أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2010
خزافو الملك
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

أخ4: 23)في قوائم الأسماء المُجرَّدة الجافة التي تكثر في سفري الأخبار، نمر بين الحين والآخر على مواضع شيقة، هي بمثابة واحات في الصحراء، ولا تحتاج سوى إلى التأمل فيها بمشاعر فياضة للحصول على جزيل الفوائد منهافهنا على سبيل المثال توجد لمحة صغيرة جديرة بالتأمل، وهي مُخفاة بين قوائم سلسلة نسب جافة؛ فمن بين سلسلة أنساب سبط يهوذا، نقرأ عن طائفة متوارثة من الخزافين الذين عاشوا فينتاعيم وجديرة، أو بينالزراعات والسياجات، ووُصفوا أيضًا بأنهم «أَقَامُوا هُنَاكَ مَعَ الْمَلِكِ لِشُغْلِهِ»، الأمر الذي لا يعني غير سكناهم في العقارات الملكية، لأن الملك ذاته كان مُستقرًا في أورشليم، إلا أنه امتلك تخومًا وممتلكات واسعة في أرض يهوذا، استقر على البعض منها فنانو صناعة الخزف الذين تبعوا دعوتهم، وبقوا في العقارات الملكية، في غاية الراحة، دون الاحتياج إلى فلاحة الأرض، لكنهم أُطعموا واُعتُنيَّ بهم، حتى يتسنى لهم أن يُشكلّوا بحرية قوالب الطين العادي، ليصنعوا منه أشكالاً جمالية وآنية ... نافعة لِلسَّيِّدِ” (2تي2: 21).

وبكل تأكيد هناك معانٍ في التصريح المختصر في تلك العبارة لم تخطر على بال كاتبها، كما أننا نجد في وصف أولئك الصناع المنسيين رمزًا لعلاقاتنا المسيحية بربنا، ولهدف حياتنا.

1- نحن أيضًا نُقيم مع الملك

كان المَلك الجالس على عرش داود يُقيم في أورشليم، وكان الخزافون وسط الزراعات والسياجات، أو بمعنى واقعيأقاموا مع الملكبالرغم من احتمال كون البعض منهم لم ير وجه الملك قط، ولا وطأت أقدامهم شوارع المدينة المقدسة أورشليمربما أتى الملك ليزورهم بين الحين والآخر في مقاطعات مُلكه الممتد، لكنهم كانوا دائمًا جزءًا لا يتجزأ من أهل بيتهأولم نسمع نحن - خُدَّام الرب يسوع المسيحأيضًا، كلماته الوداعية المملوءة نعمة: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ»؟ (مت28: 20). حقًا نحن لسنا بجانبه في المدينة العظيمة لكنه بجانبنا في امتداد سلطانه، ويمكننا أن نكون معه في مجده حتى وإن كنا لم نزل نعيش خارجًا وسطزراعات وسياجاتهذه الحياة، لكننا نقيم في الروح، بالإيمان والرجاء، مع ربنا الذي قام وصعدفإذا ماأقمنا مع الملكسيُقيم معنا، ويملأ مساكننا المتواضعة بنور حضرته المجيد. فأن يكون معنا الآن لهو تنازل عظيم، وأن نصير معه فهذا هو كمال الرفعةإلى أي حد يتنازل! وإلى أيَّة درجة نرتقي!

إن نضارة حياتنا المسيحية تعتمد أساسًا على مدى إدراكنا الواعي لشركتنا مع الرب يسوع المسيح وإحساسنا بوجوده الحقيقي معناوكم ستخف أعباء الحياة لو واجهناها في قوة قرب ربنا الملموس منا! كم سيكون من المستحيل أن نشعر بوحشة الوحدة إذا ما شعرنا بحضوره غير المرئي، ولكنه الحضور الحقيقي والمؤكَّد فعلاً، الذي يشملنا جميعًا! وليس سوى سُبات إيماننا هو ما يجعل للإغراءات الأرضية بريقًا، أو يسمح للشر أن يُخيفنا.

ومما لا شك فيه، وما يثير إدراكنا الواعي، أن سُكنانا مع المسيح درع منيع يُتلف حدّ كل السهام المُلتهبة المُصوَّبة نحو مَنْ يرتديه، ويحفظ صدره بلا جراح في المعركةإن العالم لا يملك أصواتًا تعلو على تلك الهمسة الملكيَّة الخافتة: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ»، وحين يأتي المنتهى سنكون أيضًا معه.

