داود ومفيبوشثتُعد قصة داود وشث من أجمل قصص الكتاب المقدس، فهي تكشف لنا كيف كان داود فعلاً رجلاً بحسب قلب الله. ويعرض لنا الأصحاح التاسع من صموئيل الثاني الإنجيل بطريقة رائعة، إذ يُظهر لنا جانب النعمة في شخصية داود.
مفيبوشث
حفيد شاول الملك
كان مفيبوشث في الخامسة من عمره عندما جاءت الأخبار بمقتل أبيه يوناثان وجِدِّه شاول - مَن كان يعادي داود بشدة - على أيدي الفلسطينيين (1صم31: 2).
ووفقًا لتقليد ذلك العهد، كان من الطبيعي لداود، باعتباره الملك الجديد، أن يُبيد كل من نافسه على العرش. فكان في قتل مفيبوشث أمان لداود، إذ قد يطالب مفيبوشث بالعرش في أي وقت نظرًا لنسبه الملكي. ولكي تحميه مربيته من القتل، أخذته وهربت به. ولكن أثناء الهرب وقع، وصار أعرج من رجليه كلتيهما (2صم4: 4؛ 9: 13).
مفيبوشث
صورة للخاطئ
تُصوِّر لنا حياة مفيبوشث حالة الخاطئ من سبع زوايا:
1- كان أعرج وعاجزًا، تمامًا مثل الطفل الكسيح الذي لا يستطيع المشي مع أبويه. كذلك الخاطئ لا يستطيع أن يسير مع الله. فبالطبيعة كل البشرية مصابة بالعرج الروحي في نظر الله، ولذا كثيرًا ما يؤكد الكتاب على العجز الروحي للإنسان الساقط. فيقول يشوع لشعب الله المختار: «لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْبُدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ إِلَهٌ قُدُّوسٌ» (يش24: 19). ويقول الرسول بولس: «الَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ» (رو8: 8). فالخاطئ في منتهى الضعف (رو5: 6)، ولا يستطيع أن يشارك بأي شيء في أمر خلاصه.
2- لأن مفيبوشث كان أعرج، كان يجب أن يُحمَل لحضرة الملك. وكذلك الخاطئ لا يمكنه أن يدرك الخلاص معتمدًا على قوته الشخصية «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو6: 44).
3- أصبح مفيبوشث أعرجَ بسبب سقطة (2صم4: 4). هنا نرى الدقة الإلهية للكتاب. فالإنسان في البداية قيل عنه إنه «حَسَنٌ جِدًّا» (تك1: 31)، ولكن الخطية هي التي أصابته بالعجز الروحي. فعندما عصى آدم الله وأكل من الشجرة التي أوصاه ألا يأكل منها، سقط هو وكل النسل البشري معه (رو5: 12- 19).
4- كلمة “مفيبوشث” تعني “ينفث عارًا”، فعندما سمع من داود عن الإحسان الذي أُعِد له، اعترف مفيبوشث بفمه بخزيه وتفاهته قائلاً: «مَنْ هُوَ عَبْدُكَ حَتَّى تَلْتَفِتَ إِلَى كَلْبٍ مَيِّتٍ مِثْلِي؟» (2صم9: 8). والتعبير “ينفث عارًا” يصف بدقة الجنس البشري الساقط. انظر وصف الكتاب لنا: «وَقَدْ صِرْنَا كُلُّنَا كَنَجِسٍ، وَكَثَوْبِ عِدَّةٍ كُلُّ أَعْمَالِ بِرِّنَا» (إش64: 6). فالإنسان فاسد حتى النخاع بالميلاد وبالأفعال «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ ... لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ ... لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رو3: 10- 12).
5- كون مفيبوشث من نسل شاول، كان من المفروض أن يكون في عداد الموتى؛ طبقًا لنظام تلك الأيام، وكان لداود عُذره في هذا الأمر، حتى لا يُطالب أحد من نسل شاول بالمُلك ويهدد حياة داود. وهنا نرى صورة للبشر الذين بالطبيعة «أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا» (أف2: 1).
6- كان مفيبوشث هاربًا من وجه داود. فكان هو ومربيته في منتهى القلق، وحاولا بكل جهدهما أن يتجنبا طريق داود حتى لا يقتله. وكذلك أيضًا الأمر مع الخطاة، فهم خائفون من الله، ويحاولون الابتعاد عنه (مز51).
7- كان مفيبوشث يسكن في “لودبار” (2صم9: 4)، والتي تعني “أرضًا بلا مرعى”، وكم يمثل هذا العالم الذي لا يقدم أي طعام للنفس البشرية. إنه العالم الذي لا يعرف خبز الحياة. فبعدما ترك الابن الضال بيت أبيه، قال «أَنَا أَهْلِكُ جُوعًا!» (لو15: 17). فلا يوجد طعام في العالم سوى خرنوب الخنازير (لو15: 16).
داود
صورة للمسيح
إذا كنا نرى في مفيبوشث صورة للخاطئ، يمكننا أن نرى في داود صورة للمسيح، ابن داود (مت1: 1). لنمر الأن على سبع مشابهات بين داود والمسيح.
