك لم تجديني هنا، لكنك ستجديني في المجد“. هذا بالضبط ما تحتاجه نفوسنا، أن ترفع قلوبنا نظرها إلى المسيح في المجد.
عندئذ «نَصَبَ يَعْقُوبُ عَمُودا عَلَى قَبْرِهَا. وَهُوَ عَمُودُ قَبْرِ رَاحِيلَ» الَى الْيَوْمِ»؛ إنه عمود التخلي عن كل رجاء أرضى. هذان العمودان الأخيران متفقان معًا. إن كانت ثقتي هي في الله الحي (العمود الثالث)، سيكون التخلي عن أجمل الأماني الأرضية (العمود الرابع) هينًا علىّ. إلا أننا لن نتخلى عنها دون الحصول على ما هو أفضل. كيف أفعل هذا؟ عندما أعرف أن لي إلهًا حيًا، ولى مواعيده، ولى كل ما يمنحني إياه في المسيح؛ حينئذ يكون ممكنًا. ماذا تعني الأرض؟ أليس مبهجًا أن نترك كل شيء خلفنا؟ ألا يكون أمر بديع أن يأتي الرب يسوع بغتةً الآن ونراه وجهًا لوجه؟ هل يوجد بيننا من يندم على ترك أي شيء وراءه على الأرض؟ بكل تأكيد إن رؤية الرب في كل قيمته السماوية تأتى بجزيل الفرح لنا. فأفضل ما نرغب فيه، وأفضل ما رغب فيه يعقوب لا بد أن يُترك وراءنا. هذا هو عمود قبر راحيل إلى هذا اليوم.
هذه الأعمدة الأربعة هي تذكارًا في حياة يعقوب لم ينساها قط،
وأيضًا لها أهميتها لكل منا اليوم.
(تمت)