لكننا نجد في هذه الملحوظة إشارة تقودنا في اتجاه آخرلقد «أَقَامُوا هُنَاكَ مَعَ الْمَلِكِ»، بمعنى أنهم وجدوا المأوى والرعاية على أراضيه، وبالمثل فإن المفهوم الصحيح للحياة المسيحية هو أن كل منا هوغريب ونزيل، سائحٌ مع المسيح في هذا العالم، مستقرُ على تخمه، وهو يرعاه من جهة تسديد كل احتياجاته، فنحن لا نملك شيئًا، بل الكل مِلكٌ له، ومُعطىَ لنا بالنعمة ليُستخدم مِن أجله، لأن العبد لا يملك شيئًاإن رقعة الأرض يزرعها العبد لقوته، ولكن كل ما ينمو عليها هو لمولاهوهؤلاء الفعلة لم يكونوا عبيدًا، ولكنهم أيضًا لم يكونوا مُلاكًاونحن بالمثل نحتفظ بما لا نملك، والكل هو ملك المالك الحقيقي، ملك الدهور الذي لا يفنى ولا يُرى. فإن قدَّرنا مركزنا حق قدره كساكني أراضي الملك، سيختفي وهم الملكية الذي يُداعبنا، وسنشعر بحجم مسؤوليتنا بجدية أكثر، وفي الوقت نفسه سترتخي قبضة القلق التي كثيرًا ما تتحكم فيناإننا مؤتمنون في الوقت الحاضر على قطعة أرض صغيرة من الممتلكات الملكية، فدعونا لا نزهو ونتصرف كما لو كنا مُلاكًا لها، كما علينا ألا نظل خائفين لئلا نجد ما يسد عوزنا.

أحيانًا نمر في قرية نموذجية بالقرب من بوابة أحد قصور الأمراء، ونلاحظ كيف تحمل كرامة تابعي الملك، ولها سمات الاهتمام الرفيع المستوى من الراحة والجمالربما نكون متأكدين من جودة سكن الخزافين وحسن رعايتهم، وأن الاهتمام باحتياجاتهم الشخصية انتقل مِن على كاهلهم إلى الملك، هكذا يجب أن تنتقل عنا اهتماماتنا، فهو لن يدع خدامه يتضورون جوعًا، وعليهم ألا يُهينوه ويرتبكوا بقلقهم وهمومهم، التي تكون منطقية فقط في حالة غياب المسؤول عنهملقد قال: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي» (مت11: 27)، وهو يعطينا كل ما أعطاه الله.

2- ونحن أيضًا نُقيم مع الملك لشغله

لم يكن على خزافي الملك أن يفلحوا الأرض، ولا أن يقوموا بأي عمل سوى تشكيل الطين إلى أوانٍ نافعة للاستخدام والجمال، ومن أجل هذا الغرض خُصصت لهم أماكن للسكنى وقطع الأراضيوهكذا الحال معنا نحن أيضًا؛ فالمسيح له غرض من إعالتنا، وحيث إن حياتنا قد استقرت في تخومه، فإننا نستمتع بوجوده وبتكفّله بنا، حتى نُعتق من اهتماماتنا القلقة وهمومنا الأليمة، ونستطيع أن نُخضع ذواتنا - بقلوب متحررة وفرحة، لخدمته المبهجةويجب أن يكون ناموس حياتنا لا أن نرضي أنفسنا، أو نستشير إرادتنا الذاتية في اختيار مهامنا، ولا أن نسعى وراء تتميم مكاسبنا أو مآربنا الخاصة، بل دائمًا نسأله: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟»، وعندما يأتي الجوابوهو يأتي واضحًا إلى جميع الذين يسألون برغبة حقيقية أن يتعلموا، وبميل صادق إلى فعل إرادته - علينا أن نحقق القول: «أَسْرَعْتُ وَلَمْ أَتَوَانَ لِحِفْظِ وَصَايَاكَ» (مز119: 60). إن الروح الذى يجب أن يحرك حياتنا العملية مشروح لنا بوضوح كافٍ في تلك العبارة الصغيرة «أَقَامُوا هُنَاكَ مَعَ الْمَلِكِ لِشُغْلِهِ».

