تراءى لي الرب من بعيد. ومحبة أبدية أحببتكِ، من أجل ذلك أدمتُ لكِ الرحمة» (إر31: 3).
ذكرنا في العددين السابقين أن سفر النشيد يحدثنا عن علاقة الرب بشعبه إسرائيل، من بدايتها وحتى نهايتها، مقسمة (مثل تقسيم السفر) إلى فترات ست، بدءًا من دعوة إبراهيم، وحتى تأسيس ملك المسيح السعيد الألفي. وذكرنا أن القسم الأول من السفر، أي من نشيد 1: 1 إلى 2: 7 يحدثنا عن أولى تلك الفترات، وهي مقسمة إلى قسمين: فترة الآباء حتى خروج الشعب من أرض مصر (تحدثنا عنها في العدد السابق)، ثم فترة تأسيس المملكة حتى سبيها إلى بابل، وهي ما سنراه الآن.
فترة بداية الأمة وتأسيس المملكة
(1: 12-2: 7)
نجد هنا شيئًا جديدًا في تلك القصة الشيقة، إذ نقرأ عن «الملك في مجلسه». وما الملك إلا يهوه (عد23: 21)، وما مجلسه أو مائدته إلا خيمة الاجتماع، كما سنرى. فبمجرد خروج الشعب من أرض مصر، وبينما هم ما زالوا على شاطئ البحر الأحمر، يترنمون ترنيمتهم الجميلة، أول ترنيمة مُسَجَّلة في الكتاب المقدس، نسمع عن رغبة موسى والشعب في إعداد مسكن للرب (خر15: 2، 13). كما نفهم أن الرب كان يرغب في أن يؤسس عن طريق شعبه “الحكم الثيوقراطي” (أي حكم الله)، بأن يكون الرب هو ملك هذا الشعب، ويمارس من خلال شعبه حكمه على العالم. ولهذا فقد تَرَنَّم الشعب عند خروجهم من مصر عن “مسكن الرب” وعن “مُلك الرب” (خر15: 17، 18). مُلْك الرب وعَرْشُه يحدثنا عنهما جبل صهيون، وَمَسْكَن الرب ومَقْدِسُه يحدثنا عنهما جبل المريا. كلا الجبلين يسمى “جبل الرب” أو “جبل الله” (تك22: 14؛ مز24: 3). والجبل في لغة الكتاب يحدثنا عن قصد لله ثابت، لا يمكن إلا أن يتحقق. وقصد الله هنا لن يتحقق إلا في المسيح، الذي يجمع في شخصه الملكوت والكهنوت، إذ هو «كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مز110: 4).
ولقد قام موسى في بداية خروج الشعب من أرض مصر بتأسيس مسكن للرب، الذي استغرق نحو سنة كاملة، ولما أتت السنة الثانية لخروجهم من مصر، كان مسكن الرب قد تهيأ. فمحضر الرب كان تاليًا مباشرة لفكرة الخروج وإتمام الفداء. وهكذا هنا في سفر النشيد، إذ بمجرد الإشارة إلى الخروج “اخرجي” (1: 8)، وخروجهم بالفعل، نقرأ «ما دام الملك في مجلسه»، أي “على مائدته”. وإن كنا في سفر النشيد نقرأ عن سليمان وهو على مائدته. إلا إن سليمان الحقيقي، ربنا المعبود، له أيضًا طعامه، وهو ما نفهمه من عدد 28: 2، وهو تلك الذبائح التي كانت تُقَدَّم من الشعب للرب في خيمة الاجتماع. هناك كان يذهب الأتقياء لكي يقدموا سجودهم للرب، وفي هذا تقول المحبوبة: «ما دام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته» (1: 12).
وما هو رد الرب على هذا الوضع؟ يقول النشيد بلسان سليمان: «ها أنت جميلة يا حبيبتي». أولم يكن هذا لسان الرب أيضًا عندما صارت الأمة مملكة تحت سيادة داود مختار الرب؟ كم كانت جميلة جدًا في عيني الرب (انظر حز16: 13)!
