كيفية العلاج
رأينا في الحلقتين السابقتين رد فعل مردخاي إزاء الكارثة التي ألمت بشعبه، واستنتجنا من رد فعله هذا إصابته بمرض ضعف الإيمان. ويبدو أن هذا المرض العضال هو من الأمراض المتوطنة في عائلة الإيمان، كما يبدو أيضا أن الميكروب المسبب له ساكن في قلوبنا باستمرار، ولو إنه كثيرًا ما كان في حالة كمون، وهو ينتظر لحظة فيها تضعف المناعة عندنا، وتقل مقاومتنا لكي ينشط ويهدد صحتنا الروحية، بل وربما يهدمها. لكننا رأينا أيضًا أن الرب عالج مردخاي في غرفة إنعاش الإيمان، عالجه علاجًا عجيبًا وفعالاً، أذهلنا من سرعة فعله وعظمة أثره. فقد رأينا المريض المترنح الساقط في غيبوبة عدم الإيمان، يخرج من غرفة الإنعاش ليس فقط في تمام الصحة والعافية الروحية، بل وفي قوة لم تظهر عليه أبدًا حتى قبل سقوطه في المرض! فقد خرج واقفًا على رجليه، متمنطقًا بمنطقة الحق، حاملاً ترس الإيمان، لابسًا خوذة الخلاص، وشاهرًا سيف الروح. خرج وكأنه جندي خارج للقتال يقول كلامًا لأستير هو في الواقع أنشودة تحدي وترنيمة الواثق من الانتصار. هذا جعلنا نبتهج ونفتخر بروعة طبيبنا العظيم، لكنه جعلنا أيضًا نتساءل عن كنه هذا العلاج الفعال الذي أحدث كل هذا الأثر. وهذا ما سنتناوله في مقالنا هذا.
طريقتان للعلاج: على قدر فهمي لمعاملات الله مع شعبه كما أراها معلنة في كلمته، وكما ألحظها في حياتي وحياة إخوتي من حولي، أرى أن علاج الرب لضعف الإيمان يكون غالبًا بإحدى طريقتين: إما أسلوب العلاج بالنعمة أو أسلوب العلاج بالصدمة!! ومع أن النعمة والصدمة نقيضان متضادان لكن الأمر العجيب أنهما يحملان ذات القوة والفاعلية في علاج غيبوبة ضعف الإيمان! وبالطبع فإن الطبيب العظيم وحده، هو صاحب الحق في القرار أي من الطريقتين يستخدم مع كل حالة من الحالات، وهذا بالطبع طبقًا لحكمته الخاصة والتي تضع في الاعتبار عوامل كثيرة للغاية مثل: عمر المؤمن الروحي وقت المرض، ومستوى إدراكه، وحالته الروحية قبل المرض مباشرة، خطة الله لحياته بعد المرض، مدى تحمله في وقت المرض، وكل هذا يعرفه طبيبنا العظيم دون حاجة لأية تحاليل أو فحوصات! فعينه الخبيرة الفاحصة، ومحبته المعتنية بكل تفاصيل حياة كل واحد منا، تجعله دائمًا على دراية كاملة بكل شيء يخصنا! وسأتوقف معك-عزيزي القارئ- باختصار عند كل طريقة من الطريقتين.
أولاً: العلاج بالنعمة
في هذه الطريقة يستعمل طبيبنا العظيم عدة وسائل بها ينقذ مريضه ويسترد له وعيه المفقود، وهذه الوسائل رغم تنوعها تتفق في أنها عبارة عن لمسات حانية ومشجعة للغاية، بالإضافة لعطايا وهبات متنوعة يهبها الرب لهذا المريض في وقت سقوطه! وهذه وتلك يقدمها الرب للمؤمن الساقط دون لوم أو توبيخ! هذا كله في الوقت الذي يكون فيه هذا المؤمن محتقرًا لذاته، شاعرًا بضآلته، منتظرًا لتأديبات الرب له! وهذا الأسلوب هو الأكثر شيوعًا في العلاج، والأمثلة له في الكتاب كثيرة، لكنني لن أتوقف عنده كثيرًا إذ ليس هو أسلوب العلاج الذي استخدمه الرب في علاج مردخاي، لكنني أرجو من القارئ العزيز أن يتجول هو بنفسه في صفحات تاريخ رجال الله، كما هي في كلمة الله، لكي يرى بنفسه روعة هذا العلاج. وسأذكر لك على سبيل المثال لا الحصر بعض الحالات.
العلاج بالنعمة هو عبارة عن لمسات حانية ومشجعة بالإضافة لعطايا وهبات متنوعة يهبها الرب للمؤمن الساقط دون لوم أو توبيخ.
سقط أبو المؤمنين، أبونا إبراهيم، أكثر من مرة كضحية لمرض ضعف الإيمان.ارتحل مرة ارتحالاً متواليًا نحو الجنوب، كما نقرأ في تكوين12، ثم انحدر إلى مصر، وهناك نسي مواعيد الله الرائعة والمذهلة والتي كان قد سبق الرب وأعطاها له منذ وقت قليل للغاية، وامتلأ بالخوف من الموت قتلاً بسبب جمال سارة، فأنكر أنها زوجته! وكانت النتيجة المؤلمة ضياع سارة منه حيث أخذت إلى بيت فرعون. وجلس هو وحيدًا كئيبًا شاعرًا بالخزي والعار خجلاً من نفسه بسبب ما فعله، وخجلاً من سارة لما سببه لها، وفوق الكل خجلاً من إلهه وخله الحبيب الذي أهانه إذ تصرف بتمام الاستقلال عنه.
