أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2005
سفر التكوين الأصحاح الثالث والثلاثون - من أقوال المجامع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

إن الكثير من رغبات يعقوب التي تاقت نفسه للحصول عليها لم تكن شريرة، بل كانت مواعيد وبركات سبق الله ووعده بها، لكنه بدل أن ينتظر الرب لينجز ما وعد به طبقًا لطرقه الصالحة ومواقيته التي لا تخطئ، فإنه هو الذي رتب ودبر ليحصل عليها، متكلاً على الجسد، ومستعملاً وسائل جسدية بغيضة في عيني الرب.

 فعندما رغب في البكورية، ظهر الذكاء الإنساني في عملية استغلال فرصة إعياء أخيه وجوعه، فاستطاع شراء البكورية بأكلة واحدة (تك25: 31- 34).

 وعندما رغب في البركة، لجأ إلى النصب والاحتيال على أبيه (تك27: 1- 29).

 وعندما رغب في الحصول على رضا عيسو أخيه، لجأ للنفاق والمُداهنة (تك32: 13- 29؛ 33: 1- 11).

 وعندما خاف من العيشة مع عيسو، وأراد أن يتحاشى الدخول في شركة معه، لجأ للكذب والخداع (تك33: 12- 17).

 وهكذا يتضح أمامنا أن الكثير من رغباته كانت صحيحة ومشروعة، إلا أن الوسائل كانت جسدية، ولا يُرى فيها إلا العنصر البشري في أحط حالاته. ومن هذه السبيكة الغريبة تتضح لنا معالم شخصية يعقوب.

 ومن هذا يتضح أن اهتمامنا بالأمور الروحية وبعمل الرب، لا يعني أننا بمنأى عن التصرف الجسدي والسلوك بحسب البشر.

بعض الملاحظات التي قيلت في مجمع المنيا – ديسمبر 2004

هناك مبدءان في كلمة الله، يظهران بمنتهى الوضوح في حياة يعقوب. المبدأ الأول: مقاصد الله بالنعمة .. والمبدأ الثاني: مسئولية الإنسان.

 إن الله لا بد أن يتمم مقاصد نعمته مهما كانت الظروف، ولكن إذا حاول أولاده، بسبب ضعف إيمانهم، تنفيذ تلك المقاصد بدونه، فسوف لا يحصدون سوى الحزن والتأديب، لأن «الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا» (غل6: 7). ومع ذلك فالله يغتنم الفرصة ليعلِّم قلوبنا دروسًا اختبارية عن غنى نعمته وكمال حكمته. وهكذا فإن تأديب الله، الذي جعل من شخص كيعقوب، إناء لمجد الله وحمده، هو المغزى المُستفاد من حياته.

 إننا كثيرًا ما نقسو على يعقوب لأنه كان يسلك حسب الجسد، ويصنع «تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات» (رو13: 14)، لكن نحن كثيرًا ما نفعل مثله، ودينونتنا أعظم لكوننا نتميز عنه بإمكانيات أعظم.

 فأولاً: لم يكن يعقوب يتمتع بسُكنى الروح القدس فيه، فهذه بركة تخص مؤمني الكنيسة دون سواهم (رو8: 9)، فكيف كان يتسنى ليعقوب أن يسلك بحسب الروح؟ لكن ما هو عُذرنا نحن إن سلكنا حسب الجسد؟ لأنه وإن كان الجسد باقيًا كما هو في المؤمن، غير أن المؤمن حصل على قوة تنتصر عليه وتضعه في حكم الموت، وهي قوة الروح القدس عاملاً في الطبيعة الجديدة (رو8: 4).

 ثانيًا: المعرفة التراكمية: وهذه يمكن أن نوضحها بمثال من العهد القديم. لقد تكبَّر بيلشاصر الملك، ودليل كبريائه تلك الوليمة التي صنعها لعظمائه الألف، والتي فيها أحضر آنية الهيكل المقدسة لكي يستعملها هو وعظماؤه في سكائبهم لآلهة بابل الوثنية. ولذلك قال له دانيال، قبل أن يُخبره بقضاء الله عليه وزوال مملكته: «وأنت يا بيلشاصر .... لم تضع قلبك، مع أنك عرفت كل هذا» (دا 5: 22). إن «كل هذا» الذي عرفه بيلشاصر، والذي جعله بلا عذر، لم يكن يزيد عن معاملات الله مع أبيه نبوخذ نصَّر، الذي لما ارتفع قلبه وقَسَت روحه تجبُّرًا، انحطَّ عن كرسي مُلكه، ونزعوا عنه جلاله، وطُرد من بين الناس، وتساوى قلبه بالحيوان (دا 5: 18- 21). ولكن ماذا عنا نحن؟! كم نعرف من الكتاب المقدس، المليء بالدروس النافعة. فلنتحذر لأن «ذلك العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته، فيُضرب كثيرًا. ولكن الذي لا يعلم، ويفعل ما يستحق ضربات، يُضرب قليلاً. فكل مَنْ أُعطى كثيرًا يُطلب منه كثيرٌ، ومَنْ يُودعونه كثيرًا يُطالبونه بأكثر» (لو12: 47: 48). 

