أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2012
خواطر فى سفر هوشع 13 - خواطر في سفر هوشع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

خواطر في سفر هوشع (13)ل

ا زلنا أمام أنامِلَ رقيقةٍ، جرَحَت اضطرارًا وها هي تعود إلى الإعصاب، بل وها نحن أمام معاملاتٍ دقيقةٍ، بلغت مقصِدَها، فها الوعودُ بالبَرَكةِ بعدَ لومٍ وعتاب، فهل مثيلٌ لحكمةٍ عميقةٍ تمَهَّلَت دون إهمالٍ، فظهرت سماءٌ صافيةٌ بعد غيمٍ وضباب؟

   قارئي ... لا زلنا أمامَ سِفرٍ، فاضت سطورُه بلغةِ الوعيد، لشعبٍ خَلَبَ قلبَهُ الزنى والخمرُ والسُلافةُ، بل راح يسألُ خَشَبَهُ وعصاه أخبَرَته، زنى مِن تحت إلهه بل وروحُ الزنى أضلَّتهُ (هو4: 11، 12)، ولكننا نقفُ بتعَجُبٍ أمام ذات السفرِ بعينِهِ، فهو سِفرٌ فياضٌ بالمواعيد، لمن آبَ تائبًا بعد ضلالٍ شديد.
أسرِدُ على سبيلِ المثالِ لا الحصر، باقةً برَّاقةً كعينةٍ من الوعود بالبركةِ خلالَ السِفر:  
1- اجتماعٌ إلى رأسٍ واحدٍ بعد الشتات «لَكِنْ يَكُونُ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يُكَالُ وَلاَ يُعَدُّ، وَيَكُونُ عِوَضًا عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: لَسْتُمْ شَعْبِي، يُقَالُ لَهُمْ: أَبْنَاءُ اللَّهِ الْحَيِّ.  وَيُجْمَعُ بَنُو يَهُوذَا وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مَعًا وَيَجْعَلُونَ لأَنْفُسِهِمْ رَأْسًا وَاحِدًا، وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ، لأَنَّ يَوْمَ يَزْرَعِيلَ عَظِيمٌ» (هو1: 10، 11).
2- خطبةٌ سعيدةٌ بالعدلِ فيَّاضةُ الإحسانات «وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي إِلَى الأَبَدِ.  وَأَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالإِحْسَانِ وَالْمَرَاحِمِ.  أَخْطُبُكِ لِنَفْسِي بِالأَمَانَةِ فَتَعْرِفِينَ الرَّبَّ» (هو2: 19، 20).
3- عودةٌ لا إلى الجود فحسب بل إلى الربِ نبعِ البركات «بَعْدَ ذَلِكَ يَعُودُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَيَطْلُبُونَ الرَّبَّ إِلَهَهُمْ وَدَاوُدَ مَلِكَهُمْ، وَيَفْزَعُونَ إِلَى الرَّبِّ وَإِلَى جُودِهِ فِي آخِرِ الأَيَّامِ» (هو3: 5).
4- مسلكٌ واضِحٌ وفجرٌ مشرقٌ للتعويض عمّا فات «لِنَعْرِفْ فَلْنَتَتَبَّعْ، لِنَعْرِفَ الرَّبَّ.  خُرُوجُهُ يَقِينٌ كَالْفَجْرِ.  يَأْتِي إِلَيْنَا كَالْمَطَرِ.  كَمَطَرٍ مُتَأَخِّرٍ يَسْقِي الأَرْضَ» (هو6: 3).
5- ملِكٌ كالأسدِ ومَن في موكِبِهِ يمشون في ثبات  «وَرَاءَ الرَّبِّ يَمْشُونَ.  كَأَسَدٍ يُزَمْجِرُ.  فَإِنَّهُ يُزَمْجِرُ فَيُسْرِعُ الْبَنُونَ مِنَ الْبَحْرِ» (هو11: 10
6- مظالٌ أبدية وأيام الموْسِمِ واستعادة الذكريات «وَأَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حَتَّى أُسْكِنَكَ الْخِيَامَ كَأَيَّامِ الْمَوْسِمِ» (هو12: 9
7- تأصلٌ إلى أسفل، إزهارٌ وأبركُ الثمرات
