«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو3: 14، 15).
في الأقوال السابقة نجد الإشارة الثالثة في إنجيل يوحنا لموت المسيح، وقد وردت في الأصحاح الثالث من الإنجيل. وكما تضمنت الإشارة الأولى في يوحنا 1: 29 تلميحًا إلى الدم (في حديث يوحنا عن الحمل)، وكما كان موضوع الإشارة الثانية هو موت المسيح وقيامته (في رد الرب على اليهود قائلاً لهم: ”انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه“)، فإن هذه الإشارة الثالثة تتحدث مباشرة عن الصليب، حيث تحدث المسيح للمرة الأولى عن طريقة الموت قائلاً: «ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان».
وطابع إنجيل يوحنا، الذي يقدم لنا المسيح ”ابن الله“، أنه حتى في أثناء الحديث عن الصليب، فإنه لا يغفل مطلقًا إبراز عظمة المصلوب. سبق أن أشار الإنجيل إلى عظمة الشخص وعظمة العمل عندما ذكر كلمات المعمدان عن المسيح بأنه ”حمل الله“ (يوحنا1). ثم أشار مرة ثانية إلى عظمة الشخص مبرهنًا على ذلك بإقامته لنفسه من الأموات (يوحنا2)، وهنا يتحدث عن عظمة الشخص لكنه يربطه بشيء غريب، هو هوان الصليب!
رفع ابن الإنسان
وهذه الإشارة الثالثة إلى موت الصليب تعتبر أولى إشارات ثلاث وردت في إنجيل يوحنا إلى ”رفع“ المسيح، كلها تشير إلى حادثة الصلب. المرة الأولى قال فيها المسيح ببساطة: «ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان» (يو3: 14). وفي المرة الثانية قال المسيح لليهود: «متى رفعتم ابن الإنسان فخينئذ تفهمون أني أنا هو» (يو 8: 28). وفي المرة الثالثة قال المسيح: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو12: 32). في المرة الأولى نجد حتمية لاهوتية لا مفر منها، فلقد كانت هذه هي ”مشورة الله المحتومة“ (أع2: 23)؛ وفي المرة الثانية نجد الجانب البشري في مسألة الصليب، فإن اليهود ”بأيدي أثمة صلبوه وقتلوه“، بينما المرة الثالثة نجد الجانب الإلهي، فلقد ارتفع الرب يسوع بمحض إرادته، وكامل مشيئته، ليتمم ما قيل عنه بدرج الكتاب.
ونلاحظ أن هذا التعبير ”رفع ابن الإنسان“ ارتبط في المرات الثلاث بلقب المسيح كابن الإنسان. وكما أن تعبير ”رفع“ ابن الإنسان يدل على الرفعة والسمو، فإن لقب ”ابن الإنسان“ هو أحد الألقاب المجيدة للمسيح.
في الآية التي ندرسها والتي فيها ذكر المسيح للمرة الأولى تعبير «يُرفع ابن الإنسان»، كان الرب يتحدث مع نيقوديموس. وقبل أن يشير إلى رفع ابن الإنسان، كان قد سبق توًا وقال: «ابن الإنسان الذي هو في السماء». فإن كان ابن الإنسان في السماء، فكيف يقول المسيح بعد ذلك: «ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان»؟ إلى أين سيُرفع إن كان هو في السماء؟ الإجابة العجيبة والرهيبة في آن أنه سيرفع فوق الصليب!
والصليب في إنجيل يوحنا ليس مهانة لابن الإنسان، بل مجد (يو13: 31). ونحن في الأناجيل المتماثلة والأعمال، نجد أن رفع المسيح جاء تاليًا لقيامته، بينما في إنجيل يوحنا هو مرتبط بالصليب نفسه!
