أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2015
أيام القضاة (١٠)
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
جدعون

«وَأَتَى مَلاَكُ الرَّبِّ وَجَلَسَ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي فِي عَفْرَةَ الَّتِي لِيُوآشَ الأَبِيعَزَرِيِّ. وَابْنُهُ جِدْعُونُ كَانَ يَخْبِطُ حِنْطَةً فِي الْمِعْصَرَةِ لِيُهَرِّبَهَا مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ. فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَالَ لَهُ: الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ! فَقَالَ لَهُ جِدْعُونُ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هَذِهِ، وَأَيْنَ كُلُّ عَجَائِبِهِ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا آبَاؤُنَا قَائِلِينَ: أَلَمْ يُصْعِدْنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ؟ وَالآنَ قَدْ رَفَضَنَا الرَّبُّ وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: اذْهَبْ بِقُّوَتِكَ هَذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ, وَسَتَضْرِبُ الْمِدْيَانِيِّينَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَاصْنَعْ لِي عَلاَمَةً أَنَّكَ أَنْتَ تُكَلِّمُنِي. لاَ تَبْرَحْ مِنْ هَهُنَا حَتَّى آتِيَ إِلَيْكَ وَأُخْرِجَ تَقْدِمَتِي وَأَضَعَهَا أَمَامَكَ. فَقَالَ: إِنِّي أَبْقَى حَتَّى تَرْجِعَ. فَدَخَلَ جِدْعُونُ وَعَمِلَ جَدْيَ مِعْزىً وَإِيفَةَ دَقِيقٍ فَطِيرًا. أَمَّا اللَّحْمُ فَوَضَعَهُ فِي سَلٍّ، وَأَمَّا الْمَرَقُ فَوَضَعَهُ فِي قِدْرٍ وَخَرَجَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَى تَحْتِ الْبُطْمَةِ وَقَدَّمَهَا. فَقَالَ لَهُ مَلاَكُ اللَّهِ: خُذِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ وَضَعْهُمَا عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ وَاسْكُبِ الْمَرَقَ. فَفَعَلَ كَذَلِكَ. فَمَدَّ مَلاَكُ الرَّبِّ طَرَفَ الْعُكَّازِ الَّذِي بِيَدِهِ وَمَسَّ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ، فَصَعِدَتْ نَارٌ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأَكَلَتِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ. وَذَهَبَ مَلاَكُ الرَّبِّ عَنْ عَيْنَيْهِ. فَرَأَى جِدْعُونُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، فَقَالَ جِدْعُونُ: آهِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ! لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَجْهًا لِوَجْهٍ! فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: السَّلاَمُ لَكَ. لاَ تَخَفْ. لاَ تَمُوتُ» (قض٦: ١١- ٢٣).

يبدو أنه تزامنًا مع رسالة النبي، كان جدعون - هذا الرجل المفعم بالنشاط - يعمل في سرية في بيت أبيه؛ يخبط حنطة في المعصرة. ربما يتبادر إلى أذهاننا أن هذا مكان غريب جدًا ليخبط فيه الحنطة، وكان الأجدر به أن يخبطها في البيدر أي المكان الطبيعي لذلك، لكن جدعون كان يعيش في أيام غير عادية. لقد سبق ورأينا في هذا السفر أن أمورًا كثيرة غير عادية تحدث. وهنا نجد جدعون يخبط حنطة في المعصرة. والسبب الواضح لذلك أنه لم يوجد زيتون ليُعصَّر للحصول على الزيت أو لاستخدامه في أي أغراض أخرى، لأن المديانيين أتلفوا كل شيء. لكن كان هناك بعض الحنطة، وكان جدعون يخبطها سرًا حتى لا يأخذها المديانيون. كان هذا الرجل مشغولاً جدًا بأن يصل بعض الطعام إلى شعب الله؛ وهو عيِّنة نافعة جدًا في اجتماعاتنا اليوم؛ رجل مَعنيٌّ بأن يمد شعب الله بالطعام المنعش. إني موقن أن بولس كان من هذا النوع من الرجال؛ رجل ذو فطنة وبصيرة. فعندما احتاج شعب الله للَّبن بسبب حالتهم الروحية قدمه لهم، والذين استطاعوا أن يتغذوا على الطعام القوى أطعمهم إياه. وأما من جهة الحكمة الروحية والتمييز فقد قدم لهم ما يناسبهم. ونحن نذكر عندما سأل الرب التلاميذ في موقف معين إن كان عندهم طعام، أجابوه قائلين: «هُنَا غُلاَمٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ» (يو٦: ٩). بلا شك أن هذا الذي كان مع الغلام أكثر مما كان عندهم رغم كونهم التلاميذ “العظماء” الذين باركهم الرب كثيرًا، لكن لم يكن لديهم ما يعطوه، أما هذا الغلام الصغير فكان عنده شيء، وعندما أخذ الرب هذا الشيء في يديه، باركه ليكون كافيًا لإطعام جمهور كبير، وبالصواب قال أحدهم “إن القليل كثير إذا كان الرب فيه”.

