أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2009
داود وجليات - رجلاً حسب قلب الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

يحتوي 1صموئيل 17 على أكثر القصص إثارة في الكتاب المقدس. فقصة داود وجليات ليست مجرد حكاية عن مروءة إنسانية؛ لكنها تخبرنا أنه وهو ما زال صبيًا صغيرًا، كان لداود قلب مكرس لله، وإيمان فيه غير متزعزع.

فمواجهة داود البطولية مع جليات جعلته بطلاً قوميًا، وتغلُّبه على العملاق كان انتصار الإيمان. في عبرانيين 11 ذُكر داود من ضمن الذين بالإيمان: «قهروا ممالك ... سدوا أفواه أسود ... صاروا أشداء في الحرب» (11: 33، 34).  وخبرته السابقة كراعٍ أعدَّته لهذا الظهور العلني الانتصاري. فبراعته في استخدام المقلاع، ومواجهته للأسد والدب، وانتفاء الخوف في وجود العدو الذي استطاع أن يجعل من الملك جبانًا (1صم17: 11)، وفوق الكل قوة روح الله التي امتلكها، أدت إلى انتصار جعله بطلاً قوميًا. فاستطاع داود أن يتباهى على العملاق المتعجرف: «هذا اليوم يحبسك الرب في يدي» (1صم17: 46).

جليات، رمز للشيطان

جليات؛ عملاق جت، هو صورة للشيطان، رئيس هذا العالم، الذي له سلطان الموت.  إنه يُذكِّرنا بعدو الله والجنس البشري، إبليس وهو يلتمس إرعاب وأسر شعب الله. فحجمه الضخم (طوله 3 متر تقريبًا)، ودرعه الحرشفي الضخم يمثلان قوة الشيطان المخيفة.  إن تحديه المتغطرس يُذكِّرنا بالأسد الزائر الذي يجول «ملتمسًا من يبتلعه هو» (1بط5: 8). وما هي لغته المليئة بالتحدي وإرهابه لشعب الله، إلا تعبير عن الشيطان وعن قوته الهائلة.

«ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جدًا» (1صم17: 11) لقد ظل عملاق جت يُعيِّر جيش إسرائيل لمدة أربعين يومًا (1صم17: 16). ويرتبط رقم 40 في الكتاب المقدس بالامتحان.  فهذه المدة كانت كافية لإظهار عجز هؤلاء الناس الذين لم يعودوا بعد خاضعين للرب، إذ سبق ورفضوه في 1صموئيل 8: 7.

كان إسرائيل في حرب مع الفلسطينيين، أعدائهم المعروفين. فاصطف الجيشان على جبلين يفصلهما واد، وفي كل يوم يصعد جليات يتحدى الإسرائيليين ليُخرِجوا رجلاً ينازله. ولكن بعد 40 يومًا لم يتقدم أي إسرائيلي. وكان من السهل في هذه الأيام توقُّع نتيجة المعركة في ضوء هذا النوع من المنافسة. فلم يكن هناك إسرائيلي يتناسب مع جليات. وإذا تكلمنا إنسانيًا فهو موقف مستحيل.

داود رمز للمسيح

1- طاعته لأبيه:

«فبكر داود صباحًا ... وذهب كما أمره يسَّى، وأتى إلى المتراس والجيش خارج إلى الاصطفاف وهتفوا للحرب» (1صم17: 20). كان داود متلهفًا لطاعة وصية أبيه بدون أي توان، مثل ربنا المبارك الذي جاء ليفعل مشيئة أبيه إذ قال: «لأني في كل حين أفعل ما يرضيه» (يو8: 29).

2- إرساليته لإخوته:

لقد أرسله أبوه في مهمة من أجل إخوته الذين في الحرب. وهذا يذكرنا أيضًا بيوسف الذي أُرسل من قبل أبيه ليطلب سلامة إخوته (تك37: 14). فكلا الاثنين؛ يوسف وداود يرمزان للمسيح، الذي أرسله الآب للعالم ليطلب ويخلص ما قد هلك.

3- مكافأة الملك له:

عندما وصل داود لأرض المعركة سمع عن المكافأة التي سوف تُعطى لمن يقتل جليات: «الرجل الذي يقتله يُغنيه الملك غنى جزيلاً» (1صم17: 25). وهنا نتذكر المكافأة التي كوفئ بها من ذاق الموت من أجل كل واحد (عب2: 9). فتُوصف مكافأة المسيح عن موته الكفاري على الصليب في إشعياء: «لذلك أقسم له بين الأعزاء، ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه، وأحصي مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين» (إش53: 12). لقد رُفِعَ المسيح لأنه سكب للموت نفسه.  فهو سيشترك في الغنيمة التي حققها من وراء انتصاره، مثلما يفعل أي منتصر عظيم. وتذكر هذه المكافأة أيضًا في رسالة فيلبي: «لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم» (في2: 9).

