أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد أكتوبر السنة 2005
موت المسيح في الانجيل - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

حمل  الله

«وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ» (1: 29).

  البشير يوحنا هو البشير الوحيد الذي سجل لنا كلمات المعمدان عن المسيح باعتباره ”حمل الله“، ولا نجد هذا التعبير قط في البشائر المتماثلة متى ومرقس ولوقا، بينما هو يرد مرتين في إنجيل يوحنا كلاهما على فم المعمدان، وكلاهما في الأصحاح الأول.

 الحمل في أسفار الوحي:

 تُبرِز لنا أسفار العهد القديم أهمية الذبيحة، بداية من تكوين 3، حيث الذبيحة التي قدمها الرب في الجنة ليستر عري آدم وحواء. كما يشغل الحمل مكانًا بارزًا بين هذه الذبائح، بداية من تكوين 4 حيث قدم هابيل من أبكار غنمه ومن سمانها، ثم تكوين 15 إذ كان واحدًا من الذبائح المتنوعة التي قدمها إبراهيم يوم قطع الرب العهد معه، ثم في تكوين 22 حيث يرد تعبير ”الخروف“ لأول مرة في الكتاب المقدس، عندما سأل إسحاق أباه إبراهيم قائلاً: «هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟» (تك22: 7). وبعد ذلك نقرأ في خروج 12 عن الفصح، من الخرفان أو من المواعز؛ وفي خروج 29 نقرأ عن المحرقة الصباحية والمحرقة المسائية، وكل منها كانت خروفًا حوليًا.

 ولقد ألمح سفر المزامير إلى أن الله يريد شيئًا مختلفًا عن تلك الذبائح، إذ لا يمكن لمثل هذه الذبائح، مع تنوعها وكثرتها، أن تسر قلب الله، بل إنه يريد شخصًا تكون له إرادة، ويأتي بإرادته ليقدم نفسه في طاعة وحب لله، وإذ ذاك يتم تنحية كل نظام الذبائح الدموية القديم، ويأتي ذاك الذي يقول: «أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت، وشريعتك في وسط أحشائي». عندها فقط يمكن أن يتحقق سرور الله (مز40: 6-8)، وهو ما تم فعلاً في صليب المسيح كما نتعلم من عبرانيين 10: 1-10. ولعل ما طلبه الله من إبراهيم في تكوين 22 كان تهيأة الأذهان لذلك، إذ قال الرب لإبراهيم: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المُريّا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال التي أقول لك» (تك22: 1و2).

 وفي نبوة إشعياء نجد حديثًا عن عبد يهوه البار، ويقول عنه النبي: «كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه» (إش53: 7)

وفي العهد الجديد حدثنا الرسول بطرس عن المسيح باعتبار أنه «حمل بلا عيب ولا دنس.. معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم» (1بط1: 19و20).

 وأما سفر الرؤيا فيمكن أن يقال عنه بحق إنه سفر ”الحمل المذبوح“. حيث يرد التعبير فيه 28 مرة.

 ونلاحظ أن تأثير الذبائح في العهد القديم كان يمتد لفرد (تك4)، أو لعائلة (خر12)، أو على الأكثر للأمة اليهودية (خر29)، وأما ذبيحة المسيح فتأثيرها يشمل العالم أجمع. مع الأخذ في الاعتبار أن الخرفان الحيوانية لا تقدر أن ترفع الخطية، بينما حمل الله هو الذي لا يعالج مشكلة إنسان أو أمة بل مشكلة الكون كله. إنه يرفع خطية العالم.

 الإشارة الأولى في العهد القديم وفي العهد الجديد:

هناك مقابلات عديدة بين سفر التكوين وإنجيل يوحنا، ومن ضمن هذه المقابلات أننا في تكوين 22 نجد أول ذكر للخروف في العهد القديم، ويرد هناك مرتين (ع7و8)؛ وفي يوحنا 1 نجد أول ذكر للخروف في العهد الجديد، ويرد هناك مرتين (ع29و36). ولقد وردت الإشارة الأولى عن الخروف في تكوين 22: 7 في صيغة سؤال: «أين الخروف للمحرقة؟». وما ورد في يوحنا 1: 29 يمكن أن نعتبره الإجابة على هذا السؤال: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم».

 إن سؤال إسحاق منطقي، وله علاقة به هو شخصيًا؛ ولكنه أيضًا روحي وله علاقة بكل المؤمنين. لقد قال إسحاق: «هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف؟» ونحن يمكننا أن نرى في العهد القديم نار الله التي تعبِّر عن غضبه (تك3: 24؛ 19: 24)؛ كما أن الحطب الذي هو وقود تلك النار، واضح في الناس الأردياء الأشرار. ولكن ما لا يمكننا أن نتبينه بوضوح في العهد القديم هو الخروف: أين هو الفادي الذي يُذبح نيابة عن المؤمنين التائبين؟

 إن سؤال إسحاق لأبيه في ذلك المشهد الرمزي، يمثل سؤال الأتقياء قبل ظهور المسيح. بكلمات أخرى يمكن القول إن العهد القديم كله يمثل شوق الأتقياء وبحثهم وانتظارهم للفدية: ”أين الخروف؟“، والإجابة على تلك الأشواق نجدها في الأناجيل: «هوذا حمل الله». ثم في سفر الرؤيا نجد إكرام هذا الفادي المجيد «مستحق هو الخروف المذبوح» (رؤ5: 12).