حتمية لا مفر منها
لم يقُل المسيح هنا إن ابن الإنسان سوف يُرفع، بل قال ”ينبغي أن يُرفع“. ومعنى ذلك – كما أشرنا منذ قليل - أن هذه حتمية لا مفر منها، ولا طريق آخر بخلافها. فالله مع أنه يَقدِر أن يغفر الخطايا، لكنه لا يقدر أن ينكر نفسه. وبالتالي لا يمكن بحال أن يتعارض مع كلمته أو عدله أو قداسته. فلكي يكون الله بارًا وهو يبرر الخاطئ المؤمن، كان يلزم أن يُدان شخص خالٍ من الخطية بدلاً عن الخطاة. ومن هنا جاءت كلمة ”ينبغي“، في العبارة العظيمة: «ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان».
والمسيح في حديثه السابق مع نيقوديموس، تكلم معه بما هو وارد في كتب الأنبياء، والآن (في الآية موضوع دراستنا) يتكلم معه من رموز الناموس. من كتب الأنبياء تحدث الرب إليه عن الماء والولادة، والآن يتحدث من الناموس عن السم والموت. ونلاحظ أنه في المرتين تحدث المسيح على أنه هناك حتمية لا مفر منها. فعن الولادة قال المسيح :«لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق»، والآن يتحدث عن الحتمية الأخرى، فيقول إنه هو ينبغي أن يموت!
لكي يمكننا أن ندخل إلى مجال البركات التي قصدها الله من نحونا، والتي أتى ابن الله ليقدمها للبشر الهالكين، كان هناك ما هو أكثر من الولادة ثانية نحتاج إليه. فالخطية موجودة، ويجب التخلص منها لأولئك الذين سيحصلون على الحياة. وإن كان الرب يسوع بنزوله من السماوات قد جاء ليمنح هذه الحياة الأبدية للآخرين، فإنه يتحتم عليه، ليمكنه القيام بهذا العمل، أن يخطو خطوة أبعد، ينبغي أن يزيل الخطية، حتى تمحى الإهانة التي لحقت بالله، ولا يخالف الله حقيقة شخصيته.
بمعنى آخر إن علاج مشكلة الإنسان كان يجب أن يضع في الاعتبار حالة الإنسان، وأيضًا طبيعة الله. فالإنسان ميت ومتجنب عن حياة الله، فيحتاج إلى ولادة من فوق، والله قدوس وبار ولا يمكن أن يساكن الخاطئ ولا أن يبرِّر المذنب، فيتحتم أن تُقَدم كفارة عنه. وإن كان روح الله القدوس أخذ على عاتقه مسألة الولادة ثانية، فإن الرب يسوع في نعمة غنية أخذ على عاتقه أن يصنع الكفارة. لهذا يقول هنا إنه كان ضروريًا وحتميًا أن يُرفع ابن الإنسان، مرفوضًا من البشر على الأرض، محققًا الكفارة أمام إله البر.
المسيح وهو في هذا الوضع الرهيب، مرفوضًا من الأرض ومن السماء، هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يتقابل فيه الخاطئ الهالك مع الله القدوس العادل ليتم خلاصه!
وإذ يُرفع ابن الإنسان، فإنه بذلك يصبح خارج الأرض. كما أنه في ساعات الظلام – كما نعلم - أُغلقت السماء أمامه وهو معلَّق على الصليب. والمسيح وهو في هذا الوضع الرهيب، مرفوضًا من الأرض ومن السماء، هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يتقابل فيه الخاطئ الهالك مع الله القدوس العادل ليتم خلاصه!
لماذا الحية النحاسية؟
بقي سؤال هو: لماذا اختار الله من رموز العهد القديم المتنوعة والكثيرة هذا الرمز، الحية النحاسية؟
إن قصة الحية النحاسية واردة في سفر العدد 21 حيث نقرأ أن الشعب تذمر على الرب وعلى موسى، والرب في قضائه أرسل عليهم الحيات المحرقة، ولدغت منهم قومًا كبيرًا، فصرخ الشعب إلى موسى، وهو صرخ إلى الرب. وكان العلاج الإلهي هو أن يصنع موسى حية من نحاس، وأن يضعها على راية مرتفعة، وكل من نظر إلى حية النحاس يحيا.
