أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2015
جداول منعشة من ينبوع الحياة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ» (رؤ١: ١٧، ١٨)

تأملنا في العدد السابق في منظر الرب كابن الإنسان الذي رآه فيه يوحنا، والذي يرسم أمامنا شخصه الكريم في صفتين متباينتين: الأولى كالقاضي، والثانية كرئيس الكهنة. والمسيح الذي يحضر في وسط الكنيسة ليُبارك ويُعزي (عب٢: ١٢؛ مت١٨: ٢٠)، نراه هنا في وسط الكنائس يحكم ويقضي. ولا ينبغي أن نستهين بذلك، فإنَّ يوحنا بكل ما له من ألفة ودالة على المسيح، لما رأى المسيح في هذه الحالة، يقول: «فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ».

يا له من منظر مجيد للمسيح الذي رآه يوحنا! ومع أن المشهد أثر فيه لدرجة أنه سَقَطَ «عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ»، لكنه رغم ذلك وجد أن قدمي الرب يسوع كانتا موضع الكرامة والبركة. وهذه ليست المرة الأولى لهذه المشاهد العظيمة في العهد الجديد. فعندما ظهر الرب يسوع باستعلان مجيد لشاول الطرسوسي، وأوقفه في غيرته المتقدة لاضطهاد الكنيسة، على الفور سقط شاول على الأرض. وقد قال: «نَحْوَ نِصْفِ النَّهَارِ، بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ السَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ. فَسَقَطْتُ عَلَى الأَرْضِ» (أع٢٢: ٦، ٧). ومع أنه أُصيب بالعمى من النور المجيد، إلا أنه اتضع عند قدمي الرب يسوع، وبعد أن كان قبلاً يُجدّف عليه، ويضطهد أعضاء جسده، ها هو يصرخ إليه قائلاً: «مَاذَا أَفْعَلُ يَا رَبُّ؟». لقد وجد أول الخطاة قدمي يسوع موضع الغنى والبركة الوفيرة. وقال له الرب: «قُمْ وَاذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُنَاكَ يُقَالُ لَكَ عَنْ جَمِيعِ مَا تَرَتَّبَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ». وها روح الله يُري الخطاة أن قدمي الرب يسوع هما موضع البركة.

وبطرس شاهد آخر لمثل ذلك الأمر. فبينما كان يتصيد مع رفقائه عند بحيرة جنيسارت، وكان لعدة ساعات يُلقي شبكته بدون جدوى، فأخيرًا دخل الرب يسوع في السفينة، وبعد أن فرغ من الكلام للجمع الذي يزدحم عليه ليسمع كلمة الله، طلب من بطرس أن يبعد إلى العمق، وأن يُلقي الشباك للصيد. ويبدو أن بطرس ظن أنه لا جدوى من ذلك، لأنهم تعبوا الليل كله ولم يأخذوا شيئًا، ومع ذلك فإذ طلب الرب يسوع أن يفعل ذلك، فإنه ألقى الشبكة على كلمته، فأمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا، حتى صارت الشبكة تتخرق. وعلى ما يبدو فإن ما حدث جعل بطرس يُدرك عظمة الشخص الذي أمره بأن يُلقي الشبكة، فَخَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ» (لو٥: ١-١١). ولاحظ أن بطرس سقط على ركبتيه كرجل خاطئ، وشعر بأنه رديء للغاية، وأنه غير لائق للوجود في محضر الرب، وأن ما يجب أن يفعله فقط هو أن ينحني أمام الرب كخاطئ. ولكن كيف أجاب الرب يسوع عليه؟ هل قال له: “أنت خاطئ، وعليك أن تبتعد عني؟” أم قال له: “أنت أخطأت كثيرًا، ويستحيل علي أن أقبلك؟” أم تراه قال له: “إن وعدت أن تتصرف أفضل في المستقبل فسأغفر لك ماضيك؟” كلا، بل وجد بطرس تلك الخبرة السعيدة بإلقاء نفسه عند قدمي الرب يسوع كخاطئ فقير مسكين، كما هو بالفعل، وتعلَّم أنه تُوجد نعمة في قلب الرب يسوع تكفي للتغلّب على كل خطاياه، وقال له الرب: «لاَ تَخَفْ!». وما أوسع ما تتضمنه هذه الكلمة «لاَ تَخَفْ!»؛ أنا أُرحب بك، وأُطهّرك، وأُخلّصك، بل والأكثر من ذلك ستحصل على كرامة خدمتي «مِنَ الآنَ تَكُونُ تَصْطَادُ النَّاسَ!». ويا للنعمة المتفاضلة التي تُجزل للخطاة المُتضعين عند قدمي الرب يسوع.

