هل سمعت قط عن والدين لا يستمتعان بصور أولادهما ولا يسرهما أن يعرضاها على أصحابهما؟ بقياس أعظم جدًا يُسرّ الله بابنه الحبيب، ويُسرّ أن يُعلنه لنا من كل زاوية وفى كل مناسبة، لذلك تستعرض لنا الأناجيل حياة المسيح الكاملة، وموته على الصليب وقيامته. كما نجده عاملاً بخدامه في سفر الأعمال، ومُمَجدًا في الرسائل. ونراه منتصرًا، وكالقاضي المطلق السلطان، في سفر الرؤيا. كما أن العهد القديم ملئ بالنبوات التى تشير إليه برموز وظلال مثبّتة إياه أمام عيون قلوبنا المرة تلو الأخرى. وبلا شك أنه من العسير على القارئ اليقظ أن يجد صفحة في الكتاب المقدس، بلا إشارة إلى شخصه، سواء كانت واضحة أم مستترة.
وسفر أستير الذي لم يسمح الرب بذكر اسمه فيه أو بظهور أية إشارة إلى الصلاة فيه ليس استثناءً لهذه القاعدة. فأول ما يلفت الانتباه في هذا السفر هو تلك الفتاة اليهودية الجميلة التى أصبحت ملكة لبلاد فارس، والتي بنبل التمست من أجل حياة شعبها. لكن هناك أيضًا بطل آخر في هذه القصة القصيرة وهذا البطل، شأنه شأن معظم أبطال الكتاب المقدس، يعكس بقياس ضئيل صورة ربنا يسوع المسيح. فدعونا الآن نتأمل في مردخاي كصورة وكرمز للمسيح في رفضه هنا على الأرض، وفى مجده الآتي عن قريب.
نقرأ عن مردخاي في الأصحاح الثاني من هذا السفر، الذي يتزامن تاريخيًا مع الفجوة التى مدتها 40 سنة، والتي تقع بين عزرا 6؛ 7. ففي الوقت الذي يتعامل فيه كل من عزرا ونحميا مع تاريخ البقية اليهودية الراجعة من السبي البابلي، يسرد لنا سفر أستير قصة رائعة لبعض الذين لم يرجعوا، الذين لم يربط الله نفسه بهم علنًا – بل دعاهم في هوشع 1: 9 ”لوعمي“، (أي ليسوا شعبي)؛ إلا أن عينيه كانت عليهم أبدًا لذلك يقول بولس عنهم: «هُمْ أَحِبَّاءُ مِنْ أَجْلِ الآبَاءِ» (رو11: 28).
مردخاي الرحيم
بمجرد تقديم مردخاي لنا كبنياميني في السبي نرى رحمته في الحال؛ إذ قد ربى أستير (هدسة) ابنة عمه اليتيمة كابنته. لقد تميزت علاقتهما بعضهما البعض بالمحبة لأنها حينما أُخذت لتُعرَض على الملك، كان مردخاي يأتي يوميًا إلى أقرب مكان مسموح له أن يأتي إليه ليطمئن عليها (أس2: 11). ولقد بادلته أستير ذات العواطف طائعة تعليماته لها بألا تفصح عن جنسيتها ولا خلفية أهلها، تمامًا كما كانت تفعل وهى معه في البيت (أس2: 10، 20).
وعندما نقرأ الأناجيل نجد ربنا يسوع وقد تميَّز بالرحمة وبأنبل المشاعر، مُسددًا أي احتياج قابله؛ فلمس بُرصًا، وحمل أطفالاً، وسمح لخاطئة معروفة أن تغسل رجليه بدموعها، وصرف وقتًا ليلمس قلب وضمير امرأة سامرية، وراعى احتياجات أمه وهو على الصليب، وأظهر حبًا بكل الطرق للمساكين والمعوزين.
مردخاي الأمين والمُخْلِص
في أستير 2: 21- 23 نقرأ عن إخلاص مردخاي للملك، بغض النظر عن كونه فارسيًا وعن طابعه اللا أخلاقي، وذلك لأنه الملك الذي عيَّنه الله على العرش. وعندما علم مردخاي بالخطر المحدق به، وبمؤامرة قتله، أخبره بها عن طريق أستير. وبعد التحقيق في القضية أخذ العدل مجراه ضد المذنب. لقد دُوِّن ولاء مردخاي في حينه في السجلات لكن دون أن يكافأ. أما هامان الأحاجي، سليل العائلة المالكة لأعداء إسرائيل بالوراثة، فقد ترقى ليكون رئيس وزراء الملك.
