في العدد السابق ذكرنا أنه يمكن تقسيم هذا الأصحاح إلى ستة موضوعات حسب عدد الخطايا الست المدونة فيه، وهذا يتطابق مع فكر الروح القدس بأن يسجل حالة الإنسان، ويُميزها برقم الإنسان في فشله وبعده عن الله.
الخطية الأولى: مصادقة يهوذا للعالم (ع1).
الخطية الثانية: شر عِير (ع7).
الخطية الثالثة: أنانية أُونَان (ع9).
الخطية الرابعة: ظلم يهوذا (ع11).
الخطية الخامسة: زنا ثامار (ع14).
الخطية السادسة: رياء يهوذا (ع24).
وقد تأملنا فيما سبق في الخطايا الثلاث الأولى، ونواصل حديثنا وتأملاتنا في:
الخطية الرابعة:
ظلم يهوذا
لقد كان لثامار الحق في أن تكون أم وارث يهوذا، لكن يهوذا أنكر عليها هذا الحق، نظرًا لاتهامه لها بالتسبب في موت ابنيه، دون أن يوجه أي لوم لأي منهما على أي أخطاء ارتكباها. فبإجحافه وبمحاباته، تعامى عن الحق، وعوَّج القضاء، وسلك نفس طريق عالي وصموئيل فيما بعد. وكثيرون اليوم أيضًا يسمحون للعلاقات الطبيعية أن تُطيح بعدالتهم في أمور ذات أهمية قصوى. ولقد تميز يهوذا بتقييمه الفاسد للأمور، فمن الناحية العملية كان اقتراحه بزواج "شِيلَة" قبل تمام نضجه أمرًا مخالفًا لفكر الله لأننا نقرأ في تكوين2 :24 «لِذَلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا»؛ أي أن النضج مطلوب في كل نواحي الحياة: الجسدية والذهنية والعاطفية. وواضح أن شيلة كان أصغر من ثامار وهذه ليست وصفة جيدة للزواج.
الخطية الخامسة:
زنا ثامار
لقد تم هذا الحدث الدنيء في أيام جز الغنم، وهو الوقت الذي يؤخذ فيه شيء من الغنم. وهذا هو عمل الشيطان أن يأخذ، وأن يترك مَن أخذ منه عُريانًا. وكانت تجربة الزنا تزداد بممارسات الكنعانيين الدينية، وكانت الطقوس الإباحية جزءًا من أسحارهم للخصوبة. ويبدو أن ثامار تظاهرت بأنها زانية تابعة لمعبد أو طائفة معينة. هذا هو العالم الذي انصهر فيه يهوذا! هل هناك ما هو مخيف أكثر من هذا النوع من العلاقة؟
وبكل أسف إننا نجد هذا النوع من الشر في العهد الجديد أيضًا بين قديسي الله. ولم يدخر الرسول بولس كلمات ليقولها للكنيسة التى في كورنثوس بهذا الصدد: أن «لاَ زُنَاةٌ ... يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ» (1كو6: 9، 10). فما تم سرًا في البيت اُستُعلن أمام ضمائر القديسين ودين بشدة (1كو5: 1- 13)، فلم يكن مسموحًا لهم حتى بمخالطة أو بمؤاكلة الزاني، وكان عليهم أن يعزلوا الخبيث من بينهم. ونحن نعلم أن هذه الخطايا منتشرة في كل العالم، لكن علينا أن نسهر على نزعاتنا وميولنا الطبيعية، وعلينا أن نتحذر بشدة ونتحفظ في سلوكنا مع الجنس الآخر (1تي5: 2). لم يعطنا الرسول بولس أي أذن بمهادنة الشر، لكنه قال: «اُهْرُبُوا مِنَ الزِّنَا» (1كو6 :18). ويأمرنا الوحي المقدس أن نقيم مسافة شاسعة بيننا وبين التجربة، والمهرب الوحيد الذي أُعطى لنا هو طاعة كلمة الله. وفى الأصحاح التالي مباشرة نجد يوسف وهو في الأسر يُطيع إرادة الله «وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ (من بيت فوطيفار)» (تك39: 12). كانت امرأة فوطيفار مثابرة على الشر، لكن يوسف كان حازمًا عازمًا على إرضاء الله. هذه الاعتبارات كانت غائبة تمامًا عن ثامار ويهوذا، مُظهرَين بوضوح دناءتهما الشخصية.
الخطية السادسة:
رياء يهوذا
يا له من مراءٍ! فيهوذا يتصرف كما لو كان محقًا تمامًا وبلا لوم. لكن اللوم يقع عليه بالأكثر، فهو مَن أعثر ثامار، وها هو الآن يريد عقابها. إنني إذا أغويت أحدًا بسبب شروري فما أعظم مسؤوليتى (مت18: 7)! لقد كان يهوذا المحرك الأول لهذه الخطايا، لكنه الآن يُلقي بكل اللوم على ثامار. إنه مرتعد من أن يتحمل المسؤولية، ومن ثم يُلقي باللوم عليها. لكن فضائله المزيفة صارت على وشك الافتضاح بالأحداث التابعة. وسيقول له روح الله، كما قال لوارثه الأكبر داود: «أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ!» (2صم 12: 7). لقد كال بمكيالين، وهو ما لا يرضاه الله العادل. كان يهوذا مستعدًا أن يتهم ثامار حتى الموت حرقًا، لكنها كانت قد حفظت منه رهنًا، وها هي تقدمه الآن (عدد25) كدليل إثبات تورطه في الخطية علنًا وأمام الكل. هذه هي الطريقة التي يعمل بها الله. فالاعتراف الصريح يضمن رحمته. لقد عُرفت ثامار كمن هي أبرّ من يهوذا (ع26)، ونقرأ عن ثامار أيضًا في مزمور92: 12 «اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو» (ثامار تعنى نخلة)، كما وينطبق العدد الأخير من هذا المزمور، مع ما يتبع من سياق قصة أصحاحنا: « الرَّبَّ مُسْتَقِيمٌ. صَخْرَتِي هُوَ وَلاَ ظُلْمَ فِيهِ». وإذ قد أرسى العدل، فله مطلق السلطان أيضًا أن يُظهر الرحمة.
