«فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ ... بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ» (رو١٢: ١)
السجود والخدمة أمران قد يظهران متعارضين، الأول يعتمد على الراحة على جلال ومحبة إلهنا القدوس الرائع، والأخرى تتركز على البشر الخطاة الغير رائعين. إننا نعرف بكل تأكيد أن الخدمة تُؤدى لله كما تشير كولوسي٣: ١٧ لكن منذ القرن الأول حاول المؤمنون الانعزال عن العالم حتى يُكرسوا أنفسهم بالكامل للعبادة، كما لو كان هذا الاختيار الأفضل على الإطلاق.
لكن مهلاً! أً لم يقل الرب يسوع ذلك لمرثا المسكينة المتعبة، بينما كانت مريم جالسة عند قدميه مكتسبة رضاه؟ هيا نقرأ لوقا ١٠: ٣٨-٤٢ لنعرف ماذا قال الرب بالضبط:
«وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. وَكَانَتْ لِهَذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ. وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ. فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي! فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَها: مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».
تعلم أن تخدم بفرح
مرثا كانت امرأة رائعة في زمانها، كان لها أخت بالغة وأخ، لكن الكتاب يُوَضِّح أنها استقبلت الرب «فِي بَيْتِهَا»، أو بمعنى آخر كانت هي صاحبة البيت. لم تفتح بابها للرب فقط، بل لتلاميذه أيضًا؛ أي على الأقل ثلاثة عشر ضيفًا! وكلمة «قَبِلَتْهُ» تُشير إلى أنها كانت سعيدة باستقباله، وسنفهم من أجزاء أخرى من كلمة الرب سوف نذكرها لاحقًا بأن كان بينهما صداقة قوية.
من المرجح أن مرثا - كامرأة شرقية كريمة ومضيافة - قد قدمت لضيوفها مشروبات ومأكولات خفيفة، ثم ذهبت إلى المطبخ تبحث عما يمكن أن تُقدمه لهؤلاء الضيوف الثلاثة عشر الذين وصلوا فجأة. ورغم فرحها باستقبال الرب وتلاميذه، إلا أن سعادتها اختفت بشكل ما وهي تطهو الطعام. ومن مطبخها الذي يشع سخونة عالية ألقت نظرة على الردهة الباردة حيث كان الرب جالسًا يُعلِّم، ومحاطًا بالنفوس الجائعة التي كانت تلتهم كل كلمة تخرج من شفتيه. التفتت مرثا فجأة ورأت كم العمل الهائل الذي ما زال بانتظارها ثم نظرت إلى مريم (يا لها من فتاة كسولة!) الجالسة عند قدمي يسوع، وانفجرت غاضبة.
اتجهت نحو الرب، وقاطعت كلامه بطريقة منفرة وغير لائقة، بل واتهمت ضيفها الكريم بعدم مراعاة شعورها وباللامبالاة. لو كان يهتم بها لأرسل مريم لتساعدها، لكن مِن الواضح أن هو وكل الباقين أرادوا أن يرهقوها بالعمل وحدها. كان هذا هو ظنها! أجاب الرب بأنها تقلق وتعول همّ أشياء كثيرة للغاية. لم ينصحها بالتوقف عن الخدمة، لكنه أخبرها بأن الحاجة إلى شيء واحد، وبأن مريم قد اختارت الاختيار السليم. اختارت مريم ما هو أهم من المعيشة الجسدية، وما سيغذي روحها، وهو لن يؤخذ منها بخلاف الأشياء الجسدية التي كانت تُقلق مرثا.
العلاقة مع الرب يسوع علاقة مكتملة، رغم أننا ممكن أن نضع الخدمة كرد فعل لإيماننا، إلا أنه لا يوجد شيء بإمكاننا عمله لتحسين وضعنا مع الرب يسوع المسيح. نحتاج لأن نغذي إيماننا، ونُطعم نفوسنا بكلمة الله. وإذا تعبنا من الخدمة فلأننا بحاجة للابتعاد عن كل شيء لنخلو بكلام الرب. إذا أردنا أن يمد إلينا الآخرون يد المساعدة فهذا لأننا نربك أنفسنا بأمور كثيرة جدًا. لا بد أن نأخذ راحة ونجلس عند قدمي الرب لفترة وندعه يهتم بمَن يخدم. بطريقة ما سيأكل الضيوف، وستستمر مدرسة الأحد، ولن تنهار اجتماعات درس الكلمة، وسيجهز أحدهم الخبز والنبيذ لمائدة الرب.
أخطأت مرثا عندما ظنت نفسها صاحبة أهم دور ولا بُدَّ من إتمامه. في الواقع الأمر لا يخص إلا الرب، وإن لم يكن هو – تبارك اسمه - هدف خدمتنا والدافع الأول لها، وسبب فرحنا بها، فعلينا التوقف فورًا. كثيرًا ما تأمرنا كلمة الله بالفرح (في٤: ٤-٧)، وإذا لم نشعر بالفرح فلا بد أن نعترف أننا لا نتبع الرب في هذه الناحية. الطاعة والخدمة مهمان جدًا لكن ما أجمل الطاعة والخدمة برضا وبفرح.