1- «وَقَالَ دَاوُدُ: هَلْ يُوجَدُ بَعْدُ أَحَدٌ قَدْ بَقِيَ مِنْ بَيْتِ شَاوُلَ، فَأَصْنَعَ مَعَهُ مَعْرُوفًا مِنْ أَجْلِ يُونَاثَانَ؟» (2صم9: 1)، وفي الوقت الحاضر يقول الله: “هل بقى أحد من نسل آدم، فأصنع معه معروفًا من أجل المسيح؟”، فداود وصل باللطف والإحسان لمفيبوشث من أجل خاطر يوناثان الذي أحبه والذي قطع معه عهدًا. وهكذا ينقذ الله المساكين والخطاة العرج من أجل خاطر المسيح، فنقرأ عن شعب الله، أنه «خَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (مز106: 8). ونقرأ أيضًا في العهد الجديد «سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ*»(أف4: 32).
2- «فَقَالَ الْمَلِكُ: أَلاَ يُوجَدُ بَعْدُ أَحَدٌ لِبَيْتِ شَاوُلَ فَأَصْنَعَ مَعَهُ إِحْسَانَ اللَّهِ؟» (2صم9: 3). أراد داود أن يُظهر “إحسان الله”. كتب بولس عن «لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ» (تي3: 4). فالله يقدم في المسيح إحسانًا عظيمًا للإنسان الخاطئ.
3- «فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَأَخَذَهُ ... مِنْ لُودَبَارَ» (2صم9: 5). فالخاطئ لا يبحث عن الله، بل الله هو الذي يبحث عنه. ويا له من تصريح رائع من الله «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي» (إش65: 1). كما قال المخلص: «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ» (يو6: 44). الروح القدس هو الذي يُقنع الخاطئ بخطاياه، فيذيب قلبه المتقسي، ويفتح بصيرته، حتى يمنحه في النهاية الإيمان. شكرًا لله لاجتذابه للخطاة حتى يتعرفوا بالفادي ويتمتعوا بالخلاص.
4- «فَقَالَ دَاوُدُ: يَا مَفِيبُوشَثُ» (2صم9: 6). عندما تقابل داود ومفيبوشث لأول مرة، كان داود هو من بدأ الحديث. وهذا يصور لنا كيف يأخذ الله المبادرة دائمًا في أمر الخلاص. لقد خاطب داود هذا الأعرج المسكين بكل عطف وود. وهذا يذكرنا بالراعي الصالح الذي «يَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ» (يو10: 3). لقد نادى الرب يسوع على زكا باسمه (لو19: 5)، ومريم المجدلية باسمها (يو20: 16)، وشاول الطرسوسي باسمه (أع9: 4). وكم هو رائع أن المسيح يعرف كل واحد فينا باسمه.
5- كانت الكلمة الثانية التي نطق بها داود أكثر جمالاً: «لاَ تَخَفْ» (2صم9: 7). وهذا التعبير كثيرًا ما يتكرر في كلمة الله. فاستخدمه الله عندما تكلم مع كلٍّ من: أبرام (تك15: 1)، وإسحق (تك26: 24)، ويعقوب (تك46: 3)، ويشوع (يش8: 1)، وكذلك استخدمه الرب يسوع مع تلاميذه المكتئبين (لو12: 32)، وعندما تكلم – كالمخلص المقام - مع يوحنا الذي سقط عند قدميه كميت (رؤ1: 17). بنفس هذا التعبير طمأن داود مفيبوشث. واستكمل داود قائلاً: «فَإِنِّي لَأَعْمَلَنَّ مَعَكَ مَعْرُوفًا مِنْ أَجْلِ يُونَاثَانَ أَبِيكَ» (2صم9: 7). لم يكن هناك من أجبر داود على فعل هذا، ولكنه تكلم بكرم، كما يليق بملك.
6- لم يكتف داود بما قاله من كلمات سابقة بل استطرد قائلاً: «وَأَرُدُّ لَكَ كُلَّ حُقُولِ شَاوُلَ أَبِيكَ» (2صم9: 7). علاوة على ذلك، قال داود لصيبا، عبد شاول: «كُلُّ مَا كَانَ لِشَاوُلَ وَلِكُلِّ بَيْتِهِ قَدْ دَفَعْتُهُ لاِبْنِ سَيِّدِكَ» (2صم9: 9). فلم يكتف داود بمنح الحياة لمفيبوشث، والذي كان في حكم الموت، بل أعطاه أيضًا ميراثه المفقود. ومرة أخرى نرى داود رمزًا لمن «فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا (ميراثًا)» (أف1: 11). فهذه الصورة التي نراها هنا لا يمكن أن تكون رُسمت بيد فنان بشري.