ولننظر مثلاً آخر؛ كانت هناك امرأة رديئة السمعة لأجل طرقها الخاطئة، وسمعت أن الرب يسوع قد زار المدينة، وأنه هناك في الوليمة في بيت سمعان الفريسي. وهي إذ شعرت بثقل حمل خطاياها، وانتُخس ضميرها، وكان قلبها مُثقلاً بالذنب وحزينًا، واحتاجت لمُخلِّص، وها هو المُخلِّص الوحيد عن قرب وفي متناول يديها. ولكن هل سيقبل أن يُخلِّص خاطئة مثلها؟! وهل يُرحب بشخص شرير رديء السمعة إلى هذا الحد؟! وهل يمكن له وهو القدوس أن يتضع ويُصغي لمثل هذا المخلوق الرديء للغاية؟! لا شك أن هذه الأفكار طافت بقلبها المكتئب. ومع ذلك اضطرتها الحاجة أن تأتي إلى يسوع؛ «جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ، وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ» (لو٧: ٣٦-٥٠). وها نجد نفسًا أخرى مُتعبة وخاطئًة ضربها ضميرها عند قدمي الرب يسوع. وماذا تُرى قال الرب لها؟ هل صوَّب إليها نظرة مُؤنبة؟ هل أفلتت عبارة توبيخ من شفتيه؟ كلا، «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ» (يو٣: ١٧)، وهو – تبارك اسمه - «قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو١٩: ١٠)، وأيضًا «جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ» (١تي١: ١٥)، ولذلك قال لها الرب: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ». يا للروعة فالمخلّص والخاطئ قد التقيا! ويا لترحاب قلب الرب يسوع المُنعم! ويا لسعادة الخاطئ الذي قَبِله الرب يسوع هكذا! فلا شيء بين الخاطئ المُذنب وبين المُخلِّص المُنعم؛ لا فرائض ولا طقوس، ولا تدخل رسميات، ولكن ببساطة يعترف المُذنب التائب، وابن الله يغفر له. وهو ما حدث أيضًا عندما قال لآخر «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مر٢: ٥). والآن يُعلن بمنتهى الوضوح لهذه المرأة التي كانت خاطئة: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ!». ليس طيبك، ولا دموعك، ولا قبلاتك، ولا أية ثمار مقبولة منك، ولكن «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ».

والآن دعونا نُلقي نظرة أخرى على يوحنا: «فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ».

لقد أصبح الرسول المحبوب عند رِجْليّ سّيِّده، فأُتيحت له فرصة أخرى ليتعلَّم فيها درسًا أعمق عن محبة المُخلِّص، ولذا استرسل يوحنا قائلاً: «فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلاً لِي: لاَ تَخَفْ». فيا له من إعلان مُبارك عن قلب الرب يسوع العطوف! كم هو رقيق! كم هو لطيف! فتلك اليد اليمنى التي قد أحرزت لعبده وخادمه النصرة والغلبة على أعدائه، هي نفسها التي تنازلت لإنهاض وملاطفة خادمه الخائر القوى. نفس اليد التي قبلت باختيار أن تُثقب من أجل خُطاة، قد امتدت ثانية لتشديده وتعزيته بقوله: «لاَ تَخَفْ». وكأنه يقول له: “يا يوحنا، لا يوجد شيء البته يُمكنه أن يُخيفك أو يُرعبك. ولا داعي البته لانزعاجك وعدم تعزيتك، لأن يدي اليمنى تحميك وتحفظك وتواسيك، فهي معك ولصالحك، وليست ضدك”.

وإذا كان للرب كل السلطان والقوة والقدرة في السماوات والأرض، خالق جميع أنحاء المسكونة، مالك كل العالمين، والماسك كل شيء بيمينه، فادي وديَّان الجميع، يقول لنا: «لاَ تَخَفْ»، فلا يوجد بعد موضع للخوف أو الانزعاج.

وفوق ذلك فقد أعطى السَيِّد لخادمه الضعيف الخائر القوى أسبابًا معقولة لعدم الخوف، راجعةً لشخصه ولعمله الكامل ولسموه ولرفعته:

أولاً: شخصه

«أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ»: إن السلام الحقيقي يرتبط دائمًا بالنظرة الصحيحة لشخص المسيح، لأن كرامة ومجد شخصه الكريم يُعطيان النتائج لعمله، ويملآن عمله كمالاً وكفاءة وإقناعًا، وقد جُمعت فيه جميع البركات لأن الله والإنسان وُجِدا في شخصه. فإذا استبعدنا ناسوته لن نجد البديل ولا الفادي، وإذا استبعدنا لاهوته لن نجد قيمة الكفارة لدمه. فالأمر المبارك هو أننا نجد فيه الله والإنسان، وهو الذي كان مؤهلاً للعمل الفائق العجب للفداء الأبدي. هو القديم الأيام الحاضر في كل بركة يحتاجها الإنسان، وهو الذي يُجيب عن كل مطالب الله العادلة. هو رجل الدهور الوحيد والفادي الفريد الذي اشتاق إليه أيوب وانتظر وجوده. هو الذي أوجد للإنسان جميع البركات التي يحتاجها، وفي الوقت نفسه قد تمَّم وأوفى مطاليب بر الله وعدله، وهذا سبب آخر يجعل يوحنا لا يخف من شيء بعد أن تمتع بأقوال الرب المطمئنة، ووُجد في حضرة هذا الشخص العجيب الفريد.