وعندما استحكمت الحلقات ولم يعد هناك أي أمل في نجاة تأتي من هنا، أرسل إله كل نعمة الفرج والنجاة من هناك، وبدلا من أن يضرب إبراهيم بسبب خطأه، ضرب فرعون الذي استولى على سارة لمجرد أنها دخلت إلى بلده. وكنتيجة لهذا رد فرعون على الفور سارة إلى أبرام رجلها، وأوصى عليه رجالاً فشيعوه، فخرج من هناك بعد أن أعطاه فرعون خيرات كثيرة!!. يالها من نعمة أثرت في قلب إبراهيم بشدة وخلقت فيه مشاعر جديدة من نحو إلهه، وشفته من ضعف إيمانه، نعمة أرجعته للنور فدخل ميكروب ضعف الإيمان في طور الكمون، إلا أنه دخول مرهون باستمرار العيشة في النور.
وهذا ما تبرهن بعد ذلك، فعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحادثة نجدها تتكرر بحذافيرها مرة أخرى! مما يؤكد أن ميكروب ضعف الإيمان كان ما زال موجودًا في القلب!
ففي تكوين20 كان إبراهيم محبطًا للغاية إذ رأى دخان حريق سدوم يصعد إلى السماء، فظن المسكين أن الرب أحرق المدينة ولوطًا في داخلها، فحزن واكتئب على ابن أخيه، وكنتيجة سريعة لهذا الاكتئاب والاحباط انتقل بعيدًا عن مشهد الحريق، فانتقل إلى أرض الجنوب وتغرب في جرار بين قادش وشور، وما أخطر القرارات المتسرعة ولا سيما التي تؤخذ في لحظة إحباط أو اكتئاب، وهناك عاوده المرض من جديد فأفقده تركيزه واتزانه فعاد لخوفه وإنكاره! وكما حدث في المرة الأولى في مصر؛ حدث ثانية هنا، فقد أخذت سارة لبيت أبيمالك ملك جرار، وذهب هو إلى بيته الخالي ليجتر آلام الوحدة وعار الخزي. أتخيله يجلس مكومًا في أحد الأركان ورأسه بين ركتيه، وهو شيخ بلغ المائة من عمره، ودموعه تنهمر على الأرض بينما منظر سارة وهي تؤخذ منه كسيرة ذليلة لا يفارق عينيه، فتارة يجهش بالبكاء، وتارة يعض أنامله ندمًا على قسوته عليها ومافعله بها وهي زوجته المحبوبة لقلبه، وخزيًا من نفسه التي فعلت هذه الفعلة لا مرة بل مرتين. وكالمرة الأولى أيضا توصد الأبواب في وجهه، ولا نجاة ستأتي من هنا كالمعتاد.
يا للكرامة التي يعطيها إله كل نعمة لمؤمن في قاع الخزي والخجل! يا للشفاء العجيب بنعمة إله كل نعمة!!
لكن ... فجأة يأتي الحل من هناك، من عند إله كل نعمة! فيأتي الله شخصيًا إلى أبيمالك في حلم الليل ويقول له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها..... والآن رد امرأة الرجل فإنه نبي فيصلي لأجلك فتحيا!!! يا للعجب! يا للكرامة التي يعطيها إله كل نعمة لمؤمن في قاع بئر الخزي والخجل! يا لكرامته الآن أمام الناس وأمام سارة إذ يشهد الله نفسه عنه بأنه نبي!! يا للشفاء العجيب بنعمة إله كل نعمة!!
وفي كلتا الحالتين تظهر فاعلية هذا العلاج بشكل بديع، إذ لا يرجع إبراهيم بعدها إلى ما كان عليه قبلها بل يصبح أروع مما كان قبل المرض بكثير!!.
هذا الأسلوب ”علاج غيبوبة ضعف الإيمان بالنعمة“ هو نفسه الذي استعمله الرب مع داود في 1صموئيل20، عندما هرب إلى أخيش ملك جت طلبًا للحماية من شاول، وكأن الرب الذي مسحه لن يقدر أن يحميه!!
وهو عينه أيضًا الأسلوب الذي استعمله الرب مع إيليا في1ملوك19، عندما سقط هذا العملاق في غيبوبة ضعف الإيمان، إذ تصور أن الرب سيتركه لإيزابل تقتله، فاكتئب وطلب الموت لنفسه!!
واستعمله مع يوحنا المعمدان في لوقا 7 عندما كان في السجن وضعف إيمانه وراوده الشك في حقيقة شخص المسيح فأرسل يسأل الرب: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟».
واستعمله الرب أيضًا مع بطرس في يوحنا21 عندما ضعف إيمانه وقال: «أنا أذهب لأتصيد».
واستعمله الرب مع بولس عندما ضعف واعتمد على حكمته البشرية وهو يحاكم أمام المجمع اليهودي في أعمال 23 وادعى أنه فريسي ابن فريسي .
وهناك الكثيرون غيرهم من أبطال الإيمان الذين ضعف إيمانهم وعالجهم إله النجاة بالنعمة.
وفي كل هذه الحالات أظهر العلاج بالنعمة فاعلية عجيبة في الشفاء إذ أنه لم يرجع مرضاه إلى حالتهم قبل المرض بل أرجعهم أفضل مما كانوا قبله! بل الأروع أنه نجح في أن يظهر قلب وحب إله كل نعمة.
لكن ...
وعلى الرغم من كل هذا يمكننا القول أن هناك حالات أخرى يرى فيها إله كل نعمة، والذي هو أيضًا الإله الحكيم وحده، أن العلاج فيها يحتاج لأسلوب آخر هو على النقيض تمامًا من أسلوب العلاج بالنعمة، ألا وهو العلاج بالصدمات! وعن هذا الأسلوب سيكون حديثنا بنعمة الرب في العدد القادم.