7- بالإضافة لكل ما سبق، وهب داود مفيبوشث وضعًا مكرمًا عندما قال «أَنْتَ تَأْكُلُ خُبْزًا عَلَى مَائِدَتِي دَائِمًا ... كَوَاحِدٍ مِنْ بَنِي الْمَلِكِ» (2صم9: 7، 11). عندما اكتشف الابن الضال أنه “محتاج”، وأنه على وشك أن “يهلِك جُوعًا” عاد إلى بيت أبيه حيث وجد “العِجْل المُسَمَّن” (لو15: 14، 17، 23). وهذا يرينا كرم وصلاح الله عندما يُغدق على الخطاة المُفلسين بغنى نعمته الفائق (أف2: 7). فالله في صلاحه عندما يُعطي، فهو يُعطي أفضل ما عنده، وليس أقل من إعطائنا أفضل ما عنده، يُمكن أن يُشبع قلبًا تعوَّد أن يُعطي «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ» (يع1: 17). فلم يأكل مفيبوشث على مائدة داود باعتباره ضيفًا أو غريبًا، بل باعتباره واحدًا من العائلة الملكية. وهذا هو أيضًا مقامنا «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ!» (1يو3: 1). فما ربحه مفيبوشث كان أكثر مما خسره. وما ربحناه نحن في المسيح أكثر بكثير مما خسرناه في آدم.
وعندما نفكر فيما قاله داود وفعله مع مفيبوشث، نرى إحسانًا وعطفًا بلا أي استحقاق، يذكرنا بعطف وإحسان «إِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ» (1بط5: 10). ويا لها من كلمات نعمة خرجت من شفتي داود «إِنِّي لَأَعْمَلَنَّ مَعَكَ مَعْرُوفًا» (2صم9: 7). وهنا نرى تصويرًا لمعروف الله تجاه الخاطئ المسكين والمحتاج، فلقد رُفع من وضعه الوضيع ليأخذ مكانًا على مائدة الملك كأحد أبنائه. إنه لطف الله كما نراه في إنجيل ابنه ربنا يسوع المسيح. فلقد نشلنا من عارنا وجعلنا أبناءه.
ويُعتبَر إكرام داود لمفيبوشث، تصويرًا رائعًا “للغنى الفائق” الذي منحته النعمة الإلهية لهؤلاء الذين بوركوا «بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ» (أف1: 3). فيمكننا تعريف النعمة على أنها “إحسان الله لمن لا يستحق، كما يُرى في منحه البركات الأبدية لمن يستحقون الجحيم”. ولقد رفض داود أن يُهلك مفيبوشث عندما كان في مقدوره ذلك، وهذا يوضح نعمة الله المتفاضلة لمَن أخطأوا واستحقوا الدينونة الرهيبة التي هي في مقدور الله «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رو6: 23).
عزيزي: هل تمتعت بالحياة الأبدية التي يستطيع المسيح وحده أن يمنحها للخطاة؟ هل فتحت قلبك لتقبل المسيح ربًا ومخلصًا شخصيًا لك؟ إذا لم تكن، أصلي أن تؤمن في هذه اللحظة بالمسيح، قبل أن ينتهي زمان النعمة.
صيبا
كذاب ومخادع
في 2صموئيل 16: 1-4، نرى أنه عندما هرب داود من ثورة ابنه أبشالوم، أحضر صيبا (عبد مفيبوشث) طعامًا لغلمان داود. وعندما سأل داود عن مفيبوشث، «قَالَ صِيبَا لِلْمَلِكِ: هُوَذَا هُوَ مُقِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَرُدُّ لِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مَمْلَكَةَ أَبِي» (2صم16: 4)، وكانت هذه كذبة من صيبا الذي أراد أن يضع مفيبوشث في صورة سيئة، كيما تتاح له الفرصة ليأخذ شيئًا من ممتلكات مفيبوشث. وإذ لم يفحص داود الحقائق، صدق صيبا، وبتسرع أعطى كل ممتلكات مفيبوشث لهذا العبد.
في 2صموئيل 19: 24- 30 نرى أن مفيبوشث رفض أن ينضم لجانب أبشالوم وظل أمينًا لداود. وخرج للقاء داود وهو ولم يعتن برجليه ولا بلحيته ولا غسل ثيابه من اليوم الذي ذهب فيه الملك، وأثناء هذه الحرب الأهلية، ظل مفيبوشث صائمًا ومصليًا من أجل ملكه. وعرف مفيبوشث أن عبده خدعه ووشى به (2صم19: 26- 28).
عندما قال داود لمفيبوشث وصيبا أن يقتسما الحقل، جاء جواب مفيبوشث في منتهى الإخلاص والنبل «فَلْيَأْخُذِ الْكُلَّ أَيْضًا، بَعْدَ أَنْ جَاءَ سَيِّدِي الْمَلِكُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِهِ» (2صم19: 30). وهذا يُرينا فرحة مفيبوشث الكبيرة برجوع الملك بسلام واستعادته للعرش.
فيمكننا أن نرى في قصة داود ومفيبوشث نموذجًا لـ «بِشَارَةِ (إنجيل) نِعْمَةِ اللهِ» (أع20: 24)، و«إِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ» (1بط5: 10). إنها ترينا كيف كان داود بحق عظيمًا، ورجلاً بحسب قلب الله.
موريس بسالي
العدد القادم: داود وأبشالوم