«أَكُونُ لإِسْرَائِيلَ كَالنَّدَى.  يُزْهِرُ كَالسَّوْسَنِ، وَيَضْرِبُ أُصُولَهُ كَلُبْنَانَ.  تَمْتَدُّ خَرَاعِيبُهُ، وَيَكُونُ بَهَاؤُهُ كَالزَّيْتُونَةِ، وَلَهُ رَائِحَةٌ كَلُبْنَانَ.  يَعُودُ السَّاكِنُونَ فِي ظِلِّهِ يُحْيُونَ حِنْطَةً وَيُزْهِرُونَ كَجَفْنَةٍ.  يَكُونُ ذِكْرُهُمْ كَخَمْرِ لُبْنَانَ» (هو14: 5-7).
  هذه سبعةُ وعودٍ بالبركةِ المستقبلية ذكرناها، ضمن عديدٍ وردت بالسِفر.
في المرةِ السابقة، تأملنا في الوعد الثاني (هو2: 20،19) والذي عنونَّاهُ بخطبةٍ سعيدةٍ بالعدلِ، فيَّاضةِ الإحسانات.  في هذه المرة، نسْبَحُ إلى الوعدِ الخامس، نذكره ثم نُعَلِقُ عليهِ:
«وَرَاءَ الرَّبِّ يَمْشُونَ.  كَأَسَدٍ يُزَمْجِرُ.  فَإِنَّهُ يُزَمْجِرُ فَيُسْرِعُ الْبَنُونَ مِنَ الْبَحْرِ» (هو11: 10).
وهذا الوعدُ عنونَّاهُ بملكٍ كالأسدِ، ومَن في موكبِهِ يمشون في ثبات.  هذا العدد، تقفز من كلماتِهِ دقاتُ الانتصار النابضةُ بالقوةِ، فها الملِكُ كأسدٍ يُزمجِرُ، وزمجَرَتُه هذه، سيترددُ صداها، فتَعُمُ أكنافَ الأرض، مُكتَسِحةَ البحارِ، غير آبهةٍ بممالك الأمم، داعيةَ البنين للسيرِ في موكِبِ الأسد.
«وَرَاءَ الرَّبِّ يَمْشُونَ»، يا له من تعبيرٍ مؤثرٍ للغاية، أَ لم يكن هذا فكرُ اللهِ مِن جهتهم منذ البداية: «وَرَاءَ الرَّبِّ إِلهِكُمْ تَسِيرُونَ، وَإِيَّاهُ تَتَّقُونَ، وَوَصَايَاهُ تَحْفَظُونَ، وَصَوْتَهُ تَسْمَعُونَ، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، وَبِهِ تَلتَصِقُونَ» (تث13: 4)؟ أليس ضدًا لرغبةِ اللهِ هذه، سعت هذه الأمة منحرِفةً عن عهد يهوه، فَتَشّبَّهت بامرأةٍ زائغةٍ، كُتِبَ عنها: «... إِذَا زَاغَتِ امْرَأَةٌ مِنْ تَحْتِ رَجُلِهَا وَتَنَجَّسَتْ، أَوْ إِذَا اعْتَرَى رَجُلاً رُوحُ غَيْرَةٍ فَغَارَ عَلى امْرَأَتِهِ ...» (عد5: 29، 30)؟ أَوَليس إلى هذا الفكر، حاولَ يوشيا التقي ردَ الشعبِ يومَ وقف الملك على منبرِهِ وقطع عهدًا أمامَ الربِّ للذهاب وراءَ الربِّ ولحفظ وصاياه وشهاداتِهِ وفرائِضِهِ (2أخ34: 31)؟ أليس لمناقضة هذا الفكر الكريم، استحق هذا الشعب وابلَ الويلِ، ففي السفرِ موضوع دراستِنا نقرأ: «وَيْلٌ لَهُمْ لأَنَّهُمْ هَرَبُوا عَنِّي.  تَبًّا لَهُمْ لأَنَّهُمْ أَذْنَبُوا إِلَيَّ» (هو7: 13)؟ لكن أخيرًا، عِندَ ردِّهِم إلى البركة المستقبلية: «وَرَاءَ الرَّبِّ يَمْشُونَ».
   قارئي، أَ ليس مِن نصيبِنا نحن، كمؤمني تدبيرِ النعمة، أن يتلألأَ نُصبَ أعينِنا موكبُ نصرةِ الله في المسيح؟ أَ ليس من حظوتِنا أن نسيرَ فيه مرفوعي الرأس؟ فلماذا السير برؤوسٍ خفيضةٍ نرثي مسكنةً ومذلةً؟ بل ولماذا الجنوح عنه إلى مسالكَ معوَجَّةٍ فنتجَرع مرارةَ العلقمِ؟
 «وَرَاءَ الرَّبِّ يَمْشُونَ».
لَيْتَنَا نَسِيرُ دَوْمًا في حِمَاهْ
مُظْهِرينَ في حَيَاتِنا غِنَاهْ
كَيْ يكونَ سَعْيُنا وِفْقَ رِضَاهْ
وبِمَجْدِهِ سَنَحْظَى أجْمَعِينْ
بموجب هذا الوعد بالبركةِ، نفهمُ أن هذا الشعب سيرجع عن طُرُقِهِ الردية وسيسير وراءَ الربِّ، ولكن ما هو ملفتٌ للنَظَر أنهم سيسيرون وراءَه وسيكون هو «كَأَسَدٍ يُزَمْجِرُ» وهنا يحضُرُني التساؤل: هل سيكون في أعينِهِم كالأسدِ أم كالظبي وغفرِ الأيائلِ (نش2: 9، 17). ”الأسد“ هو حيوانٌ ضارِ، كبير الحجم ومِن أَكَلةِ اللحوم.  ويشيرُ الكتاب المقدس إلى كثير من خصائصِ الأسدِ وأعمالِهِ وقوتِهِ وشجاعتِهِ: «أَيْضًا ذُو الْبَأْسِ الَّذِي قَلْبُهُ كَقَلْبِ الأَسَدِ يَذُوبُ ذَوَبَانًا، لأَنَّ جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَبَاكَ جَبَّارٌ، وَالَّذِينَ مَعَهُ ذَوُو بَأْسٍ» (2صم17: 10).  ويشير أيضًا إلى تحَفُّزِهِ قبل وثوبِهِ وهجومِهِ على فريستِهِ: «... جَثَا وَرَبَضَ كَأَسَدٍ وَكَلَبْوَةٍ.  مَنْ يُنْهِضُهُ؟» (تك49: 9).  أمَّا ”الظبي“ فهو الغزال وهو حيوانٌ سريع المشي وجميل الهيئةِ ويمكن أن يُستأنَسَ فيصير محبوبًا (أم5: 19)، وهو على النقيض من الأسدِ، فهو وَجِل، يهرُبُ بسرعةٍ ممن يطارده ويثِبُ وثباتٍ عظيمةٍ، ومعنى اسم الظبي في العبرانية “جمال”.  فيظل التساؤل: أهو شبيه بالأسد أم الظبي؟ حقيقةً يا قارئي، إن الإجابةَ خلاَّبةٌ للقلبِ.  فلأعدائها هو كالأسدِ، ولقلبها هو الرجل الرقيق، مُرهَفُ الحس والودود.  فتخيل معي امرأةً، تسيرُ في كَنَفِ رجُلِها تراه أسدًا في وجه كلِ ما يقابلها مِن التحديات والعراقيل، بينما تستعذبُهُ كالظبي لصدقِ محبتِهِ وَتَسَلُّقِهِ العوائق بُغيةَ الوصولِ لقلبها.
ولكن هذه الزمجرة ستكون لحسابِهم، لا درءًا للأعداء فقط ولكن ليصلَ صوتُه إلى أكنافِ الأرض فيجمعهم مِن كُلِّ مكانٍ.  فَصوتُ الزئير هذا هو بعينِهِ صوتُ البوق الذي به سيجمعهم، ولا نقصد به البوق الأخير، الذي بمقتضاه سُيقام الأموات عديمي فساد ونحن نَتَغَيَّر، أي لحظة الاختطاف (1كو15: 51-58؛ 1تس4: 13-18).  ولا نقصد به البوق السابع الذي بمقتضاه ستصير مملكة العالم لربنا ومسيحِهِ (رؤ11: 15)، ولكنه البوق الذي به سيجمع الشعب الأرضي مِن شتاتِهِ: «فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (مت24: 31).  أَ ليس لزئيرِ الأسدِ هذا، ستستجيبُ ملءُ الأرض؟ ما أجَلَه زئيرًا، عندما نسمعَهُ يُدَوِّي: «لاَ تَخَفْ فَإِنِّي مَعَكَ.  مِنَ الْمَشْرِقِ آتِي بِنَسْلِكَ، وَمِنَ الْمَغْرِبِ أَجْمَعُكَ.  أَقُولُ لِلشِّمَالِ: أَعْطِ، وَلِلْجَنُوبِ: لاَ تَمْنَعْ.  إيتِ بِبَنِيَّ مِنْ بَعِيدٍ، وَبِبَنَاتِي مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ» (إش43: 5، 6).
   أخيرًا يا قارئي، بعدما أدركنا قِسطًا من روعة الوعود المستقبلية، وتأكدنا أنها من نصيب الشعب الأرضي، أَلا يليق بنا أن نتطلع إلى مناظِرَ تطبيقية خلاَّبة مِن نصيبِنا نحن كأُناسٍ سماويين.  فهذا الأسد سوف نطير نحن إليه، لا في موكبٍ أرضي، ولكن بصفتِهِ عريسُنا السماوي بل ومُنتَظَرُ قلوبِنا، سيتحدى كلَّ صروفِ وعوائقِ البريةِ التي نجوبها، بل وسيفتخرُ على كلِّ محاولات العِدى لتفشيلِنا وكأنَّ الرجاءَ ضاع أدراجَ الرياح، وسيُبَوِّق لنا، فيُقام الأموات عديمي فساد ونحن الأحياء نتغيَّر، فيا لبريقِ الرجاء!  
نَعْبُرُ السَّبيـلَ غَيْرَ خائفينْ
نَرْتَجـي قدُومَ فادينا الأمينْ
نَرْقَى للهوا بالنَّصْرِ هاتفينْ
نُحنُ في الحبيبِ صِرْنا آمِنينْ

بطرس نبيل

 


بطرس نبيل