تمتع إبراهيم بالحياة المطمئنة السعيدة، والحياة الهادئة الشريفة، والتي في أحلك الظروف المضطربة وأشد التجارب القاسية تَمَيَّزت بالإيمان بكلمة الله، والثقة فيما يصنع. أبرز ما نراه في إبراهيم وهو يجتاز تكوين22 هو سلامه العميق الهادئ وخطواته الثبيتة، رغم شدة التجربة. قال أحدهم: نحن لا نتمتع بالسلام نتيجة للانتصار، ولكننا نتمتع بالانتصار لأننا في سلام. الإيمان دائمًا يتقدم إلى الأمام غير عالم بما سيأتي عليه، لكنه يثق ويستند على معونة تأتي من عند الرب. مرة سُئل زنجي مؤمن أن يُعرِّف ما هو الإيمان، فقال بلغة زنجية بسيطة: “أنت ترى هذا الحائط الذي أمامنا. ولو تعيَّن عليَّ أن أخترقه، وبعد الصلاة تيقنت أن هذه هي إرادة الله، فمن واجبي، إن كان عندي إيمان، أن أقتحمه بقفزة نحوه. وعمل الله هو الذي يجعلني أخترقه إلى الجانب الآخر، حتى ولو كان هذا الحائط من صوان. لأن الإيمان الحقيقي يأخذ دائمًا ما يتوقعه وأكثر مما يتوقعه”. قال إبراهيم: «اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ»، وفي اللحظة المناسبة: «رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ، مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ». مرة دخل شاب على أمه واتجه مباشرة إلى الصوان وفتحه، وهو يقول لها: “لقد صلَّيت من أجل رغيف خبز أجده في هذا الصوان، ولم تكن عندي ثقة أن أجد فيه خبزًا، وها هو فارغ ليس فيه ما صلّيت مِن أجله”. فقالت له أمه: ”يا بُني أنت وجدت فيه ما توقعت“. أيها الأحباء إذا كان الإيمان يجد ما يتوقعه، فإن عدم الإيمان يجد ما يتوقعه. عدم الإيمان لا يرجو شيئًا، ولذلك لن يجد شيئًا. مبدأ عجيب لم يَزَل ساريًا هو: “واحد يتعب وآخر يدخل على تعبه”. نهار يطلع من جوف الليل، وحياة تخرج من جوف الموت. وما من كائن حي يَنعَم بالحياة إلا وكان وجوده ثمرة أنين ومخاض. وكل وليد يمتص رحيق الحياة ويَنعَم بالنور ويترعرع في أحضان المحبة، هو ثمرة آلام وأحزان والدة حملته وأعطته حبها وقلبها. هل ملكت شيئًا يستحق الامتلاك؟ هل هو شيء مادي أو معنوي أو روحي؟ هو نتيجة تعب وعرق ودم ودموع السلف مِن حكماء وأنبياء وشهداء، أكثرهم ماتوا في هُزء، وحسب الظاهر محزونين أو محرومين، لكنهم جادوا بعطاياهم، وأخذوا الكلمات، ومنحوا البركات، وحلَّت بهم الضيقات. وذلك الذي يفوق الكل في هذا المضمار، الذي بلا عيب، الكفارة المتألم أكثر من الكل. نجده مرموزًا إليه على صفحات كثيرة في العهد القديم، وحيثما رأيناه في أي رمز أو مزمور نبوي، مسحوقًا متألمًا بالظلم، نجد في الإشارة الرمزية، نهر نعمة فائضًا بالبركة التي تغمر كثيرين. مِن تلك الذبيحة على جبل المُريَّا يفيض نبع بركة يبدأ بوعد بنسل يَتَمَيَّز بالقوة والكثرة، ويتناهي إلى مولد يعقوب (تك25: 26). لكنه هذا الطريق ليس خلوًا من المرارة. وكان لا بد أن يمر وقت طويل قبل أن يتحقق الوعد أو جزء منه، وفي هذا الوقت يكون «لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ، لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا، بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ» (2كو1: 9). وتموت سارة ويواجه إبراهيم الموت وجهًا لوجه. بمعنى أن الذين ارتبطوا بذبيحة المسيح وصاروا موضوع المواعيد الحاضرة، يتعيَّن عليهم أن يمروا اختباريًا في «شَرِكَةَ آلاَمِهِ» وأن يتحملوا في الجسد «إِمَاتَةَ الرَّبِّ يَسُوعَ» (2كو4: 10). يرتبط وثيقًا بكل هذا نفض اليد عن كل حق من الحقوق الأرضية أُعطي لنا، حتى لو قُدِم لنا بعض هذا الحق، نترفع أن نأخذه دون أن ندفع عنه ثمنًا. أيها الأحباء: صحيح، إن كان أحد يحسب نفسه ميتًا (رو6)، فمثل هذا لا يتشبث بحق له أرضي دنيوي. عندما ننزل من قمم المُريَّا إلى السهل عند حقل عفرون الحثي، وإبراهيم هناك يبكي على سارة ويندبها، ومعه تئن أشجار ممرا، وتُردد المكفيلة همهمات البكاء، نرى آداب رجل الإيمان، ونرى ترفعه وتعففه. يقول له بنو حث: «فِي أَفْضَلِ قُبُورِنَا ادْفِنْ مَيِّتَكَ. لاَ يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنَّا قَبْرَهُ عَنْكَ حَتَّى لاَ تَدْفِنَ مَيِّتَكَ». حينئذٍ «قَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ الأَرْضِ لِبَنِي حِثَّ»، وقال لهم في أدب المؤمن الكريم النفس: «إِنْ كَانَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنْ أَدْفِنَ مَيِّتِي مِنْ أَمَامِي فَاسْمَعُونِي وَالْتَمِسُوا لِي مِنْ عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ أَنْ يُعْطِيَنِي مَغَارَةَ الْمَكْفِيلَةِ ... بِثَمَنٍ كَامِلٍ يُعْطِينِي إِيَّاهَا ... مُلْكَ قَبْرٍ». إنه في لطف كثير وتواضع جم لا يتعجرف بل يتكلم بجناح خفيض. وكان عفرون جالسًا بين بني حثّ، فأجاب هذا في مسامعهم قائلاً: «اِسْمَعْنَا يَا سَيِّدِي: أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ اللهِ بَيْنَنَا. فِي أَفْضَلِ قُبُورِنَا ادْفِنْ مَيِّتَكَ ... يَا سَيِّدِي اسْمَعْنِي. الْحَقْلُ وَهَبْتُكَ إِيَّاهُ وَالْمَغَارَةُ الَّتِي فِيهِ لَكَ وَهَبْتُهَا ... ادْفِنْ مَيِّتَكَ». قال له إبراهيم بعدما سَجَدَ: «بَلْ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ إِيَّاهُ فَلَيْتَكَ تَسْمَعُنِي. أُعْطِيكَ ثَمَنَ الْحَقْلِ. خُذْ مِنِّي فَأَدْفِنَ مَيِّتِي هُنَاكَ». فَأَجَابَ عِفْرُونُ: «يَا سَيِّدِي اسْمَعْنِي. أَرْضٌ بِأَرْبَعِ مِئَةِ شَاقِلِ فِضَّةٍ مَا هِيَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ؟ فَادْفِنْ مَيِّتَكَ». وإبراهيم الثابت غرضه، لم يساوم في الشراء، ولم يبخس في الثمن، لكنه وَزَنَ الْفِضَّةَ وسلَّمها لعِفْرُونَ «فَوَجَبَ حَقْلُ عِفْرُونَ الَّذِي فِي الْمَكْفِيلَةِ ... لإِبْرَاهِيمَ مُلْكاً لَدَى عُيُونِ بَنِي حِثَّ» (تك23: 3-17). رجل مؤدب، رقيق المشاعر، رفيع الذوق. لم يرفض عرض عفرون بكلمة جافة أو جارحة، لكنه لم يتراجع في قصده وقام وسجد لبني حث، ووزن الفضة ودفع الثمن. بهذا الأسلوب الراقي عُقدت أول صفقة تجارية في هذا العالم. كان من الأصعب على إبراهيم أن يقول كلمة غليظة. كانت الكلمة الخشنة أصعب على نفس إبراهيم من معركة خاضها مع كدرلعومر، ولكن كان من اللياقة أيضًا أن لا يلين عن قصده الأدبي المتعفف، ولكن في لطف كثير وتواضع كريم تصرف مع عفرون. أيها الأحباء: الرجل الثابت القصد الراسخ الهدف، عادةً ما يكون الأرحب صدرًا والأكثر أدبًا وكرمًا. وكم قرأنا عن ”قبضة حديدية في قفاز من قطيفة“. وإن التعفف السَمِح المتعالي، يمد أصوله إلى نهر الله العظيم الفياض دون الاتجاه إلى الناس أو انتظار عطائهم المجاني. * * * في الرمز كنا نتوقع موت هاجر (التي تُشير إلى عهد الناموس) أكثر مما كنا نتوقع موت سارة (التي ترمز إلى عهد النعمة). لكن الكتاب يسجل موت سارة بالتفصيل، ولا يذكر موت هاجر. لم يذكر الكتاب موت هاجر لأن الحقيقة هي أن هاجر رمزيًا لا تموت. لكن الأمر الإلهي لإبراهيم ليس هو “اقتل هاجر”، بل ««اطْرُدِ الْجَارِيَةَ» (غل4: 30). ونحن نفعل حسنًا إن أطعنا الأمر كما هو. فلا نتستر على الترتيب الناموسي ولا نهاجمه، لأن التستر عليه هو ”الناموسية“؛ أي الإبقاء على الناموس، ولأن الهجوم عليه هو «نْقُض النَّامُوس» (مت5: 17)؛ أي عدم الاعتراف بآداب الناموس، لأن «الْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ» (رو7: 12). قد نجد شيئًا من الجاذبية في تلك الجارية السمراء، أكثر مما نجد في تلك التي تمثل النعمة، ذلك على الأقل في نظر الطبيعة الإنسانية. لكن لماذا كل هذه التفاصيل عن موت سارة؟ ذلك لأن سارة سوف تقوم من الأموات، وسارة تمثل الأمة الإسرائيلية. في بداية سفر الأعمال نقرأ عن ما يقابل هذا الرمز. يقول بطرس لليهود «فَتُوبُوا وَارْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ» (أع3: 19). هذا هو إعلان بطرس لهم، ولكنهم رفضوا هذا العهد؛ عهد الفرح والانتعاش، وأُسدل الستار عليه. وبموت استفانوس رجمًا انتهى بذلك عهد سارة. لكن مع ذلك سوف تقوم سارة من الأموات ويؤسس الرب معهم عهدًا جديدًا في يوم عتيد. لم تكن تنتهي طلبة استفانوس الختامية، حتى بدأ الروح القدس عملاً جديدًا بين الأمم لدعوة الكنيسة التي ترمز إليها عروس إسحاق. بعد موت سارة مباشرةً يُرسَل عبد إبراهيم. وإبراهيم هو الذي يُرسله إلى أرض أممية ليُحضر عروسًا لابنه. كان كلام إبراهيم بتصميم وحزم قاطع بأن لا تكون تلك العروس من أرض كنعان. شنودة راسم
|