يمكن القول إن العهد القديم كله يمثل شوق الأتقياء وبحثهم وانتظارهم للفدية: «أين الخروف؟»، والإجابة على تلك الأشواق نجدها في الأناجيل: «هوذا حمل الله». ثم في سفر الرؤيا نجد إكرام هذا الفادي المجيد «مستحق هو الخروف المذبوح»

ومن مبدأ الإشارة الأولى، إذ يربط الوحي في أول ذكر للخروف بينه وبين المحرقة: نتعلم أن الخروف أساسًا هو للمحرقة، وأن المحرقة هي أساسًا خروف. فالتيس عادة يقدم ذبيحة خطية أو ذبيحة إثم، وأما الحمل فمرتبط بالمحرقة. ولأن يوحنا – كما أشرنا قبلاً - يحدثنا عن المحرقة، فلا عجب أن يحدثنا عن المسيح باعتباره الحمل.

 يوحنا المعمدان وحمل الرحمان: نقرأ في بداية الأصحاح (يوحنا1) أن المسيح هو كلمة الله، والآن (في منتصف الأصحاح) نقرأ أنه ”حمل الله“. والمسيح باعتباره ”كلمة الله“ هو الخالق الذي عمل العالمين، ولكن باعتباره ”حمل الله“ فهو المصالح لكل شيء. ”كلمة الله“ هو الاسم الذي يوضح لنا تفوق شخص المسيح، وأما ”حمل الله“ فيظهر لنا سمو عمله.

ونلاحظ أن الرسول يوحنا إذ أشار إلى المسيح ”كلمة الله“ الأزلي الخالق، فقد أكد على تفوقه وسموه على يوحنا المعمدان (ع1-10). ثم بعد الحديث عن تجسد ”الكلمة“، فقد ذكر كلمات المعمدان نفسه: «إن الذي يأتي بعدي، صار قدامي، لأنه كان قبلي» (ع15). والآن عندما قال المعمدان عنه إنه ”حمل الله“، كرر التأكيد على تفوق المسيح: «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي» (ع30). فسواء باعتباره الخالق أو المصالح، الكلمة أو الحمل، فإنه أسمى وأعظم من يوحنا المعمدان.

 ويوحنا المعمدان بالإضافة إلى كونه نبيًا فقد كان ابن كاهن، وبالتالي كان يعرف التوراة جيدًا، ويعرف أيضًا قيمة الذبائح وأهمية الحمل. ولكن بالرغم من ذلك فإنه - على الأرجح - عندما تحدث عن المسيح كحمل الله الذي يرفع خطية العالم، نطق بكلمات أبعد من إدراكه في ذلك الوقت. وكثيرًا ما كان الأنبياء يتكلمون بكلام أبعد مما يمكنهم هم أنفسهم استيعابه (1بط1: 11و12)، ونعتقد أن ما نقرأه هنا من يوحنا المعمدان ليس استثناء من هذه القاعدة.

 «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم:

 تبدأ عبارة المعمدان بكلمة للفت الانتباه نظرًا لخطورة الكلام المقدم بعده. ونحن نريد أن نتوقف في إعلان المعمدان العظيم عند ثلاثة أفكار هامة في هذا النطق العظيم.

 ”حمل الله“:

يرى البعض أن تعبير ”حمل الله“ يعني الحمل الإلهي العظيم الممتاز. في خروج 9: 28 نقرأ عن رعود الله، أي رعود عظيمة، وفي 1صموئيل 14: 15 نقرأ عن ”ارتعاد عظيم“، وفي ترجمة داربي ارتعاد الله، أو ارتعاد من الله وعليه فحمل الله يمكن أن يترجم ”الحمل العظيم“.

 أو قد يعني هذا التعبير: الحمل الذي أعده الله وجهزه، وهو عظيم بكل يقين. أو قد يعني أيضًا ”الحمل الذي يتناسب مع الله“، ونحن نجد هذا الفكر في قول داود في مزمور 51: 17 «ذبائح الله هي روح منكسرة»، والمقصود من تعبير ”ذبائح الله“ هنا، الذبائح التي تتناسب مع الله والتي يقدرها ويعتبرها.