هكذا كان ربنا المبارك أيضًا في علاقته بالسلطات الحاكمة أثناء حياته على الأرض. ففي الوقت الذي كان مُتهمًا فيه بأنه يضل الأمة ويُهيج الشعب مانعًا أن تُعطى جزية لقيصر، وُجد بلا خطية لدى كل من بيلاطس الوالي الروماني، وهيرودس الملك الدُمية (اليهودي – الأدومي)، وكان خاضعًا للظلم الذي تعرض له دون أن يشتم أو يهدد عوضًا، بل كان خاضعًا لمن يقضي بعدل (1بط2: 23). لقد سجل الله له ولائه بأروع تفصيل. وبالرغم من أن أعداء الله وشعبه هم المتسلطون على مراكز القوة الآن، كما سيحكم رجل الإثم بأعتى سلطان أثناء الضيقة، إلا أن الله سيكافئ الرب يسوع علنًا في يوم آتٍ.
مردخاي العطوف
لقد كان تهديد الشعب اليهودي بالإبادة من كل الإمبراطورية الفارسية بطولها وعرضها ما هو إلا نتاجًا مباشر لتصرف مردخاي (الذي بحسب فكر الله)، برفضه السجود لهامان. لقد سبق وحلف الله أن تكون له حرب مع عماليق من دور إلى دور، كما علّم شعبه ألا ينسوا هذا الأمر (تث25: 17- 19)، فأتى ولاء مردخاي لله، بكراهية هامان وعدائه له. وفي رؤيا 12 نجد أن الحافز الحقيقي لعداء الشيطان المتأصل ضد إسرائيل (أي المرأة التي ولدت الابن الذكر) هو كراهيته للمسيح المُقدر أن يحكم العالم.
تسبب صدور المنشور الرسمي بالحكم بإبادة اليهود، بحزن جم لهم، فنرى مردخاي بثياب ممزقة، في مسوح ورماد، ينوح بمرارة مع جميعهم حيث تشاركوا معًا في الأسى. ونقرأ أيضًا عن ربنا له كل المجد أنه «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ» (إش63: 9)، فنراه يبكي على أورشليم عالمًا بالخراب المروع الذي سيلحق بهذا الشعب، بلا أدنى شعور بالشماتة لما سيحدث لهم، بالرغم من أنه كان نتيجة لرفضهم إياه. بل وحتى في يومنا هذا أيضًا، فإن ربنا يسوع، من المجد، يشعر ويتأثر بقسوة ما يفعله الناس بخاصته كراهية له، كما نرى في أعمال 9: 4 عندما نادى من السماء «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟».
في تلك الظروف المعاكسة شجع مردخاي أستير ونصحها بما أتى بالعتق أخيرًا لليهود. لقد صام من أجل أستير، وعلى الأرجح صلى أيضًا (بالرغم من عدم ذكر الصلاة في السفر). إن ربنا يفعل ما هو أكثر من ذلك، إنه رئيس الكهنة العظيم الذي يقوينا ويمنحنا رحمة ونعمة عونًا في حينه. ونحن ناظرين إليه ونركض في سباق الحياة، إذ قد سبق وأكمله بنفسه، تاركًا لنا كلمته لترشدنا وتُحَكِّمنا للخلاص، إن طلبنا ذلك منه بالإيمان (عب4: 14- 16؛ 12: 1- 2؛ يو17: 14؛ يع1: 5). يا له من مُخلِّص عجيب!
مردخاي المُضّطَهَد
في كراهيته المُرّة لمردخاي، جهز هامان خشبة ارتفاعها خمسون ذراعًا، وخطط ليعلقه عليها، بعد أن ضمن تصريح الملك بإبادة اليهود (أس5: 14؛ 7: 9). لكن الله بطريقته البديعة أحبط خطط هامان، جاعلاً إياه يكشف عن شر رغبات قلبه، ظانًا أنه هو من يُسرّ الملك بأن يكرمه، فطلب أن يطوف المدينة راكبًا على فرس الملك، ولابسًا ثياب الملك وتَاجِهِ، ويُنادي قدامه أحد رؤساء الملك الأشراف (أس6: 6-11). وهكذا بل وأكثر سيفعل الأثيم الآتي حيث إنه «الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلَهًا أَوْ مَعْبُودًا، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلَهٍ مُظْهِرًا نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ» (2تس2: 4).
بشجاعة أستير وإستراتيجية تخطيطها، وبطريقة الله البديعة في تفعيل التفاصيل الدقيقة معًا للخير، فشلت خطة هامان الخسيسة، وأُعتق مردخاي واليهود من الإبادة. لكن ربنا لم يُعفَ من الموت الذي خططه له الأشرار، وعلى النقيض من هامان لم يسعى لمجد نفسه «لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فى2: 7، 8). لم يكن ممكنًا أن يعبر الله عنه هذه الكأس طالما أن الله يريد - على أساس عادل - أن يخلصنا.
