أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2005
بمناسبة العام الجديد
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

دروس من حوباب وموسى

«وَقَال مُوسَى لِحُوبَابَ بْنِ رَعُوئِيل المِدْيَانِيِّ حَمِي مُوسَى: «إِنَّنَا رَاحِلُونَ إِلى المَكَانِ الذِي قَال الرَّبُّ أُعْطِيكُمْ إِيَّاهُ. اِذْهَبْ مَعَنَا فَنُحْسِنَ إِليْكَ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلمَ عَنْ إِسْرَائِيل بِالإِحْسَانِ». فَقَال لهُ: «لا أَذْهَبُ بَل إِلى أَرْضِي وَإِلى عَشِيرَتِي أَمْضِي». فَقَال: «لا تَتْرُكْنَا لأَنَّهُ بِمَا أَنَّكَ تَعْرِفُ مَنَازِلنَا فِي البَرِّيَّةِ تَكُونُ لنَا كَعُيُونٍ. وَإِنْ ذَهَبْتَ مَعَنَا فَبِنَفْسِ الإِحْسَانِ الذِي يُحْسِنُ الرَّبُّ إِليْنَا نُحْسِنُ نَحْنُ إِليْكَ».

 فَارْتَحَلُوا مِنْ جَبَلِ الرَّبِّ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَتَابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ رَاحِلٌ أَمَامَهُمْ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لِيَلتَمِسَ لهُمْ مَنْزِلاً. وَكَانَتْ سَحَابَةُ الرَّبِّ عَليْهِمْ نَهَاراً فِي ارْتِحَالِهِمْ مِنَ المَحَلةِ. وَعِنْدَ ارْتِحَالِ التَّابُوتِ كَانَ مُوسَى يَقُولُ: «قُمْ يَا رَبُّ فَلتَتَبَدَّدْ أَعْدَاؤُكَ وَيَهْرُبْ مُبْغِضُوكَ مِنْ أَمَامِكَ». وَعِنْدَ حُلُولِهِ كَانَ يَقُولُ: «ارْجِعْ يَا رَبُّ إِلى رَبَوَاتِ أُلُوفِ إِسْرَائِيل» (عدد10: 29-36).

 لنا في هذه الحادثة المسجلة في سفر العدد الأصحاح العاشر درسان هامان: الدرس الأول لفائدة من لم يقرر بعد مصيره الأبدي، والدرس الآخر للمؤمنين الحقيقيين السائحين معنا صوب الوطن السماوي المجيد.

 ففي هذه الحادثة كان قد حان وقت رحيل الشعب إلى راحة كنعان، وأراد موسى أن يوصل البركة التي قصدها الله لشعبه، إلى كل المحيطين به، ولا سيما من عائلته. فقال لصهره حوباب: «إِنَّنَا رَاحِلُونَ إِلى المَكَانِ الذِي قَال الرَّبُّ أُعْطِيكُمْ إِيَّاهُ. اِذْهَبْ مَعَنَا فَنُحْسِنَ إِليْكَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلمَ عَنْ إِسْرَائِيل بِالإِحْسَانِ».

 وبنفس مشاعر المحبة والود التي كانت لدى موسى من جهة الآخرين المحيطين به، نقول نحن أيضًا لكل من يقرأ هذه الكلمات، ونحن في بداية عام جديد: ”اذهب معنا“. نحن لا نعلم كم بقي لنا من أيام على هذه الأرض، ولا نعلم إن كان هذا العام سينتهي كما انتهى غيره من الأعوام، أم أنه سيكون عام التقائنا مع المسيح العريس. لذلك فإننا نقول لكل من له أذن للسمع: ”إننا راحلون من هذا المكان“. ورحلتنا ليست من أرض إلى أرض، كما كانت رحلة الشعب قديمًا، بل هي من الأرض إلى السماء.

 عزيزي القارئ: لقد جاء المسيح من نحو ألفي عام، وصنع فوق الصليب تطهيرًا لخطايانا، وفتح لنا بموته وقيامته وصعوده إلى يمين العظمة باب الدخول إلى السماء، ومكانًا معه في بيت الآب. فهل تذهب معنا؟

 بالأسف فإنه بالنسبة لحوباب، كانت أرضه وشعبه أغلى عنده من عطايا الله الصالحة. ومع أن حوباب المدياني هو من ذرية إبراهيم (تك25: 2)، لكن اتضح أنه ليس ابن إبراهيم (قارن يوحنا8: 37و 39)، فإبراهيم لما دُعي لبى دعوة الله فورًا، وأطاع أن يخرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه (تك12: 1). كما اتضح أيضًا أنه – بالمفهوم الروحي – ليس من عشيرة إبراهيم (قارن تك24: 4 و51)، تلك العشيرة التي يمثلها الإيمان عينه كما نراه في رفقة، التي لما سمعت القول: «أ تذهبين مع هذا الرجل؟ قالت أذهب» (تك24: 58)، من ثم أعطت ظهرها لأرضها ولبيت أبيها (مز45: 10). وبعدها قالت راعوث الموآبية لنعمي: «حيثما ذهبت أذهب، وحيثما بت أبيت. شعبك شعبي، وإلهك إلهي» (را1: 16)، وبعدهما قال بطرس للمسيح: «ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك» (مت19: 27).