 في «فنيئيل» خلع الرب حق فخذ يعقوب، وخلع عليه اسمًا جديدًا «فقال: لا يُدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل» (تك32: 24- 28)، ولكن يعقوب لم يَصِر بعد إسرائيلاً بكل معنى الكلمة (كلمة ”إسرائيل“ تعني ”الذي يأتمر بأمر الله“). والروح القدس في أصحاح 33 يُبقي على الاسم «يعقوب»، مع أننا كنا نتوقع أن يُستبدل هذا الاسم بالاسم الجديد ”إسرائيل“، كما استُبدل اسم أبرام بإبراهيم. فكيف كان ممكنًا أن يُطلق عليه اسم ”إسرائيل“ إن كان قد رجع سريعًا إلى حياة ”يعقوب“، ورجع من حياة التمسك والتعلق بالله إلى حياة التملق والمكر وتدبير الخطط التي كان يحياها منذ زمن طويل؟! 

 المؤمن الحقيقي توجد فيه طبيعتان: الطبيعة القديمة الموروثة من آدم، والتي تحب الخطية، وليس فيها ذرة واحدة من الصلاح (رو7: 18)، والطبيعة الجديدة التي من الله والتي لا تخطئ. والطبيعتان في تضاد. هذه السبيكة الغريبة واضحة في شخصية يعقوب في هذا الأصحاح (تك33). وكل عين بسيطة، تستطيع أن ترى بعض ملامح الطبيعة الإلهية الجديدة في كل مؤمن حقيقي، حتى ولو كان مؤمنًا جسديًا.

 أولاً: بعض ملامح الطبيعة الإلهية في يعقوب، في تكوين 33:

(1) عندما رفع عيسو عينيه أبصر نساء يعقوب وأولاده قال: «ما هؤلاء منك؟» قال يعقوب: «الأولاد الذين أنعم الله بهم على عبدك» (تك33: 5). فاعتبر أولاده عطية من عطايا نعمة الله. هنا نرى الإقرار بإحسان الله!

 (2) وبخصوص المقتنيات والممتلكات، يقول يعقوب: «لأن الله قد أنعم عليَّ ولي كل شيء» (ع11). فليس الأولاد فقط، بل المقتنيات والممتلكات أيضًا هي من عطايا نعمة الله. هنا نرى الاعتراف بفضل الله! بينما نلاحظ أنه لم يَرِد اسم الله أبدًا في حديث عيسو في هذا الأصحاح.

 (3) رفض عيسو في البداية أخذ هدية يعقوب، قائلاً: «لي كثيرٌ» (ع9)، فرد يعقوب عليه بالقول: «لي كل شيء» (ع11). هنا نرى الاكتفاء والشبع بالرب.

(4) وعندما عرض عيسو عليه، بعد أن تصالحا، أن يعيشا معًا، تحاشى يعقوب ورفض الدخول في شركة معه. وهنا نرى الحرص على الانفصال وألا يكون تحت نير مع غير المؤمنين!

 ثانيًا: بعض ملامح الطبيعة القديمة في يعقوب في تكوين 33:

(1) الجسد في قسوة مشاعره: مع أن يعقوب ارتبط بأربع زوجات، لكن عواطفه كانت من نحو راحيل فقط. ومحبته لراحيل جعلته غير مكترث ببقية نسائه وأولادهن. فهو لم يكن أبًا مُدركًا لمسئوليته، ولا مُنصفًا بين أفراد عائلته. وفي هذا الأصحاح واضح أنه كان يفضل راحيل ويوسف عن الباقين، وكان هذا سببًا في خلق تفكك بين أفراد أسرته، وفي وجود صراعات بينهم.

