حكيمة ومنطقية مشورة ”يُوثَامُ بْنُ يَرُبَّعْلَ“ هذه: أن الإثمار خير مِن الكرامة، وأن تكون مُسرًّا ومُلّذًا للرب، خير عن أن تكون محل تقدير عال من البشر.
كان عدلاً أن يملك ”يُوثَامُ بْنُ يَرُبَّعْلَ“ على الشعب بعد موت أبيه، كما هو الحال مع أبيمالك. ولكنه كان قد تعلَّم أنه من الأفضل أن يمكث متواضعًا مع الله، في المكان الذي رتبه له؛ تلك هي البركة الأعظم كثيرًا، عن أن يطرق طريق الكرامة لدى البشر، وفي أعينهم. إن الله يهب كرامة، ولكن ليس للذين يسعون في إثرها. إنه – تبارك اسمه – يهب كرامة وتقديرًا لهذا أو لذاك، ولكن لم يجعلوا تلكم غرضهم، بل جعلوا قلوبهم على الإثمار الذي يُمجّد الرب، ويُبهج ويُفيد شعبه. وقد تكون لـــ”أَبِيمَالِكُ بْنُ يَرُبَّعْلَ“ كرامته، ولكن ”يُوثَامُ“ يُثمِّن ويُقيِّم نصيبًا أفضل، فضلاً عن أنه كان يعيش لصالح الشعب، ليدفع عنهم الحالة المُتدنية والمُزرية، وما يتبع ذلك من نهاية أليمة لا محالة. وها هو يقف بمفرده عَلَى «رَأْسِ جَبَلِ جِرِّزِيمَ»، ويرى الأمور في ضوء حضرة الله. ودعونا نقرأ المَثَل:
«اِسْمَعُوا لِي يَا أَهْلَ شَكِيمَ يَسْمَعْ لَكُمُ اللَّهُ. مَرَّةً ذَهَبَتِ الأَشْجَارُ لِتَمْسَحَ عَلَيْهَا مَلِكًا. فَقَالَتْ لِلّزَيْتُونَةِ: امْلِكِي عَلَيْنَا. فَقَالَتْ لَهَا الّزَيْتُونَةُ: أَأَتْرُكُ دُهْنِي الَّذِي بِهِ يُكَرِّمُونَ بِيَ اللَّهَ وَالنَّاسَ، وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟ ثُمَّ قَالَتِ الأَشْجَارُ لِلتِّينَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا. فَقَالَتْ لَهَا التِّينَةُ: أَأَتْرُكُ حَلاَوَتِي وَثَمَرِي الطَّيِّبَ وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟ فَقَالَتِ الأَشْجَارُ لِلْكَرْمَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا. فَقَالَتْ لَهَا الْكَرْمَةُ: أَأَتْرُكُ مِسْطَارِي الَّذِي يُفَرِّحُ اللَّهَ وَالنَّاسَ وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟ ثُمَّ قَالَتْ جَمِيعُ الأَشْجَارِ لِلْعَوْسَجِ: تَعَالَ أَنْتَ وَامْلِكْ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْعَوْسَجُ لِلأَشْجَارِ: إِنْ كُنْتُمْ بِالْحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكًا فَتَعَالُوا وَاحْتَمُوا تَحْتَ ظِلِّي. وَإِلاَّ فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنَ الْعَوْسَجِ وَتَأْكُلَ أَرْزَ لُبْنَانَ!» (قض٩: ٨-١٥).
لقد وضعت الأشجار اختبار طلب الكرامة المُغري أمام الزيتونة: «فَقَالَتْ لِلّزَيْتُونَةِ: امْلِكِي عَلَيْنَا» (ع٨). والناس يشعرون بحاجتهم إلى حاكم، رغم أنه ليس ثمة ميل للتمرد ضد السلطة متى تثبتت، أكثر مما للقلب البشري. غير أن هذا النوع من الكرامة لم يَرُق للزيتونة، وكان جوابها الجميل: «أَأَتْرُكُ دُهْنِي الَّذِي بِهِ يُكَرِّمُونَ بِيَ اللَّهَ وَالنَّاسَ، وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟» (ع٩). ليس ثمة اعتبارات أنانية هنا؛ يكفي إكرام الله والناس. والمسيحي المُثمر - بملء إرادته – يرتضي أن يُترك في الظل. ولعل ذلك يُذكّرنا بشخص ورد ذكره في أصحاح إنكار النفس التام؛ فيلبي ٢، حيث يمدح السَيِّد نفسه خادمه وقديسه المتضع ”أَبَفْرُودِتُسَ“ (في٢: ٢٥-٣٠). ليت يكون لكل منا «هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا» (في٢: ٥).
ثم حلّت التجربة بالتينة: «قَالَتِ الأَشْجَارُ لِلتِّينَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا» (ع١٠). فأجابت التِّينَةُ: «أَأَتْرُكُ حَلاَوَتِي وَثَمَرِي الطَّيِّبَ وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟» (ع١١). لقد كان كافيًا لها أن يسعد ويتقوى الآخرون بثمرها، ولتذهب التِّينَةُ ذاتها إلى غياهب النسيان.