ثانيًا: عمله الكامل

«وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا»: فكأنه يقول: يا يوحنا أنا مت لأجلك، وقد حملت جميع خطاياك وتعدياتك، وأبعدت عنك كل معاصيك، فقد اجتزت الموت عوضًا عنك لكي لا ترى الموت، وقد قمت من الموت وصرت حيًا، ولذا جميع ديونك قد وفيتها، وكل ما كان محكومًا به عليك كخاطئ مجرم قد تنفذ في شخصي، ولكني قد قمت ناقضًا أوجاع الموت، ولذا يجب أن تحيا إلى الأبد «لاَ تَخَفْ».

ثالثًا: رفعته

«وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ! آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ»: ولولا أن كل خطية من خطايانا قد مُحيت تمامًا لما أمكن أن الله يُقيم المسيح من الموت، ولذا فقيامته هي شهادة الله العلنية الدالة على أن الخطية قد دينت وقد أُبعدت إلى الأبد، والرب المُقام من الأموات الذي رفّعه الله وأجلسه عن يمينه في الأعالي مُكلِّلاً إياه بالمجد والكرامة هو الكاهن الأعظم إلى الأبد على رتبة ملكي صادق، وقد دُفع إليه كل قوة وسلطان، وأُعطِيَّ حق الدينونة، وهذه كلها براهين ساطعة على قبول ونجاة وأمان جميع المؤمنين.

ومن جهة الموت والهاوية فمن يُمسك بمفاتيحهما؟ المسيح معه مفاتيحهما، ولذا يقول لخادمه الواقع عند قدميه: «وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ». ويا لها من حقيقة مُعزية تُطمئن أولاد الله، فإنه من المستحيل أن يظل واحد منهم راقدًا في الموت أو مُسجى في اللحد! فالمؤمن يرى في الموت مجرد نوم هادئ ورقاد في القبر ريثما يفتح الرب يسوع الأبواب! نعم إننا نثق أنه يقينًا سيفتح الأبواب لأحبائه في الوقت المُعيَّن، وسيكون ذلك في حينه، ليس أسرع مما يجب، ولا متأخرًا عما يجب. وما أعجب هذه التعزية التي يُقدمها الرب يسوع لذلك الخادم الواقع عند قدميه! وما أبدع الرقة واللطف التي بها جفف دموعه وعبراته، وأزال جميع شجونه ومخاوفه وأحزانه!

فيا أيها القارئ المسيحي: إن كنت على وشك أن تخور وتضعف، انظر إلى مُخلِّصك المُقام من الأموات، والمُمجَّد والمُرتفع، وفكر في شخصه، وتأمل في عمله الكامل على الصليب، وتصوره منتصرًا على جميع أعدائك بالقيامة، وأمعن النظر الروحي إليه وهو مُرفَّع في السماء إلى أعلى ذرى المجد، مُهيئًا لك الطريق لتكون معه ومثله وتراه كما هو بكل تأكيد، وأنه قائم في كل حين ليشفع لك، وانظره يمسك بثبات مفاتيح الهاوية والموت، فتتقوى وتنتصر وترتفع فوق مستوى الظروف مهما كانت، ولا تنسى أن فرح المسيح قوتنا. وقوته - له المجد - تكمل في ضعفنا.

فيا قارئي العزيز: عاجلاً أم آجلاً ستتعامل مع الرب يسوع، ترى أَسيكون ذلك كَمُخلِّص أم كديان؟ هل سيقول لك: تعال يا مبارك، أم اذهب عني يا ملعون؟ هل ستحني ركبتيك له بفرح في السماء، أم ستنوح في الجحيم؟ هو الآن يقول: «مَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا» (رؤ٢٢: ١٧)، ولكن بعدئذٍ سيقول: «لأَنِّي دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ، وَمَدَدْتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي، بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِي، وَلَمْ تَرْضُوا تَوْبِيخِي. فَأَنَا أَيْضاً أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ. إِذَا جَاءَ خَوْفُكُمْ كَعَاصِفَةٍ، وَأَتَتْ بَلِيَّتُكُمْ كَالزَّوْبَعَةِ، إِذَا جَاءَتْ عَلَيْكُمْ شِدَّةٌ وَضِيقٌ. حِينَئِذٍ يَدْعُونَنِي فَلاَ أَسْتَجِيبُ. يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ فَلاَ يَجِدُونَنِي. لأَنَّهُمْ أَبْغَضُوا الْعِلْمَ وَلَمْ يَخْتَارُوا مَخَافَةَ الرَّبِّ» (أم١: ٢٤-٢٩).

هـنري هـ. سنل