(2) الجسد في غباوته: لقد اختار يعقوب لراحيل، زوجته الأثيرة عنده، ولأبنها يوسف الأثير عنده أيضًا، أفضل المواقع أمنًا بحسب تخطيطه «وضع ... راحيل ويوسف أخيرًا» (ع2). ولكن جاءت النهاية بعكس وبأسرع مما توقع. ففي شرخ شبابها ماتت راحيل أسبق من الجميع. ماتت الزوجة الشابة المحبوبة حتى قبل أبيه الشيخ! (تك35)، ونُزع يوسف منه وهو في السابعة عشر من عمره، وحُرما من بعضهما لأكثر من عشرين سنة.

 (3) الجسد في نفاقه وريائه: فعندما رغب يعقوب في الحصول على رضا عيسو أخيه، لجأ إلى النفاق والمُداهنة. وفي ريائه يقول لعيسو: «لأني رأيت وجهك كما يُرَى وجه الله» (ع10). لقد نسى يعقوب درس فنيئيل عندما قال: «لأني نظرت الله وجهًا لوجه، ونُجِّيت نفسي» (تك32: 30). فها هو يخلط بين وجه الله ووجه عيسو مع أنهما لا يصلحان البتة للمُشابهة بينهما، وكل مقارنة بينهما مستحيلة. والذي نظر الله وجهًا لوجه، ما كان يليق به أن يخاف وجه الإنسان الذي يموت.

 (4) الجسد في احتقاره لكلام الله: لقد نال يعقوب البركة التي قيل له فيها: «كن سيدًا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك» (تك27: 29 قارن أيضًا تك27: 37، 40)، ولكن بالرغم من هذا نراه يسجد إلى الأرض سبع مرات أمام أخيه، الأمر الذي لم يقبل أن يفعله مردخاي التقي أمام هامان الأجاجي، إطاعة لكلام الرب ووصيته «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (مت4: 10؛ لو4: 8).

 (5) الجسد في كذبه وخداعه: فعندما خاف يعقوب من العيشة مع عيسو، وأراد أن يتحاشى الدخول في شركة معه، لجأ للكذب والخداع. وعندما عرض عليه عيسو أن يضع تحت تصرفه رجاله المسلحين لحمايته، اعتذر يعقوب بالقول إن الأولاد رَخصَة (طرية Tender)، والغنم والبقر مُرضعة (رضيعة Suckling) ولا تستطيع السير بسرعة (ع13). ثم وعده أن يلحق به إلى سعير التي كان يستوطنها عيسو، لكنه ارتحل إلى جهة أخرى ناحية سُكُّوت (ع16، 17).

(6) الجسد في عدم فهمه لفكر الله، وعدم ثقته في مواعيد الله: فبعدما تخلص يعقوب من عيسو، نراه يرتحل إلى سَكُّوت، ليبني لنفسه فيها بيتًا، ثم يتركها ويمضي إلى شكيم حيث نصب خيمته في قطعة حقل اشتراها. لقد بنى حيث كان ينبغي أن يتغرب، واشترى حيث كان يجب أن يأخذ بالنعمة بحسب وعد الرب. وعندما دفع يعقوب "المائة قسيطة" ليبتاع قطعة الحقل في شكيم (تك33: 19)، فقد أنكر روح الغربة. واشترى الأرض التي وعد الله أن يعطيها له ولنسله (تك28: 13)، ولو كان له الإيمان الوطيد لانتظر بهدوء وتسليم، حتى يتمم الله وعده المتكرر.

 (7) الجسد في عبادته وتدينه: كان يعقوب في شكيم رجلاً متدينًا، أراد أن يوفق بين الدنيا والدين. لقد أراد أن يُسكِّن ضميره ببناء مذبح وتقديم ذبائح. لكنه كان مشغولاً بذاته حيث أطلق على المذبح الذي أقامه اسم «إيل إله إسرائيل» (ع20). ولكنه لم يتمتع في فترة وجوده في سكوت وشكيم بظهور الرب له. ولو كان الرب راضيًا على المذبح الذي في شكيم وعلى الذبائح التي كانت تُقدم عليه، لمَا أمره في ما بعد أن يصعد إلى بيت إيل ويُقيم هناك (تك35: 1). نعم، في شكيم عبادة وتدين، ولكن كان هناك أيضًا فشل في الحياة الداخلية البيتية (تك34: 1، 2؛ 35: 1، 2) والله لا تُرضيه مجرد مظاهر الدين الخارجي ولا ممارسات العبادة الجسدية.