ثم طُلِب مِن الْكَرْمَةِ: «تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا» (ع١٢). فأجابت الْكَرْمَةُ: كلا؛ «أَأَتْرُكُ مِسْطَارِي الَّذِي يُفَرِّحُ اللَّهَ وَالنَّاسَ وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟» (ع١٣).
أما الْعَوْسَج فليس له ما يُفيد ليتركه! وسرعان ما أغوته التجربة بالكرامة الموعودة. ونحن نعرف نهايته الحزينة ... نهايته المأساوية ... وهي العاقبة المحتومة لمثل هذه البدايات؛ كل مِن الشعب والحاكم، يُهلك بعضهم بعضًا «قَالَتْ جَمِيعُ الأَشْجَارِ لِلْعَوْسَجِ: تَعَالَ أَنْتَ وَامْلِكْ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْعَوْسَجُ لِلأَشْجَارِ: إِنْ كُنْتُمْ بِالْحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً فَتَعَالُوا وَاحْتَمُوا تَحْتَ ظِلِّي. وَإِلاَّ فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنَ الْعَوْسَجِ وَتَأْكُلَ أَرْزَ لُبْنَانَ!» (ع١٤، ١٥).
ويقينًا، علينا أن نشعر أنه مِن الأفضل أن نكون مُثمرين فرحين على أن نتمجَّد أمام الآخرين. ولكن تُرى ما هو سر الإثمار؟ يُجيبنا الرب يسوع المسيح: «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ... أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هَذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا» (يو١٥: ١-٥)، «مِنْ قِبَلِي يُوجَدُ ثَمَرُكِ» (هو١٤: ٨). نحن الأغصان! هذا حقيقي! والأغصان هي التي تحمل الثمر. ويا له من امتياز عظيم! ولكن الثمر ينتج فقط عندما تسري عصارة الحياة في أغصان الشجرة بلا عائق. وليس السؤال هنا عما إذا كان المؤمن متصل بالمسيح بسكنى الروح القدس من عدمه، فهذا ينبغي أن يسبق الكل بالطبع. ولكن المحك هنا هو: هل نحن ملتصقون بالرب قلبيًا؟ هل نحن نسلك معتمدين عليه باعتبار كل ينابيعنا فيه، فنعطي المجال لتعمل نعمته في نفوسنا، مُنشئة أعمالاً صالحة فينا؟ هل تكمَّلت قوته في ضعفنا، وظهرت حياته عمليًا في أجسادنا المائتة؟ ... هذا هو الثمر!
لا شك أنه ينبغي أن يسبق ذلك قدرًا من المعرفة المسيحية لدى المؤمن، وإلا كيف أثبت ذهنيًا وعقليًا في المسيح؟ عليَّ أولاً أن أختبر عمليًا عدم نفع ذاتي وكل ما يصدر عنها «أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ» (رو٧: ١٨) وعليه فكل طاقة وحياة ينبغي أن توافيني من مصدر آخر «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل٢: ٢٠). هذا أمر حقيقي وواقعي ومبارك، وهذه الكلمات مألوفة لدينا. فالثمر إذًا هو إعادة ظهور حياة المسيح في طرقنا. وهو لا يُشير إلى موهبة بها يعظ المرء أو يخدم، قد تتوافر تلك وقد لا تتوافر. ولكن الكل ينبغي أن يُثمروا. فأنشطة الخدمة لا تخرج عن كونها أفعال وأحداث في حياتنا. والحياة نفسها عبارة عن كم لا يُحصى من الأفكار والمشاعر والكلمات والنظرات والطرق، وهذه كلها يجب أن يكون باعثها ومُحفّزها قوة المسيح، لا الجسد. ولن يتأتى ذلك إلا بحفظ أنفسنا قريبين منه، مُتكلين عليه.
يا له من امتياز أيها الأحباء! كم كان غاليًا الثمر الذي حمله الرب إبان فترة وجوده على الأرض؟ الدسم والحلاوة والفرح كانت سمات سبيله الفريد البديع. قلوب الله والناس سُرَّت به. وهذا غرض أبينا السماوي المُحب؛ أن لمحة مِن الجمال الإلهي يُعاد إظهارها في حياة أولاده. ودعونا أيضًا نذكر أنه حيثما وُضعنا فذلك لأن هذا الموضع بحاجة إلى إظهار ثمرنا، بغض النظر إذا ما كان المحيط وضيع ولا يلحظ. وحذاري أن تظن أن ثمرك يكون أوفر لو وُجِدت في مناخ مختلف. كلا! لقد عيَّن الرب نفسه لنا طرقنا. وإذا كان كل ما فعلناه أن ندع دسمه يقطر عليهم، فستُصبح أوضع السبل ساطعة منيرة، وأقل الأفعال نبيلة مُشرقة مُشرفة. فكل إظهار للمسيح، يجعل كل ما يُظهره عظيمًا، وإن كان هو ليس كذلك، في حد ذاته، ويجعل الحياة مُبهجة وعذبة ومنيرة، رغم كونها كئيبة ورتيبة ومُظلمة، فقط إذا نظرنا إلى كل أمر على اعتبار أنه وسيلة لإظهار المسيح، وتمجيد الله أبينا. ليت ربنا المُنعِم يُوقظ فينا كل شهوة حقيقية لذلك.
H. A. C.