تعلم أن تسجد من قلبك:
هناك مقطع آخر يلقي الضوء على نفس الموضوع في يوحنا ١٢: ١-٨. بعد أن أقام لعازر أخو مريم ومرثا من الأموات، أقاموا وليمة عشاء لتكريم الرب. يوحنا ١٢: ٢ يذكر مرثا في كلمات بسيطة «وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ»، وهذا يلمح إلى أنها لم تترك الخدمة نهائيًا. لكن قد يأمل أحدنا أنها تكون قد تعلَّمت ترتيب أولوياتها؛ أي تخدم الرب كما تعرف، بكل فرح.
أما محبة مريم فظهرت واضحة وهي تسكب طيبها غالي الثمن على قدميه. وعندما اعترض الآخرون على إهدارها لهذا الكم من المال على الرب يسوع، أسرع هو بالدفاع عنها. وأشار أن سكبها للطيب لم يكن لمجرد شعورها بالشكر والعرفان على إعادة لعازر لها، فوقت التعبد للرب وهو في الجسد كان على وشك الانتهاء، لذا كان تصرف مريم كنبوة عن موت الرب. ربما كانت رائحة الطيب الزكية ملتصقة بقدمي الرب وهو معلق على الصليب بعدها بستة أيام. عندما احتاج جسد الرب يسوع لأن يُلف ويوضع في القبر بسرعة قبل يوم السبت كان قد دُهن بطيب مريم. رغم اعتراض الآخرين فقد سر الرب بالصورة التي تعبدت بها مريم.
يمتلئ الكتاب المقدس وكتب الترانيم بعدة صورة جسدية للعبادة، لكننا كثيرًا ما نترنم بأننا نرفع أيادينا أو بأننا ننحني أمامه، لكن نظل جالسين في أماكنا ممسكين بكتبنا، ولا نحرك شيئًا إلا شفاهنا وعيوننا. مرات كثيرة رنمت عن السجود للرب، واشتهيت وقتها أن أركع في الحال مغمورة بعظمته وعدم استحقاقي، لكني لم أفعلها خوفًا من ظن الآخرين بأني أبالغ.
أغلبنا يفهم مرثا، فإننا نحب الخدمة لأنها ضرورية وسهلة الفهم. كل واحد منا له احتياجات جسدية، لذا يُقدر الناس كثيرًا مَن ينظم الفرص الترفيهية ويخطط للمؤتمرات وينظف المكان، ويُخطط لحفلات الزفاف ويعلم في مدارس الأحد ... إلخ. بل إننا نتعاطف مع مرثا عندما تعصبت إذ رأت مريم جالسة بدون عمل شيء مفيد. كثيرًا ما نخدم لدرجة الوقوع من التعب والإرهاق ولا يفكر أحد في تقديم المساعدة أو حتى كلمات التشجيع.
تحتاج مرثا التي في داخلنا أن تتعلَّم من مريم التي خصصت وقتًا للرب. لم تهتم بما يقوله الناس عنها، ورأت أنها لا تحتاج لتقديرهم بل تقدير الرب وحده. كان كل اهتمامها مركزًا عليه لدرجة أنه هو الذي كان يرد على مشتكيها. وسكب الطيب الكثير الثمن لتكريم الرب يسوع لم يكن منطقيًا أبدًا فتصرفها هذا لا يفيد في إطعام الجياع أو إلباس المحتاج. اعترض المحيطون بها على طريقتها في إظهار محبتها وتقديرها للرب، لكنه مدحها لأنها سجدث له من كل قلبها.
كم من مرة حدد إرضاء الآخرين طريقة سجودنا وعبادتنا، وقيَّدها؟ كم مِن مرة أدنا الآخرين لأنهم لا يعبدون بطريقتنا نحن؟ لمَن تقدم العبادة ... للآخرين أم للرب؟ مَن تحاول إرضاءه ... الآخرين أم الرب؟ ألم يحن الوقت لتحول عينيك عن الآخرين واعتراضاتهم ولتبدأ تسأل إذا كان سجودك مرضيًا للرب أم لا؟
الرائحة الزكية للاثنتين:
لا أستبعد أبدًا أن مرثا كانت ساجدة في هذا اليوم ... وحدها في المطبخ. ربما كان يغمرها شعور بالفرح وهي تخبز العجين، لأنها تعرف أن يسوع سيُسر بكل الطعام. ربما تكون تَبَّلت اللحم والخضراوات بطريقة فائقة، كما فعلت مريم في غرفة الجلوس. ربما سُر الله بوجهها وهو يتصبب عرقاً كما سُر بطيب مريم. رغم أن العبادة كثيرًا ما تكون علنية أمام جميع الناس، إلا أن قد يكون لها طريقة خاصة جدًا للتعبير عن مدى محبتنا للرب.
كريستين شنايدر