هكذا وُجد جدعون يخبط حنطة إذ كان مشغولاً بتوفير الطعام لإخوته. إخوتي الأحباء، هل نحن مشغولون بتقديم شيئًا مُنعشًا، شيئًا مُفيدًا للقديسين من قراءات الكتاب المقدس، وفى اجتماعات خدمة الكلمة أو في أحاديثنا إذا سنحت لنا الفرصة للحديث مع قديسي الله؟ هل نحن مهتمون بأن يصلهم طعامًا حقيقيًا جيدًا؟ إن أفضل طعام بلا شك هو ربنا يسوع المسيح، وإذا استطعنا أن نقدمه لقلوب القديسين لنبني قلوبهم ولنعلي أشواقهم فنكون عاملين حسنًا. إنه الخبز الذي من السماء، خبز الله (يو٦: ٣٠-٥٩). وإن كنا نبغي التمتع بالحياة الأبدية كما استُعرضت في يوحنا ٦ فهذا يعنى أن نُطعم عليه، بأن نأكل لحمه ونشرب دمه. ومطلوب منا أيضًا أن “ننْمُو فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (٢بط٣: ١٨). إني أؤمن أن هذا يتضمن أن نتغذى عليه، وعلى أمجاده وشخصه وعمله وكل ما يتعلق به. هذا هو الطعام الحقيقي الذي يبنى مشاعر القديسين. نريد أن نتحذر من الطعام الذي قدمه أحد بني الأنبياء (٢مل٤: ٣٨-٤١)، الذي ربما كان يبدو شهيًا وهو يُطبخ، لكنه كان وجبة مختلطة بيقطينة سامة. فكان «فِي الْقِدْرِ مَوْتٌ!»، ورجل الله هو الذي استطاع أن يعالج الأمر بحفنة دقيق، فتحول ما هو سام إلى شيء مغذٍ. واليوم أيضًا علينا أن نتحذر من الكلام الملق، ولو كان مزيَّنًا باقتباسات من الوحي المقدس، فهذا ليس الحق، ولا يمكن أن يصمد أمام نور الكلمة، بل هو سم وشر، ولا يمكن أن يغذي شعب الله.

كان جدعون رجلاً نشيطًا ومفعمًا بالحيوية، فكان يقدم لقديسي الله شيئًا ذا قيمة. لهذا النوع من الناس يظهر ملاك الرب ويخاطبه بهذه الطريقة المميزة «الرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ!». هل قام بعمل بطولي ليحوز على هذا الوصف: جبار البأس؟ إن كل ما نعرفه عنه أنه كان يخبط حنطة في المعصرة. وهل كان هذا عملاً باسلاً وشجاعًا؟ في نظر الله كان كذلك. من السهل علينا أن ننظر إلى الخلف ونقول: “آه، لقد فعل خادم الرب الفلاني خطأً. كان يجب أن يكون أكثر وعيًا. كان لا بد أن يتعمق أكثر في الموضوع، فهو لم يعرف الحقيقة كاملة”. نحن معذورون أن نقول هذا طالما أننا لا نعلم الظروف التي كانت تحيط بالخادم في ذلك الوقت، ولا الحالة السيئة السائدة في ذلك الزمان.

لكن الشجاعة والجرأة تكمن في أخذ خطوة خارج الارتباك الحادث لصالح الرب. كثيرًا ما نقول إن الإصلاح لم يصل إلى الحد المطلوب منه، وأنه كان على أصحابه أن يأخذوا مزيدًا من الخطوات ليتخلصوا من الكثير من الأمور الخاطئة، لكن كم كان هؤلاء الرجال أبطالاً شجعانًا وبواسل! لقد خاطروا بحياتهم وبكل ما لهم، محاربين من أجل ما أيقنوا أنه الحق. دعونا نفكر فيما كنا سنصنع لو كنا مكانهم. هل كنا سنخاطر، بحياتنا وممتلكاتنا ومن نحبهم، من أجل الحق؟ لست أدرى إن كنا نستطيع ذلك. علينا أن ننتظر لنجتاز مثل هذه الظروف قبل أن نصدر شعارات إيجابية عما كنا سنحققه لو كنا مكانهم.

