فيما سبق تأملنا ”المن“ الذي أمد به الرب احتياجات شعبه الجسدية، في البرية، باعتباره رمزًا للطعام الذي وَفَّره الله بنعمة لإعاشة نفوسنا، والذي هو كلمته المباركة. لكن ”الكلمة“ تستخدم عن كل من المكتوب والرب يسوع المسيح. وكلاهما مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالآخر. «هأَنَذَا جِئْتُ» - قال المسيح - «بِدَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي» (مز٤٠: ٧)؛ وأيضًا «فَتِّشُوا الْكُتُبَ ... وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي» (يو٥: ٣٩). فتقريبًا كل ما يُذكَر في الواحد يمكن التكهن به في الآخر. لكن القيمة الأساسية للكلمة المكتوبة هي الإقرار بكمالات الكلمة المتجسد، واستحضارنا للشركة معه. ولكي نُطعّم على المسيح ذاته، علينا أن نُطعَم بحق على الكلمة المكتوبة. لذلك سنُوَجِّه اهتمامنا في هذه المقالة إلى المن في كونه رمزًا إلى شخص الرب يسوع المسيح وكمالاته.
من وراء العديد من الصور وما لا يحصى من الظلال والرموز تستطيع العين الممسوحة أن تُميِّز أمجاد ربنا المبارك. ينبغي أن نجتني قمة بهجتنا ونحن نقرأ العهد القديم في روح الصلاة، باحثين عما يرمز إليه ذاك الذي كتب عنه «موسى والأنبياء». إن كل شك ينتفي في كون المن يشير إلى الابن المتجسد من كلماته الواردة في يوحنا٦: ٣٢، ٣٣. هناك نرى الفادي يقول: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ، لأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ». يا ليت روح الله يتنازل ليفتح عيوننا العمياء بالخطية، ونحن نتوق بإخلاص أن نرى ونتمسك ”بعجائب من شريعته الكاملة“.
(١) إن مناسبة إعطاء المن مهيبة ولافتة للنظر. لقد أنعم الرب على شعب إسرائيل بعطايا ما أروعها! ولكن بمجرد وصولهم إلى ”بَرِّيَّةِ سِينٍ“ نجد أن «كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وقد تذمروا على موسى وهارون، قائلين: «لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ اللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزًا لِلشَّبَعِ. فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هذَا الْقَفْرِ لِكَيْ تُمِيتَا كُلَّ هذَا الْجُمْهُورِ بِالْجُوعِ» (ع٣). يصعب تخيل إظهارًا لعدم الإيمان، وعدم الشكر، والتمرد أكثر من ذلك. والعجب هو أن دينونة الله الملتهبة لم تلتهمهم هناك في هذا الوقت. ولكن بدلًا من سكب غضبه عليهم، تعامل الرب معهم بنعمة غنية، فأمطر لهم خبزًا من السماء.
بتطابق رائع يُصَوِّر هذا المشهد حالة العالم عندما نزل إليه رب المجد. فلمدة أربعة آلاف سنة، هطلت مراحم الرب وأعمال عنايته على البشر، مُشرقًا شمسه على الأشرار والأبرار، مُمطرًا على الصالحين والطالحين (مت٥: ٤٥). وماذا كان رد فعل الإنسان؟ «لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ» (رو١: ٢١-٢٣). لم يكن الأمر أفضل مع إسرائيل، كما يتبين لنا بالنظر إلى تاريخهم في العهد القديم. فلا عجب إذًا إن تخلَّى الله عن البشرية جمعاء! لكن كلا؛ بل بنعمة عجيبة لا مثيل لها، أرسل ابنه الحبيب إلى العالم الأثيم، وإلى الأرض التي فسدت، وكَثُر فيها شر الإنسان. ويا للرحمة! ويا للنعمة! ويا للصلاح!
(٢) إن المكان الذى نزل فيه المن لهو مميزٌ جدًا أيضًا. لقد نزل ”الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ“ أولًا في ”بَرِّيَّةِ سِينٍ“ أو ”برية الشوك“ (١٦: ١). وبالتأكيد كان من المستحيل اختيار عنوان أكثر ملائمة لوصف طابع العالم الذي نزل إليه ابن الله. وبالفعل، كان هذا العالم بالنسبة لقدوس الله هو ”بَرِّيَّة الشوك“. ”بَرِّيَّة! وما هي ”البَرِّيَّة؟ إنها مكان بلا سكن. ليس من يفكر في بناء بيتًا هناك. وكان هذا العالم بلا مأوى لابن الله. عند ولادته لم يكن له مكان في المنزل، وفي أيام خدمته العلنية، لم يكن له أين يسند رأسه، وعند موته لم يكن لجسده المصلوب إلا قبر مُستعار؛ هذا هو ملخص كل شيء. ”بَرِّيَّة الشوك“! لم يظهر هذا بأكثر وضوح إلا عندما أتى إليها الكريم المجيد الذي بلا خطية. كم فضح النور مخفيات الظلام! كم برهن قتل المُخلِّص الفريد، شر اليهود والأمم على حد سواء.