 نعم لم يكن حوباب مستعدًا للتخلي عما له، لكي يلقي قرعته مع شعب الله. لم يكن لحوباب الإيمان الحي، هذا الإيمان الذي عرفه أحدهم بأنه: ”ليس فقط يصدق برغم الأدلة، بل يطيع برغم النتائج“. ولذلك فقد قال: ”لا أذهب“! ما أبعده إذًا عن نسيبه موسى الذي ”بالإيمان“ أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون، مفضلاً الذل مع شعب الله على كنوز مصر وغناها وعظمتها، تلك التي لم ترقَ في نظره إلى عار المسيح، والذل مع شعب الله!

 عزيزي القارئ: من أي الفريقين أنت؟ كثيرون حتى في دائرة الاعتراف المسيحي، ومن بداية الكنيسة، كانوا مثل حوباب، لا يفتكرون إلا في الأرضيات، ولم تكن الدعوة السماوية تعنيهم في شيء. هؤلاء عندما تذكَّرهم الرسول بولس، ذاك الذي كان يسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع، فقد تذكرهم باكيًا، إذ أن نهايتهم الهلاك (في3: 18 و19). وهكذا من كلمة الله نتعلم أنه لا توجد سوى نهايتين: السماء بأفراحها أو جهنم بأحزانها ونواحها. فماذا تختار؟ وماذا اتخذت في أعظم قرار؟ ليتك عزيزي القارئ تحسم ذلك الآن!

 لما رفض حوباب عرض موسى فقد تقدم موسى إليه بالتماس قائلاً: «لا تَتْرُكْنَا لأَنَّهُ بِمَا أَنَّكَ تَعْرِفُ مَنَازِلنَا فِي البَرِّيَّةِ تَكُونُ لنَا كَعُيُونٍَ».

 إن كلام موسى الأول لنسيبه أكرم الله، لكن موسى انحدر سريعًا إلى مستوى الإنسان الطبيعي. لقد فقد العين البسيطة التي لا ترى غير الرب. لقد تحول نظر موسى هنا من الرب وكفايته، إلى البرية وصعوباتها، تمامًا كما تحول نظر بطرس في يومه إلى الرياح والأمواج، فابتدأ يغرق (مت14: 30).

 ما الذي تقول يا موسى لنسيبك؟ ألا يكفيك إرشاد الرب للشعب وهدايته لهم؟ ألا يكفيك تابوت العهد وسحابة الحضرة والأبواق الفضية، وتريد حوباب ليكون لك كعيون؟ صحيح كان حوباب ابن البرية الذي يعرف دروبها جيدًا، ويعرف أماكن الآبار فيها؟ لكن ترى هل هو يعرف أكثر من رب البرية وخالقها؟ وهب أن حوباب سار معك، أ لا يمكن أن تنتهي حياته في أية لحظة؟ فماذا ستفعل وقتئذ؟ لقد وبخ الرب شعبه قديمًا على فم إشعياء النبي قائلاً: «من أنتِ حتى تخافي من إنسان يموت؟» ونحن هنا نقول: ”من أنتَ حتى تتكل على إنسان يموت.. وتنسى الرب صانعك باسط السماوات ومؤسس الأرض“ (إش51: 12و13). ألا يقول الرب لشعبه على لسان إشعياء: «كفوا عن الإنسان الذي في أنفه نسمة» (إش2: 22)؟

 ثم أ ليس الرب هو المفجر عيونًا في الأودية؟ أو ليس هو الذي أرشد هاجر إلى بئر الماء لما كان ولدها على وشك الموت عطشًا في البرية (تك21: 14-19)؟ فلماذا يا موسى، وأنت معك إلهك العظيم، تبدو كمن هو في احتياج إلى قيادة حوباب؟

 لقد أثبتت رحلة البرية فشل الإنسان بصفة عامة. حتى موسى نفسه لم يكتفِ بقيادة الرب الحكيمة والماهرة، ونسي ترنيمته الحلوة عند شاطئ البحر الأحمر: «ترشد برأفتك الشعب الذي فديته، تهديه بقوتك إلى مسكن قدسك» (خر15: 13). وطلب من مدياني أن يكون لهم كعيون!

 لكن بدل أن نلوم رجل الله موسى، لنفحص طرقنا ونمتحنها باتضاع أمام الرب. أ لم نطلب في مرات كثيرة حوباب المنظور، رغم علمنا أن الرب لنا. طلبنا من يكون لنا كعيون في البرية، شخص يدلنا على أماكن نزولنا!