كان جدعون يعمل في زمن قاسٍ جدًا حيث كان الأعداء يتلفون كل شيء، لكنه قال: “لن أدعهم يتلفون كل شيء، بل سأخاطر بكل ما أملك لأوصل هذا الطعام”. هذا هو السبب الذي جعل الرب يصفه «يَا جَبَّارَ الْبَأْسِ!»، وقال له أيضًا: «الرَّبُّ مَعَكَ».

لو كان لدينا وقت ونظرنا في فهرس الكتاب المقدس عن كل الذين قيل لهم «الرَّبُّ مَعَكَ»، أو كل من قيل عنهم «كان الرَّبُّ مَعَهم»، سنجد أنها دراسة شيقة جدًا، وواضح أن هذا قد تم مع الرب يسوع نفسه. فلما كان بطرس يكرز في بيت كرنيليوس، قال إن الرب يسوع المسيح «جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ» (أع١٠: ٣٨). يا له من أمر مبارك أن يكون الله مع الإنسان، حينئذ يضمن السند والقوة والبركة والإثمار، الأمور التي تتوافر في حياة كل خادم يقال عنه «كَانَ الرَّبُّ مَعَهُ».

لقد كان رد جدعون على هذا القول: «إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا ...». بالرغم من أن الملاك لم يقل إن الرب معهم، بل قال إن الرب مع جدعون وليس مع الأمة. لكن جدعون اعتبر أن الكلام عن الأمة فقال: «إِذَا كَانَ الرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هَذِهِ». “لقد قص علينا آباؤنا عن أيام مباركة، والآن نحن في حالة غاية في السوء. فلماذا أصابتنا كل هذه؟”.

«فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: اذْهَبْ بِقُّوَتِكَ هَذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟» (ع١٤). ما هي قوة جدعون؟ هي شعوره الواعي بأن الأمور لا تسير كما يجب، وأنها تسير على عكس عادتها، فكانت داخل قلبه رغبة عارمة لتصحيح الأوضاع. هل رأيتم - يا إخوتي الأحباء - أنه إن أدركنا أن الأمور لا تسير حسنًا كسابق عهدها، سواء في حياتنا الشخصية أو في شهادتنا الجماعية، فإن هذا سيدفعنا إلى البحث عن السبب، وبمجرد التوصل إليه علينا أن نهتم جدًا بالأمر بالصلاة، وبالتالي ستحل علينا القوة حتى نستطيع أن نعمل شيئًا لتصحيح الأوضاع. لكن إن آثرنا الاستمرار بعُجب قائلين: “إن كل شيء على ما يرام”، ولم نهتم بالحالة، لا أعتقد أن الوضع سيتحسن. لو تصرفنا كجدعون حينئذ ستتحسن الأمور، لأن الرب سيرافقنا في تدريباتنا، وهو الأمر الذي يُسر الله أن يراه فينا، لذلك كافأ جدعون بالقوة لأنه استشعر بطريقة إلهية حقيقة الظروف السائدة.

والآن أجاب جدعون الرب قائلاً: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ» (ع١٥، ١٦). وسواء كانت الظروف مواتية أو معاكسة، فهذه هي الحالة الصحيحة لأي قديس لله؛ حالة الاتضاع أمام الرب. من السهل علينا أن نقول مثل هذا الكلام، لكن الطبيعة التي بداخلنا تتغذى على الكبرياء والظهور والتعالي وأي شيء دون الاتضاع. لكن كل رجال الله الذين فعلوا شيئًا حقيقيًا من أجل الرب، تميَّزوا بالاتضاع، ليس أكثر من الرب نفسه. إن الآيات التي كثيرًا ما نقرأها في اجتماعات كسر الخبز، والتي ترد في فيلبى ٢: ٥-١١، كتبها الرسول بولس مسوقًا من الروح القدس، وهي تصف الرب باعتباره المتضع والمتنازل الأعظم، وهي توضح لقديسي الله أنه يجب عليهم أن يكونوا مثله عندما كان هنا في العالم. وأهم ما يميز هذا الجزء الكتابي هو التواضع والطاعة. لقد وضع نفسه وتنازل، وأخلى نفسه آخذًا صورة عبد، وأطاع حتى الموت موت الصليب.

ولقد استهل الرسول هذه الآيات بالقول: «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا». علينا أن نتضَّع وأن نُطيع؛ هذه هي السمات التي يجب أن تتوافر في كل مؤمن يريد أن يسير مع الله. أما العجرفة والكبرياء، ومحاولة إثبات الذات وفرض الرأي، فهي أمور ليس لها مكان على الإطلاق في شهادة أي من يريد أن يكون للرب. هكذا اتصف جدعون، بمثل هذه الصفات الحميدة كجبار البأس، وكمن الرب معه، كما اتسم بالاتضاع.

(يتبع)

فرانك ولاس