مردخاي المُكرّم
لقد أتى مردخاي أخيرًا إلى جزيل الكرامة والقوة، كما سيُعطى الرب يسوع أيضًا مكانًا أسمى بما لا يقاس. وكما أعلنت أستير عن علاقتها به كذلك سيَعْرِف شعب الله الأرضي، بل ويُعلِن علاقته بالمخلص الذي رفضه مرة. لقد ترقى مردخاي ليكون برتبة رئيس الوزراء المؤتمن على خاتم الملك، حينئذ كانت له القدرة على دحض المرسوم الذي استصدره هامان ضد اليهود، محولاً إياه ضد أعدائهم «وَخَرَجَ مُرْدَخَايُ مِنْ أَمَامِ الْمَلِكِ بِلِبَاسٍ مَلِكِيٍّ أَسْمَانْجُونِيٍّ وَأَبْيَضَ، وَتَاجٌ عَظِيمٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَحُلَّةٌ مِنْ بَزٍّ وَأُرْجُوَانٍ» (أس8: 15)، ومارس قضاءً تامًا على بيت هامان (أس9: 10)، وأخيرًا أسس كل من مردخاي وأستير عيدًا لإحياء ذكرى هذا العتق العظيم الذي حققه لهم الله (أس9: 18، 19).
بالرغم من قيامة ربنا يسوع من الأموات وارتقائه إلى يمين الله في السماء، إلا أن استعلان مجده سيتم مستقبلاً، وكذلك سيكون مجيئه لخاصته (للاختطاف) سرًا لن يشهده العالم الغير مؤمن به، وأما عند رجوعه سيكون هو «الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ» (إش63: 1) «وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ» (رؤ1: 7). ويكلمنا مزمور 110 عن ذلك اليوم الذي فيه يضع الله أعدائه موطئًا لقدميه، عندما يصير شعبه جنودًا في يوم قوته، ويحطم ملوكًا في يوم غضبه، حينئذ يفرح شعبه. لكن الفوريم، العيد الذي تأسس في أستير 9: 20- 26 ليس هو بالصورة الدقيقة لعشاء الرب الذي يتممه المؤمنون اليوم كامتياز إعلان موته في هذا العشاء إلى أن يأتينا ثانية.
مردخاي المُرفّع
يرينا آخر أصحاح من سفر أستير عظمة مردخاي بعد الضجة السابقة. فذلك الرجل – الذي بحنو ربى قريبته اليتيمة كابنته، والذي خدم الملك بإخلاص، والذي أطاع إلهه بأمانة، والذي شارك بأسى في توقع الشر على جنسه، والذي أرشد الملكة أستير بحكمة، والذي انتصر على أعدائه بعدل فنجَّا شعبه – قد ترقى لمنصب عظيم من قبل الملك، حاكمًا بالعدل والحكمة «لأَنَّ مُرْدَخَايَ الْيَهُودِيَّ كَانَ ثاني الْمَلِكِ أَحْشَوِيرُوشَ ... طَالِبًا الْخَيْرَ لِشَعْبِهِ، وَمُتَكَلِّمًا بِالسَّلاَمِ لِكُلِّ نَسْلِهِ»، وهو لم يتعظم من قِبَل الملك وحسب بل كان «عَظِيمًا بَيْنَ الْيَهُودِ، وَمَقْبُولاً عِنْدَ كَثْرَةِ إِخْوَتِهِ» (أس10: 3).
ألم يثبت ربنا المبارك كذلك أنه مستحق لكل كرامة أجزلها له الله؟ يشير إشعياء 11 إلى الكرامة والرفعة التي سيُرفّعه الله بها في الملك الألفي، وقبول إخوته اليهود له، حيث سيحكم بالبر، ويمحو الشر، ويُطهّر المشهد، ويُعمّم السلام حتى بين الوحوش الضارية والسامة التي لن تؤذى بعد، وأخيرًا سيُثبت تلك المملكة التي «لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا» (دا2: 44) «وَبَعْدَ ذَلِكَ النِّهَايَةُ، مَتَى سَلَّمَ الْمُلْكَ لِلَّهِ الآبِ، مَتَى أَبْطَلَ كُلَّ رِيَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَانٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ» (1كو15: 24). يا له من يوم عجيب! أي مجد ذلك الذي يصل إلينا لمعانه من الإشارة إليه في سفر أستير!
يوجين ب. فيدر