من ثم تهتف العروس قائلة: «جوائز بيتنا (أو بيوتنا، بالجمع – بحسب ترجمة داربي) أرز، وروافدنا سرو» (1: 17). في إشارة واضحة إلى الهيكل الذي بناه سليمان، حيث كان للأرز والسرو مكان بارز في بناء الهيكل (1مل5: 8، 10؛ 6: 9، 10، 15، 17، 34؛ ...). وربما تكون صيغة الجمع هنا للتعظيم، مثل ما نجد في قول المُرَنِّم: «ما أحلى مساكنك (بالجمع) يا رب الجنود» (مز84: 1).
تستطرد المحبوبة فتقول: «أنا نرجس شارون، سوسنة الأودية» (2: 1). وشارون هو مرج عظيم واسع كثير الزهر. ومن الفصول الكتابية التي وردت عن هذا المرج في كلمة الله نرى صورة لمُلك المسيح في المستقبل (انظر إش65: 10)، التي ما كانت أيام سليمان إلا صورة مصغرة له. كما أن عبارة «كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات» (2: 2) تعطينا نظرة الرب للأمة كما كان يريدها أن تكون. السوسن أو زنابق الحقول - كما حدثنا المسيح - تُذَكِّرنا بعناية الرب (مت6: 28)، وهكذا كان هذا الشعب موضوع عناية الرب الخاصة (تث8: 7-9؛ 11: 10-12)؛ أما الشوك - فكما نعلم - هو لعنة الخطية (تك3: 17). والشعوب الذين كان بنو إسرائيل ساكنين بينهم (الكنعانيون) هم شعوب ملعونة منذ القديم (انظر تك9: 25). وعليه فإن شعبه الخاص هم حقًا مثل “السوسنة بين الشوك”!
تستطرد المحبوبة قائلة: «كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظله اشتهيت أن أجلس» (2: 3) وإن كانت النظرة النهائية هنا تتجه إلى المسيح الذي هو حقًا شجرة التفاح، لكن كل الملوك الأتقياء الذين من نسل داود، والذين يرمزون للمسيح الملك الحقيقي ابن داود، كان لهم أيضًا ظل (مرا 4: 20).
ثم تقول العروس: «أدخلني إلى بيت الخمر» (2: 4). سبق أن قالت: «أدخلني الملك إلى حجاله» (1: 4)، هذه هي الشركة الفردية التي تمتع بها الآباء؛ فلقد ظهر الرب لإبراهيم وكذلك لإسحاق وليعقوب، فعرفوا شيئًا عن تلك الشركة الفردية الخاصة. لكن هنا تقول العروس: “أدخلني إلى بيت الخمر”، صورة للشركة الجماعية التي مَيَّزَت الشعب بعد بناء الهيكل.
لكن يا للأسف فقد ضاع منهم ظل شجرة التفاح، وأفراح بيت الخمر، عندما أتى ملك بابل وقتل آخر ملوكهم الأشرار، كما هدم هيكلهم، وأحرقه بالنار. لماذا حدث ذلك؟ هل نجد في هذا النشيد ما يقودنا إلى الإجابة؟ لعل الإجابة نجدها في قول المحبوبة: «أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح، فإني مريضة حبًا». التفاح رمز جميل للمسيَّا، كما نرى في هذا السفر (انظر 2: 3)؛ ولكن “أقراص الزبيب” لم تُذْكَر في كل الكتاب بخلاف هذا الموضع إلا في هوشع 3: 1، وتُذْكَر هناك بالارتباط بالعبادة الوثنية. ونظرًا لهذا الخلط المعيب بين عبادة الرب وعبادة الأوثان، الذي مَيَّزَ كل تاريخ الأمة، بدءًا من راحيل التي سرقت أصنام أبيها، وفي ما بعد علم يعقوب بذلك وسكت (انظر تكوين31: 19، 30-35؛ 35: 2)؛ ثم في البرية، وأيضًا في زمن القضاة؛ وأخيرًا في زمان المملكة، فسليمان الذي بنى هيكل الرب، بنى بعدها مرتفعات لعبادة الأوثان. واحتمل الرب طويلاً عروجهم بين الفرقتين (1مل18: 21 انظر أيضًا هو4: 19؛ حز8؛ 2أخ36: 14-16)، لكن ما كان ممكنًا أن يسكت إلى الأبد، فعندما كمل مكيال إثمهم، تقرر سبيهم إلى بابل مهبط الوثنية، ليداويهم بالتي كانت هي الداء. «فرَجَعَ اللهُ وأَسلَمَهُمْ ليعبدُوا جُنْدَ السماءِ كما هو مكتُوبٌ في كتابِ الأَنبياءِ، هل قرَّبتُم لي ذبائِحَ وقرابينَ أَربَعينَ سنةً في البرِّيةِ يا بيتَ إِسرائيلَ؟ بل حَمَلتُم خَيمَةَ موُلُوكَ ونَجْمِ إِلهِكُم رَمفَانَ التماثيلَ التي صنعتُمُوهَا لتسجدوا لها. فأَنقلُكُمْ إلى ما ورَاءَ بَابِلَ» (أع7: 42، 43).