هذه القصة تقدم لنا مشكلة الإنسان وعلاج الله. المشكلة أن سم الحية صار يسري في كيان البشر، وعلاج الله كان هو إهلاك الهلاك أو إهلاك المهلك.
بكلمات أخرى كانت المشكلة أيام موسى أن الشعب رفض شهادة الله، واحتقر عطيته (المن)، فجاءت عليهم الحيات، ولدغت منهم الكثيرين. والرب بهذا القضاء المخيف الواقع عليهم صوَّر عمق مشكلتهم: أن سم الحيات صار يسري في كيانهم! والحية هي التي ظهرت في بداية التاريخ في الجنة، لتقود المرأة إلى الشك في كلام الله. ولكن الآن صار هذا السم يسرى في كل الكيان البشري، سُم عدم الثقة في الله ورفض شهادته. على أن المشكلة أيام المسيح كانت أخطر بما لا يقاس. فليس أن الشعب رفض موسى أو رفض المن، بل رفض ابن الله المتجسد نفسه. وبكلمات أخرى يمكن القول إن الإنسان رفض شهادة الله عندما أتى بالنعمة في المسيح. لقد كانت الكلمات السابقة لحديث المسيح مع نيقوديموس عن الحية، هي قوله له: «الحق الحق أقول لكم إننا إنما نتكلم بما نعلم، ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا». وهي شهادة شخص ليس مثل موسى صعد فوق الجبل ليأتي بشريعة الله، ولا مثل إيليا الذي صعد إلى السماء، ولم يعد منها ليخبرنا بما هناك، ولكنه شخص نزل من السماء (التي هي مقره الدائم)، وهو ما زال في السماء في الوقت ذاته. فهو لذلك يتكلم ويشهد بما يعلمعلم اليقين، وشهادته هي شهادة الله، لأنه هو الله.
ليس أن الشعب رفض موسى أو رفض المن، بل رفض ابن الله المتجسد نفسه. وبكلمات أخرى يمكن القول إن الإنسان رفض شهادة الله عندما أتى بالنعمة في المسيح.
وعلى قدر ما أن المشكلة هنا أخطر، بهذا القدر كان العلاج أعظم، فليس حية من نحاس تُرفع، بل ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان! ونظرًا لعظم الكلفة كانت النتائح أروع، فالأمر هنا ليس نجاة من موت زمني حرفي، بل من موت أبدي وروحي.
نخلص من هذا أنه برفض البشر للشهادة الإلهية التي شهدها المسيح وهو يعيش هنا على الأرض، اتضح كم الإنسان عاجز عن قبول بركة من الأعالي. وكان يجب عمل علاج مزدوج :
يجب أن يخلص من حالته (بالولادة ثانية، بعمل روح الله)؛ ويجب أن يتم التكفير عن خطاياه (بموت المسيح فوق الصليب).
العمل الأول يتم في الإنسان، والثاني تم لأجل الإنسان. العمل الأول يتم في الإنسان لحظة التغيير؛ والعمل الثاني تم لأجله من ألفي عام، ساعة موت الصليب الرهيب.
في الإشارة التالية عن رفع ابن الإنسان، كما وردت في يوحنا 8، نقرأ أن الناس الأشرار هم الذين رفعوه، وذلك بإيعاز من الشيطان. وما كان الشيطان يدري أنه بهذا سيتم خلاص البشر، وبهذا ستتم إبادته (عب2: 14). ومع أن الحية في الكتاب المقدس هي صورة للخداع والمكر، لكن حكمة الله تجاوزت مكر الحية بمراحل، فخفيت حكمة الصليب حتى على الشيطان.
(يتبع)