إن الأعداد الختامية لهذا الإصحاح (ع27- 30) تُظهر كيف أن الرحمة تفتخر على الحكم (الدينونة) (يع2: 13). وبهذا الصدد يكتب ج. بللت: “إن رجاء إسرائيل يوجد في الرحمة، البركة في العنقود، لكنه عنقود في كرمة برية مصيره المنجل، إن لم تقل النعمة الإلهية الفائضة: لاتُهلِكهُ”. لأنه «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «كَمَا أَنَّ السُّلاَفَ يُوجَدُ فِي الْعُنْقُودِ فَيَقُولُ قَائِلٌ: لاَ تُهْلِكْهُ لأَنَّ فِيهِ بَرَكَةً. هَكَذَا أَعْمَلُ لأَجْلِ عَبِيدِي حَتَّى لاَ أُهْلِكَ الْكُلَّ. بَلْ أُخْرِجُ مِنْ يَعْقُوبَ نَسْلاً وَمِنْ يَهُوذَا وَارِثاً لِجِبَالِي فَيَرِثُهَا مُخْتَارِيَّ وَتَسْكُنُ عَبِيدِي هُنَاكَ» (إش65: 8،9؛ مت1: 3).
لم تر القابلة من قبل مثلما حدث في وقت ولادة ثامار «وَفِي وَقْتِ وِلاَدَتِهَا إِذَا فِي بَطْنِهَا تَوْأَمَانِ. وَكَانَ فِي وِلاَدَتِهَا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَخْرَجَ يَدًا فَأَخَذَتِ الْقَابِلَةُ وَرَبَطَتْ عَلَى يَدِهِ قِرْمِزًا قَائِلَةً: «هَذَا خَرَجَ أَوَّلاً». وَلَكِنْ حِينَ رَدَّ يَدَهُ إِذَا أَخُوهُ قَدْ خَرَجَ» - فتعجبت القابلة وقالت: «لِمَاذَا اقْتَحَمْتَ؟ عَلَيْكَ اقْتِحَامٌ». فَدُعِيَ اسْمُهُ «فَارِصَ». وَبَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَ أَخُوهُ الَّذِي عَلَى يَدِهِ الْقِرْمِزُ. فَدُعِيَ اسْمُهُ «زَارَحَ» (تك38: 27-30).
ولكن العجيب في هذا كله هو أن نفس الخطية التي اقترفتها ثامار هي نفسها التي أدمجتها في سلسلة نسب رب المجد، لأنها هي الخطية التي صيرتها أمًا لفَارِص أحد أقطاب سلسلة هذا النسب المبارك. وهكذا خرج فَارِص، يعقوب الثاني المخادع. ومِِن هذا الشخص كان لا بد أن يأتي الوارث الحقيقي لكل بركة؛ المسيح كالبديل البار لكل غاصب، وهو سيسود وملكوته سيقوم إلى الأبد «لأَنَّ يَهُوذَا اعْتَزَّ عَلَى إِخْوَتِهِ وَمِنْهُ الرَّئِيسُ» (1أخ5: 2). ونحن نتعجب كيف يمكن لأي صلاح أن يخرج من مجرى حدث مأسوي كهذا، لكن «هَذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ» (مت19: 26). إنه يأتي بالمجد لاسمه من أكثر الأمور خزيًا وعارًا، الأمر الذي تبرهن تمامًا في الصليب، حيث اتحد اليهود والأمم في خطية رفض ابن الله وصلبه، ولكن من هؤلاء الخطاة تكون جسدٌ جديدٌ مُخصصٌ للسجود وعبادة إله وأبي ربنا يسوع المسيح (أف 2: 18).
يا له من درس خطير، لا يجدر بغير الله أن يُلقيه علينا! ويا للعجب! هل خطية ثامار هي المناسبة التي تربطها برب الحياة والمجد؟ أي نعم، أوَليست خطايانا هي التي منحتنا مثل هذه المناسبة؟ ألم يمت السيد لأجل الخطاة! ألسنا حينما اعترفنا بخطايانا، وأخذنا مكاننا أمام الله مستدة أفواهنا، كفجار وضعفاء؟، ألم نكتشف حينئذٍ تلك الحقيقة العجيبة وهي أنه لأجل الفجار والضعفاء قد مات المسيح، ولأننا كنا خطاة (وقد مات المسيح لأمثال هؤلاء) فإنه كان «أَمِينًا وَعَادِلاً، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ»؟ (1يو1: 9).
وكما قال خادم الرب ماكنتوش: “هنا نرى الخطية وقد كثرت، إلا أن النعمة ازدادت جدًا (رو5: 20). وهنا نجد الله في نعمته مترفعًا فوق خطية الإنسان وحماقته، لكي يأتي بمقاصد محبته ورحمته. فكم هو واضح أن الإنسان لا دخل له في هذا الأمر! إن النعمة تملك في كل قديس الآن، لكنها ستملك في إسرائيل في المستقبل عندما يجلس المسيح ملكهم في عرشه”.