وقبيل سبيهم إلى بابل لام الرب على الأمة تركهم للمحبة الأولى (إر2: 2). ولما لم يمكن شفاء هذا المرض، تم السبي البابلي. وهكذا فإن الملوك وظلهم ضاع بالسبي، والهيكل وبيت الخمر دُمِّر واندثر.
ولكن رغم سبي الشعب إلى بابل، فإن الرب في مطلق صلاحه ونعمته لم يتخلَ عن أتقيائه، كما نرى مثلاً مع دانيآل ورفقائه في بابل، وأيضًا كما نرى في سفر أستير. لقد تمتعوا بشماله تحت رؤوسهم، ويمينه عانقتهم. تمتعوا بمواعيده التي سندت قلوبهم، وبتدخله لصالحهم بالقوة متى لزم.
ثم يُسدل الستار على الفترة الأولى لقصة الحب العجيب بين الله وشعبه، وهي الفترة من بداية الأمة إلى أن تم السبي إلى بابل. وكان على الشعب أن ينتظر مرحلة أخرى قبل أن يأتي إليهم صاحب الظل المريح والثمر المشبع، والذي هو بحق أعظم من الهيكل، وأعظم من سليمان (متى12: 6، 41، 42). فلا غرابة أن يُختم هذا القسم بهذه العبارة المُعَبِّرة: «أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وأيائل الحقول ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء (أو لا تنبهن الحبيبة حتى تشاء)». فأهم شيء أن تشاء الحبيبة (أُمَتُّه)، وأن تطلبه، فهو لا يمكن أن يملك بالقهر على شعب لا يريده ولا يطلبه. ولكي يملك عليهم يجب أن يكون شعبه منتدبًا. وهذا ما سوف يحدث في المستقبل كما سنرى في بقية القصة. لكن إلى أن تشاء الأمة وتطلبه لن تتم بركتهم مطلقًا. وفي هذا يقول كاتب المزمور: «اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ. يَا إِسْرَائِيلُ إِنْ سَمِعْتَ لِي. لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلَهٌ غَرِيبٌ وَلاَ تَسْجُدْ لإِلَهٍ أَجْنَبِيٍّ. أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَصْعَدَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَفْغِرْ فَاكَ فَأَمْلَأَهُ. فَلَمْ يَسْمَعْ شَعْبِي لِصَوْتِي وَإِسْرَائِيلُ لَمْ يَرْضَ بِي. فَسَلَّمْتُهُمْ إِلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ لِيَسْلُكُوا فِي مُؤَامَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ. لَوْ سَمِعَ لِي شَعْبِي وَسَلَكَ إِسْرَائِيلُ فِي طُرُقِي سَرِيعاً كُنْتُ أُخْضِعُ أَعْدَاءَهُمْ وَعَلَى مُضَايِقِيهِمْ كُنْتُ أَرُدُّ يَدِي. مُبْغِضُو الرَّبِّ يَتَذَلَّلُونَ لَهُ وَيَكُونُ وَقْتُهُمْ إِلَى الدَّهْرِ. وَكَانَ أَطْعَمَهُ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ وَمِنَ الصَّخْرَةِ كُنْتُ أُشْبِعُكَ عَسَلاً» (مز81: 8-16).
(يتبع)
يوسف رياض