4- سوء فهم إخوته له:

لقد أساء إخوة داود فهمه واتَّهموه زورًا. فكان رد داود على هذه السخرية المهينة: «ماذا عملت الآن؟ أما هو كلام» (1صم17: 29). فكان داود هنا مثالاً للمسيح «الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلم لمن يقضي بعدل» (1بط2: 23). كان سؤال داود: «ماذا عملت الآن؟»، وهو يشبه سؤال المسيح في موقف أكثر إثارة واستفزازًا «لماذا تضربني؟» (يو18: 23). فكما كان داود غير مُقدَّر من إخوته، هكذا اُحتقر ربنا من خاصته «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله» (يو1: 11). فإن كان ما لاقاه ابن الله المتجسد هو عدم التقدير والاحتقار، فعلى أتباعه أن لا يتوقعوا أي نوع من التقدير. وعلى رجل الله أن يكون مستعدًا لسوء الفهم والترك وحيدًا.

داود وشاول الملك

عندما سمع شاول إن داود سوف يحارب الفلسطيني، حاول أن يثنيه عن عزمه متهكمًا: «إنك غلام». ولكن داود وشاول ليسا على المستوى الروحي نفسه. فلم يفكِّر داود بالذهاب بقوته الخاصة، إذ كان قد تدرَّب في مدرسة الله، هناك في العزلة في مرعى بيت لحم، بعيدًا عن الجموع، فأثناء رعايته لغنم أبيه، قتل أسدًا ودبًا، إذ حاولا أخذ شاة من قطيعه (1صم17: 34- 35). ولقد أسند داود هذا الانتصار لله. فإن كان داود قد خلَّص الشاة بمعونة الله، فلن يجد صعوبة في إنقاذ إسرائيل، خراف الله، بمعونة من الله أيضًا.

ولنا هنا درسان روحيان:

أولاً، الله يُعلِّم ويدرب خادمه في السر حتى يستطيع أن يخدمه في العلن.  فلا يمكننا أن ننال انتصارًا إن لم نحصل على كفايتنا أولاً من ستر العلي“ (مز91: 1)، أو كما جاءت في ترجمة داربي: ”المكان السري للعلي secret place of the Most High “. فشركتنا مع الله في السر هي مصدر قوتنا.

ثانيًا، عند مواجهة خطر في حياتنا، فإن استرجاع معونة الرب في الانتصارات السابقة، سوف تحثنا وتقوي عزيمتنا حتى نخرج من الضيقة الحاضرة.

في البداية قال شاول لداود: «لا تستطيع أن تذهب لهذا الفلسطيني لتحاربه»، ولكن بعد سماع قصة الأسد والدب قال: «اذهب وليكن الرب معك». لقد أعطى شاول درعه لداود، ولكن داود لم يستطع أن يمشي به. فتسلَّح بمقلاعه فقط، وخرج داود والله لمقاتلة الفلسطيني!

إيمان داود العظيم

اختار داود خمسة حجارة ملس من الوادي ووضعهم في كنف الرعاة (1صم17: 40). ظن البعض أن داود اختار خمسة حجارة، حتى إذا أخطأ الهدف في رميته الأولى، يمكنه أن يستخدم الحجارة الأخرى. فاعتقدوا أن الدرس الذي لنا هو أن يكون لنا دائمًا مؤون احتياطي. ولكن داود كان متأكدًا أن الله سوف يوجه الحجر الأول نحو جبهة جليات. وأعتقد أن السبب وراء أخذه خمسة حجارة، هو أن لجليات أربعة أبناء: «هؤلاء الأربعة ولدوا لرافا (جاءت عملاق في ترجمة داربي Giant) في جتّ وسقطوا بيد داود وبيد عبيده» (2صم21: 22). فهم كانوا جزءًا من جيش الفلسطينيين. وعلم داود أنه بمقتل جليات، سوف يطلب أبناؤه الأربعة الانتقام. أحيانًا يستخدم الله أمورًا صغيرة لتحقيق مقاصده. فنفس الله الذي استخدم عصا موسى، وجرار داود وسلسلة بولس، استخدم أيضًا مقلاع داود، وحجر واحد فقط.

«ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره ... ولعن الفلسطيني داود بآلهته» (1صم17: 42، 43). ولكن كل استهزاء جليات لم يستطع أن يزعزع إيمان داود بالله.  «فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس. وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم.  هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك ... فتعلم كل الأرض إنه يوجد إله لإسرائيل.  وتعلم هذه الجماع+ كلها إنه ليس بسيف ولا برمح يخلّص الرب، لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا» (1صم17: 45- 47). هذه الأقوال توضح إيمان داود الراسخ. فحارب داود العملاق ”باسم الرب“. ويخبرنا الحكيم: «اسم الرب برج حصين. يركض إليه الصدّيق ويتمنَّع» (أم18: 10).  لم يتبرع داود لمحاربة العملاق بسبب الذل الذي تعرض له شعبه، ولكن لأن جليات تحدى الله الحي.

انتصار داود

عندما تقدم العملاق للقاء داود، مد يده إلى الكنف وأخذ منه حجرًا ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني فارتزّ الحجر في جبهته. فمع أن داود هو الذي رما الحجر إلا أن الله هو الذي وجَّهه. وسقط عملاق عدم الإيمان المدرَّع على وجهه. وإذ لم يكن لداود سيف، أخذ داود سيف العملاق وقتله وقطع به رأسه. ولنا هنا مثال لما سجل في عبرانيين 2: 14 «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس.  ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية».

موريس بسالي