 كم نميل إلى أن نتوكأ على ذراع البشر، وننسى الرب، الذي كل من نظر إليه استنار ووجهه لم يخجل (مز34: 5). كم من المرات - مثل الشعب قديمًا - عملنا شرين: تركنا الرب ينبوع المياه الحية، ونقرنا لأنفسنا آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماء (إر2: 13)!

 ليحمينا الرب من هذه الغلطة، ويعطينا ونحن على أعتاب عام جديد أن نتوب عنها. ونكتفي بالرب مرشدًا لنا وقائدًا لمسيرتنا.

 ولكن ما أمجد إلهنا، فعندما فشل موسى، فإن رب موسى الأمين لم يفشل، وحاشا له أن يفشل. وهذا ما يطمئن قلوبنا في رحلة البرية. فعندما فشل موسى العظيم في رعاية شعب الله، فقد قام التابوت (الذي هو رمز للمسيح، ”عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا“) بقيادة الشعب إلى مكان راحتهم، ليلتمس لهم منزلاً.

 يقول الوحي: «فَارْتَحَلُوا مِنْ جَبَلِ الرَّبِّ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَتَابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ رَاحِلٌ أَمَامَهُمْ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لِيَلتَمِسَ لهُمْ مَنْزِلاً. وَكَانَتْ سَحَابَةُ الرَّبِّ عَليْهِمْ نَهَاراً فِي ارْتِحَالِهِمْ مِنَ المَحَلةِ». 

 يحدثنا إنجيل يوحنا عن المسيح باعتباره التابوت الحقيقي، «الله (الذي) ظهر في الجسد»، «الكلمة (الذي) صار جسدًا وحل بيننا». كما نراه أيضًا في صورة أخرى باعتباره الراعي لشعبه. ولذلك فنحن نجده دائمًا يقود مسيرة شعبه. فهو كالراعي يذهب أمام الخراف وهي تتبعه، وهو كالتابوت يتقدم المسيرة والشعب يتبعه.

 المسيح إذًا هو التابوت الحقيقي، وهو الراعي الصالح العظيم. لكن كلاً من التابوت والراعي ليس فقط يقودنا في سيرنا، بل يجمعنا حوله ليريحنا في رحلتنا.

 وعن هذين الأمرين الجميلين ترد الكلمات الأخيرة في هذا الفصل، الكلمات التي قالها موسى بعد أن رُدت نفسه:

«وَعِنْدَ ارْتِحَالِ التَّابُوتِ كَانَ مُوسَى يَقُولُ: «قُمْ يَا رَبُّ فَلتَتَبَدَّدْ أَعْدَاؤُكَ وَيَهْرُبْ مُبْغِضُوكَ مِنْ أَمَامِكَ». وَعِنْدَ حُلُولِهِ كَانَ يَقُولُ: «ارْجِعْ يَا رَبُّ إِلى رَبَوَاتِ أُلُوفِ إِسْرَائِيل».

 عندما يتقدمنا التابوت، وعندما يسير الراعي أمامنا، فإننا ننشغل بقوته وهدايته. وعندما يكون التابوت في الوسط، وعندما يجمع الراعي قطيعه من حوله، فإن الفكر ينشغل بفرحه وإرشاده.

 ونحن نجد هذين الأمرين معًا في كلمات موسى السابقة: قوة الرب لحسابنا عندما يقوم، فيتبدد أعداؤه ويهرب مبغضوه، وحنان الرب ورأفته لحسابنا عندما يرجع إلى ربوات ألوف شعبه.

 ويمكن اعتبار كلام موسى هنا بمثابة صلاة الصباح والمساء. ففي الصباح كان موسى يقول: «قم يا رب فيتبدد مبغضوك» (قارن مع مزمور 68: 1)، وفي المساء كان يقول: «ارجع يا رب إلى ربوات ألوف إسرائيل» .

وما أجمل أن تكون هذه صلواتنا كل صباح ومساء. في الصباح أقول لسيدي وقائد مسيرتي: يا رب إنني في هذا النهار سأواجه الأعداء الروحيين، ولكني بدونك لا أقدر عليهم، فقم يا رب عونًا لي. وإذ أقول ذلك بالإيمان، تتبدد المشكلات وتهرب المتاعب من أمامي، طالما كان المسيح أمامي. وفي المساء أقول: ”ارجع يا رب فالألوف والربوات في انتظارك“. نعم، تعال عند المساء لتمتعنا بحضورك في وسطنا عند اجتماعاتنا إليك، ثم ارجع لتمتعنا بالحضرة البهية الأبدية عندما تأتي لتختطفنا إليك، فينتهي ليلنا إلى الأبد. هناك راحتك أنت، وسندخلها نحن معك عن قريب.

يوسف رياض