«وَنَزَلَ بَرْزِلاَّيُ الْجِلْعَادِيُّ مِنْ رُوجَلِيمَ وَعَبَرَ الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ لِيُشَيِّعَهُ عِنْدَ الأُرْدُنِّ. وَكَانَ بَرْزِلاَّيُ قَدْ شَاخَ جِدًّا. كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَهُوَ عَالَ الْمَلِكَ عِنْدَ إِقَامَتِهِ فِي مَحَنَايِمَ لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً عَظِيمًا جِدًّا. فَقَالَ الْمَلِكُ لِبَرْزِلاَّيَ: اعْبُرْ أَنْتَ مَعِي وَأَنَا أَعُولُكَ مَعِي فِي أُورُشَلِيمَ. فَقَالَ بَرْزِلاَّيُ لِلْمَلِكِ: كَمْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي حَتَّى أَصْعَدَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَى أُورُشَلِيمَ؟ أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. هَلْ أُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالرَّدِيءِ؟ وَهَلْ يَسْتَطْعِمُ عَبْدُكَ بِمَا آكُلُ وَمَا أَشْرَبُ؟ وَهَلْ أَسْمَعُ أَيْضًا أَصْوَاتَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ؟ فَلِمَاذَا يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا ثِقْلاً عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ؟ يَعْبُرُ عَبْدُكَ قَلِيلاً الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ. وَلِمَاذَا يُكَافِئُنِي الْمَلِكُ بِهذِهِ الْمُكَافَأَةِ؟ دَعْ عَبْدَكَ يَرْجعُ فَأَمُوتَ فِي مَدِينَتِي عِنْدَ قَبْرِ أَبِي وَأُمِّي. وَهُوَذَا عَبْدُكَ كِمْهَامُ يَعْبُرُ مَعَ سَيِّدِي الْمَلِكِ، فَافْعَلْ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ. أَجَابَ الْمَلِكُ: إِنَّ كِمْهَامَ يَعْبُرُ مَعِي فَأَفْعَلُ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ، وَكُلُّ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنِّي أَفْعَلُهُ لَكَ. فَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ الأُرْدُنَّ، وَالْمَلِكُ عَبَرَ. وَقَبَّلَ الْمَلِكُ بَرْزِلاَّيَ وَبَارَكَهُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ. وَعَبَرَ الْمَلِكُ إِلَى الْجِلْجَالِ، وَعَبَرَ كِمْهَامُ مَعَهُ، وَكُلُّ شَعْبِ يَهُوذَا عَبَّرُوا الْمَلِكَ، وَكَذلِكَ نِصْفُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ» (٢صم١٩: ٣١-٤٠).
الشركة مع المسيح هي رغبة سيدنا في ضوء مجيئه ثانية، وهذا ما ظهر في رغبة داود من جهة “بَرْزِلاَّي الْجِلْعَادِيّ”. كان “بَرْزِلاَّيُ” قد خدم الملك في يوم رفضه (٢صم١٧: ٢٧-٢٩؛ ١٩: ٣٢)، والآن تأتي نهاية يوم الرفض هذا، فيدعوه داود ليشاركه بيته في أورشليم «فَقَالَ الْمَلِكُ لِبَرْزِلاَّيَ: اعْبُرْ أَنْتَ مَعِي وَأَنَا أَعُولُكَ مَعِي فِي أُورُشَلِيمَ» (ع٣٣). لكن برزلاي لم يكن مستعدًا لهذه الرحلة، وكان لديه سبعة حجج تبدو منطقية جدًا، ساقها كي لا يعبر الأردن ليقيم مع الملك!
ليس هناك من شك في أن رغبة ربنا العظيمة هي أن نعرف ما يجب أن نكون عليه كي نتمتع بما ذخره لنا على الجانب الآخر من الأردن. بالنسبة لنا إنها مسيرة أدبية ربما لا نكون مستعدين لأن نقطعها، وربما تشرح حجج برزلاي السبعة لماذا نفشل نحن كثيرًا في أن نستجيب رغبة الرب لأن نأكل معه في أورشليم؛ أورشليم الروحية والتي كُشفت لنا في رسالة أفسس، حيث نجد نورًا كاملاً لمشورات الله وغنى الميراث الذي لنا في المسيح.
من الحكمة أن نقول في يومنا هذا أن البعض فقط له فكر سماوي خالص، حتى إنهم لا يجيدون فهم أمور الأرض. لكنني على قناعة أن رغبة قلب المسيح العظيمة للقديسين هي أن نشاركه في الوقت الحالي في المشهد الذي دخل هو إليه، حيث كل ما صار لنا. فهو الناصري السَّماوي، ومقياس انفصاله هو ذاته مقياسنا.