 مما سبق يكون معنى ”حمل الله“: الحمل العظيم الذي جهزه الله يما يتناسب مع متطلباته التي لا يعرفها سواه، ولا يقدر أن يحققها سوى شخص معادل له تمامًا. إنه الحمل المعيَّن من الله والمقدم من الله، والمقبول من الله. إنه الحمل الذي ينسب إلى اسم الجلالة، فهو الخروف الذي رآه الله لنفسه؛ لأجل مجده هو ولأجل بركة المؤمنين به. إنه حمل لم يحضره إنسان ليقدمه لله، بل يا للعجب هو الحمل الذي أحضره الله ليقدمه فداء للإنسان!

 ”خطية العالم“:

لاحظ أنه لا يقول ”خطايا العالم“، فواضح أن المسيح حمل خطايا المؤمنين فقط، كما يؤكد كل من الرسولين بولس وبطرس (عب9: 28؛ 1بط2: 24)؛ بل إنه يقول: ”خطية العالم“. فهو لا يتحدث هنا عن المسيح كمن رفع خطايانا لكي نخلص، بل كمن يرفع خطية العالم، ويعالج مشكلة الخطية لمجد الله.

”خطية العالم“ هنا هي إذًا تعبير يتحدث عن الخطية كمشكلة معقدة في العالم، ليس لها حل، لكنها وجدت الحل والعلاج في المسيح المذبوح. ونحن نتذكر أن هذا الفصل (يوحنا1) قبل أن يحدثنا عن حمل الله الذي يرفع خطية العالم، حدثنا أن العالم لم يعرف المسيح (ع 10). ونحن نسأل: لماذا لم يعرف العالم خالقه؟ أليس لأن هناك خللاً في أوضاع هذا العالم بعد دخول الخطية إليه؟

 ويعلق داربي على هذه الآية فيقول: ”إن المسيح لا يستعيد بعمله على الصليب كل الأشرار، ولكنه يستعيد أسس علاقات العالم بالله. فمنذ الطوفان كانت الخطية بالتأكيد هي ما يأخذه الله بعين الاعتبار في علاقاته مع العالم، أيًا كانت تعاملاته. لكن نتيجة لعمل المسيح لن يعود الحال هكذا، بل سيكون عمله هو الأساس الأبدي لهذه العلاقات في السماء الجديدة والأرض الجديدة، وهكذا تنحى الخطية بالكامل جانبًا. ونحن نعرف هذا بالإيمان قبل النتيجة العلنية في العالم“.

 «يرفع خطية العالم»

كان اليهود ينتظرون مسيحًا يحل لهم مشكلاتهم هم، وأما أن يأتي المسيح لتمجيد الله فما كان هذا الأمر يعنيهم كثيرًا. لقد انتظروا قائدًا عسكريًا لا مخلصًا متألمًا. لكن المسيح لم يأت محررًا من نير الرومان، ولا أتى كفيلسوف أو كمعلم أو نبي أو مصلح، لقد أتى مخلصًا، أتى ليعمل ما لم يمكن لبشر أن يعمله، ولا تقدر علومهم أو كنوزهم أن تحصِّله لهم: رفع خطية العالم.

 ولاحظ أن الحمل هنا يرفع وليس يحمل. إنه يرفعها لكي يبعدها، وهو الذي سيكون بوسعه أن يلاشي الخطية وحالة الفوضى والتشويش من هذا العالم. ونحن نعلم أن رفع خطية العالم سيتم على مرحلتين: المُلك الألفي عندما تُعتَق الخليقة من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله (رو8: 21). ساعتها لن تكون الخطية سائدة، ولو أنها ستكون استثنائية؛ والمرحلة الثانية، وهي الأكمل، في السماوات الجديدة والأرض الجديدة. وفيها سيسكن البر (2بط3: 13). عندذاك ستختفي الخطية تمامًا، وكذلك الشيطان وملائكته.

على أساس ”حمل الله الذي يرفع خطية العالم“، أمكن للمبشرين على مدى ألفي عام أن يتجهوا إلى كل النفوس مقدمين كلمة الخلاص لهم

 والمعمدان لا يقول إن حمل الله رفع خطية العالم، ولا قال إنه سيرفعها، بل ما قاله المعمدان هو هذا: «حمل الله الذي يرفع خطية العالم». إنه يضع الأمر في صورة مطلقة. كما نلاحظ أنه لا توجد في هذه الآية إشارة توضح لنا كيف دخلت الخطية، ولا حتى كيف سترفع، بل ببساطة يوضح أن المسيح هو الذي يرفع خطية العالم. وهذا هو أساس كل بركة وكل مجد تابعين.

 لك المجد يا سيدنا المسيح الذبيح، فإن ذبيحتك الواحدة كان فيها كل الكفاية، لا من جهة خطايانا نحن، أو خطايا إسرائيل، بل العالم كله. وعلى أساس ”حمل الله الذي يرفع خطية العالم“، أمكن للمبشرين على مدى ألفي عام أن يتجهوا إلى كل النفوس مقدمين كلمة الخلاص لهم. إن دم الحمل أزاح ذلك الكابوس المزعج من أمام نظر الله، حتى ما يلتقي الله مع العالم بالنعمة لا بالقضاء والدينونة.

 (يُتْبَع)

يوسف رياض