(٣) لقد ارتبط مجد الرب بنزول المن «فَحَدَثَ إِذْ كَانَ هَارُونُ يُكَلِّمُ كُلَّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمُ الْتَفَتُوا نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ، وَإِذَا مَجْدُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي السَّحَابِ» (ع١٠). بلا شك، كان هذا أمرًا لافتًا للنظر. إنها أول مرة نقرأ فيها عن ظهور ”مَجْد الرَّبِّ“؛ ليس فقط بالارتباط بإسرائيل، بل في كل الكتاب. والتطابق هنا عجيب في تفاصيل الرمز. فلم يُستعلن ”مَجْدُ الرَّبِّ“ تمامًا قبل تجسد ابن الله. لكن لما صار الكلمة الأزلي جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَ الناس، حينئذ - كما يصرّح الرسول المحبوب - «رَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقّاً» (يو١: ١٤). إن ”مَجْدِ اللهِ“ يُرى ”فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ“ (٢كو٤: ٦).
(٤) نزول المن من السماء «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ». لم يكن المن نتاج هذه الأرض. فهو لم ينمُ في البرية، ولا في مصر. لم ينتجه المجهود البشري، ولا صنعته مهارة الإنسان. بل نزل من عند الله. كان عطية من السماء نازلة إلى الأرض. فلم يكن الرب يسوع ثمرة أو نتاج هذه الأرض. كما نقرأ في أفسس ٤: ١٠ «اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ». لأن «الإِنْسَانُ الأَوَّلُ (آدَمُ) مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي (يسوع المسيح) الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ» (١كو١٥: ٤٧).
(٥) كان المن عطية مجانية من الله «فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي أَعْطَاكُمُ الرَّبُّ لِتَأْكُلُوا» (ع١٥). هذا المن بلا مقابل. لم يكن أجرًا يُكتسب، ولا جائزة تُنال، بل عطية نعمة ومحبة من الله. كان بلا ثمن ولا نقود «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو٣: ١٦). دعونا نتحد مع الرسول في القول «فَشُكْراً لِلَّهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ الَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا» (٢كو٩: ١٥).
(٦) لقد أُرسل المن لشعب إسرائيل «هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ. فَيَخْرُجُ الشَّعْبُ وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهَا» (ع٤). يتضح هنا حقيقتان: أولًا: كان المن عطية من الله لشعبه المختار، وليس سواهم. فنحن لا نقرأ أن الله أمطر منًا على مصر أو كنعان. لقد أُعطي لإسرائيل في البرية ولهم وحدهم، تمامًا كما كان خروف الفصح لهم، وليس للمصريين. وهكذا أيضًا المسيح هو عطية الله «لِلمُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (أع١٣: ٤٨). اسمع كلماته في يوحنا ١٧: ١٩ «وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي (أخصص ذَاتِي إلى الموت)». لقد بذل حياته عن ”الخراف“ لا عن الجداء (يوحنا ١٠: ١١).
لكن ثانيًا: أُرسل هذا المن لشعب محتاج وبلا طعام. فأيُ طعام أخرجه إسرائيل معه من مصر، لا بُدَّ وأن يكون قد نفذ وقتئذ. من الوجهة البشرية، يبدو أنهم كانوا في خطر داهم من الجوع حتى الموت. وما لم يُسدد الله عوزهم لهلكوا في القفر. أما من الوجهة الإلهية فكل شيء كان محسوبًا. لقد قصد الله أن يأتي بإسرائيل إلى سيناء (٣: ١٢)، ومشورته لا يمكن أن تفشل. فسدد عوز شعبه تمامًا. هكذا الآن أيضًا؛ مختاري الله هم «بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضًا» (أف٢: ٣)، بالإثم مُصوَّرين وبالخطية حُبل بهم، وبالتالي فإن نصيبهم بائس ويائس. لكن شكرًا لله الذي سدد عوزهم بالتمام. خبز الحياة هو إمدادهم كليّ الكفاية. وحتى قبل ميلاده أُعلن أن «اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (مت١: ٢١).
(٧) لقد نزل المن حيث كان الإسرائيليين بالضبط، عندما كانوا في خطر الجوع حتى الموت. لكن - كما رأينا - مدّهم الله به، مُنعمًا عليهم، ليسد عوزهم. والآن نلاحظ أنه لا حاجة لهم أن يقطعوا مسافات طويلة ليحصلوا على ما يسد جوعهم – بل نزل المن حول خيامهم.
«فَكَانَ فِي الْمَسَاءِ أَنَّ السَّلْوَى صَعِدَتْ وَغَطَّتِ الْمَحَلَّةَ. وَفِي الصَّبَاحِ كَانَ سَقِيطُ النَّدَى حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ. وَلَمَّا ارْتَفَعَ سَقِيطُ النَّدَى إِذَا عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ شَيْءٌ دَقِيقٌ مِثْلُ قُشُورٍ» (ع١٣، ١٤). هنا نلقى الضوء على الحقيقة المباركة أنه مع احتياج ضمير الخاطئ لملاقاة المخلّص، يقول الله: «لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟ أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ، أَوْ مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟ أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ. لَكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ» (رو١٠: ٦-٨). ومن هذا القرب تنبع مسؤولية الخاطئ. حول كل باب خيمة كان هناك المن، ولا بد أن يُفعل به شيء؛ إما أن يُجمع، أو أن يُداس تحت الأقدام! أيها الخاطئ، ماذا أنت فاعل بمسيح الله؟ تَذَكَّر كلماته الفاحصة: «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ» (مت١٢: ٣٠).
(يتبع)