وعلينا ألا ننسى ذلك المعنى العميق جدًا وهو أن الإقامة مع الملك لا بد أن تسبق تتميم شغله. وما لم نحيا باستمرار في شركة حقيقية مع المسيح، فلن تُفتح آذاننا لنعرف ماذا يريد منا أن نفعل، ولن يمكننا أن نكون مركزين على مهامنا التي حددها لنا الرب يسوع المسيحإن مصدر الحياة النبيلة هو الشركة مع المُثل النبيلة، وتبعية المسيح تُمكننا من حياة الطاعة للمسيحإن الأوقات المُعطاة للصمت وللتأمل الهادئ في تلك الرابطة الحلوة المقدسة التي تربط النفس المؤمنة بالرب الفادي، ليست أوقاتًا ضائعة بالمقارنة بالعمل النشط من أجل المسيح، حيث إن الحياة المتأملة والحياة العملية ليستا متضادتين بل متكاملتينوبالرغم من كون مريم ومرثا أختين إلا أنهما أحيانًا تكونان مختلفتين، ويحاول الحمقى أن يجعلانهما ضدًا لبعضهما البعض.

لكن علينا أن نحذر من سوء الفهم العام لطبيعة شغل الملكفخزافو الملك لم يصنعوا قطعًا جمالية فحسب، بل أيضًا آنية عادية جدًا، مُصمَّمة لبعض الاستخدامات العادية بل والدنيئةفاحتوت أفرانهم أحيانًا علىأوانٍ لِلْهَوَانِلتجففها، كما على أوانٍنَافِعة لِلسَّيِّدِ”. وهناك تحديد معتاد ومُحزن لمعنىالعمل المسيحييختصره البعض بأشكال تقليدية محددة من الخدمة، مما قد يُحدث أضرارًا كبيرة بهاإن شغل الملك مجاله أوسع بكثير من مجرد التدريس في مدارس الأحد أو زيارة المرضى أو القيام بأي أعمال مشابهة، والتي عادة ما تُسمى بأسماء معروفة، وتغطي كل المهمات العادية للحياةإن بعض الخدمات المُنتقاة ذات الاسم قد لا تزيد عن مجرد كونها بطاقات دينية ضحلة، أما المفهوم الصحيح القوي للخدمة فيمتد بالمجال إلى كل شيءفخدمة المسيح ليست فقط في الوقت الذي فيه نتكلَّم عنه، ونحاول فيه أن نُعرّف أحدهم به، لكن يُمكننا أن نخدمه بذات القدر في كل شيءإن الفرق بين شغل الملك، وبين عمل الخزافين المساكين لذواتهم، ليس كبيرًا في طبيعته، بل في دافعهومهما عملنا من أجل المسيح، يجب أن يكون له هو، أما إذا كانت الذات هي الدافع أو الغرض فلا بد أن يطيح ذلك بأية خدمة خارج نطاقها الصحيح.

وعلينا أن نقدس أعمالنا بأن نستمد الدافع لها من الملك، وأن نضع أثمارها عند قدميهبهذه الطريقة فقط ستتقدس أكثر الأعمال الدنيوية العادية، وستتسع آفاق حياتنا الضيقة لتحتوي حضور المسيح.

وهناك دوافع تابعة، ربما تختلط شرعيًا بالدافع الأسمى، والخزافون بها يُحفَّزون ليجتهدوا بأقصى ما لديهم من مهارة وطاقة، وذلك عندما يتفكرون في عظمة أجرهم عن عملهمونحن لدينا أسباب كافية لأن نهب ذواتنا بجملتها للمسيح، عندما نتفكر في تقديم ذاته لنا، وفي أجرته التي عيّنها لنا مقدمًا، وفى حضوره المبهج الذي يُمتعنا به، وفي عينيه اللتين علينا دائمًا، معاينًا لطهارة دوافعنا ومثابرتنا.

وهناك فكرة أخيرة تُحفزنا أن نضع كل مهاراتنا ومجهوداتنا في عملنا، وهي أن عمل الخزافين سيُحمَّل إلى أورشليم ليكون مع الملك، وهو سيراهلذلك دعونا نبذل فيه كل ما في وسعناونحن أيضًا سنراه عندما ندخلمدينة الملك العظيم”.

هناك أوانٍ ربما شكّلتها أيدي هؤلاء الخزافين الذين كنا نتحدث عنهم من بين ما قد اُستُخرج مع التنقيب عن الآثار في فلسطينلقد فنيَّ الكثير من مثل هذه الأعمال، لكن تلك التي بقيت واُستُخرجت تقدم لنا أمثلة لحقيقة عدم فناء ما نعمله لمجد المسيح، لأنأعمالنا تتبعنا، فلنعش لنوجدلِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِعِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الملك (1بط1: 7).

ألكسندر ماكلارين
الكسندر ماكلارين