دعونا نستعرض حجج برزلاي التي تعلل بها كي لا “يصْعَد” مع الملك إلى أورشليم:
هي سِنّه «فَقَالَ بَرْزِلاَّيُ لِلْمَلِكِ: كَمْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي حَتَّى أَصْعَدَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَى أُورُشَلِيمَ؟ أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً» (ع٣٤، ٣٥). في حين لم يتحجج كالب بهذه الحجة، ولا موسى الذي لم تكلّ عينه ولا ذهبت نضارته. إن خريف الحياة يمكن أن يكون ألمعها، مثل فاكهة الخريف عندما تنضج، فأعظم دلائل عمل روح الله داخلنا تظهر في نضوجنا.
«هَلْ أُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالرَّدِيءِ؟» (ع٣٥). لقد فقد التمييز. الرسول بولس في عبرانيين ٥ يعقد مقارنة بين الأطفال والبالغين، ويقول إن الأطفال لا يستطيعون التمييز بين الخير والشر. فالنضوج الروحي يتبرهن بالتمييز الروحي.
يقول برزلاي: «وَهَلْ يَسْتَطْعِمُ عَبْدُكَ بِمَا آكُلُ وَمَا أَشْرَبُ؟» (ع٣٥). لقد فقد الشهية. فمائدة داود لم تعد شهية بالنسبة له، بينما هي أطايب الملك لهؤلاء الذين يأكلون على مائدة داود. الرسول بولس يخبرنا «وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ» (عب٥: ١٤). ليت المنّ لا يفقد حلاوته في أفواهنا أبدًا؟
«وَهَلْ أَسْمَعُ أَيْضًا أَصْوَاتَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ؟» (ع٣٥). لقد فقدت أذنه استماع الموسيقى. فحيث يسكن داود هناك صوت تسبيح، وهذا نفسه ما يحدث في وسط الكنيسة إذ يرفع المسيح تسبيحًا لإلهنا. نحن نشترك في التسبيح الذي يقوده، ونرفع لله تسبيحنا الذي يقربه هو. إن أحلى ترنيمة سوف تسمعها الخليقة على الإطلاق هي الترنيمة التي سوف يترنم هو بها وسط إخوته؛ فالتسبيح يبدأ في الأرض، وفي السماء يكون أعلى وأروع. ليت آذاننا الموسيقية لا تفقد حساسيتها لأنغام الموسيقى السماوية أبدًا.
«فَلِمَاذَا يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا ثِقْلاً عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ؟» (ع٣٥). لا يوجد شخص نحبه ويكون ثقلاً علينا، بل إن سرورنا يكمن في خدمته. هل فكّرت في أننا يمكن أن نكون ثقلاً على قلب المسيح! “يا تُرَى أيُّ صَديقٍ مثلُ فادينا الحبيبْ، يَحمِل الأثقالَ عَنَّا وكذا الهَمَّ المُذيبْ”. يا لها من راحة أن نُحضر كل شيء إليه بالصلاة، ونحن نعلم أنه يحمل عنا كل ثقل، بل ويحملنا نحن أيضًا.
«يَعْبُرُ عَبْدُكَ قَلِيلاً الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ. وَلِمَاذَا يُكَافِئُنِي الْمَلِكُ بِهذِهِ الْمُكَافَأَةِ؟» (ع٣٦). لا يوجد قديس لله على الأرض لم يعبر قليلاً، لكن مليكنا يرغب في أن نذهب معه كل الطريق.
«دَعْ عَبْدَكَ يَرْجِعُ فَأَمُوتَ فِي مَدِينَتِي عِنْدَ قَبْرِ أَبِي وَأُمِّي» (ع٣٧). كان لدى برزلاي روابط تربطه بالماضي. وهو لم يكن ينوي أن يقطعها من أجل حياة مع الملك في أورشليم. ربما يمكننا أن نفهمه، ونعرف كرمه بأنه يدع “كِمْهَام” يتمتع بما رفضه هو «هُوَذَا عَبْدُكَ كِمْهَامُ يَعْبُرُ مَعَ سَيِّدِي الْمَلِكِ، فَافْعَلْ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ». ولكن ماذا عن الذين كانوا قد ماتوا عن هذا العالم، الذين أصبحت جنسيتهم في السماء؟ هل ما يحكمنا هو الطبيعي أم الروحي؟ هل تعيقنا أمور العالم، أو تسرق منا الروابط الطبيعية في الجسد، نصيبنا السماوي مع المسيح؟
«مَدِينَتِي ... أَبِي وَأُمِّي» كان لهم أولوية عن دعوة داود «اعْبُرْ أَنْتَ مَعِي وَأَنَا أَعُولُكَ مَعِي فِي أُورُشَلِيمَ». «وَأَمَّا رِجَالُ يَهُوذَا فَلاَزَمُوا مَلِكَهُمْ مِنَ الأُرْدُنِّ إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَجَاءَ دَاوُدُ إِلَى بَيْتِهِ فِي أُورُشَلِيمَ» (٢صم٢٠: ٢، ٣). إن الشركة مع المسيح تتطلب الانفصال عن المشهد الذي يكون فيه هو الشخص المرفوض.