أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2017
مريم في بيت لحم
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ 
وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، 
إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ» (لو٢: ٧)

حيث أن الله عظيم في مقاصده، فعظمته لا تتجلى مثلما تتجلى في اختياره للأدوات التي ستتمم أغراضه. فقبل أكثر من سبعمئة سنة من ميلاد المسيح، سبق ميخا النبي وأنبأ بالوحي: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (مي٥: ٢). وكانت تلك نبوة عن مكان ميلاد المسيا. وقد اقتبس رؤساء الكهنة والكتبة هذه الحقيقة في إجابتهم عن سؤال هيرودس: «أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟» (مت٢: ٤). ولكن مريم كانت تقطن في الناصرة، في الجليل، وها هو موعد ولادة الطفل القدوس يقترب. وهكذا «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ (الإمبراطورية الرومانية)» (لو٢: ١). ونتيجة هذا المرسوم وقع يوسف، مع مريم امرأته، والتي كانت حُبلى وعلى وشك الوضع، في حيرة من أمره. لأنه كان سليل بيت داود، ومن ثمَّ كان عليه أن يصعد من الناصرة في الجليل، إلى اليهودية، إلى مدينة داود، والتي تُدعى بيت لحم.

وما أقل ما عرف الإمبراطور الروماني عن نتائج الفكرة التي اجتاحت عقله. وكما كتب أحدهم: “هذا المرسوم فقط يتمم قصد الله السامي، ونتج عنه أن وُلد المُخلِّص الملك في القرية المُعيَّنة مِن قِبَل الله، ووفقًا لشهادته حيث ينبغي أن يُولد”.

وما يجدر ملاحظته أنه رغم صدور المرسوم، ورغم رجوع يوسف ومريم، ومع الكثيرين الآخرين ولا شك، ليتم تسجيلهم، إلا أن الإحصاء لم يتم إلا بعد ذلك الزمان بأمد «إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ» (لو٢: ٢). ما أعجب حكمة الله! وما أكمل طرقه! كان ينبغي أن يوسف يأخذ مريم امرأته، ويرتحلا إلى بيت لحم. فحاصر الله فكر الإمبراطور، ووجهه نحو إتمام قصده. وهكذا جاء يوسف ومريم إلى بيت لحم. ويا له من برهان أن الله لا يزال دائمًا يُمسك بزمام الحكم في يديه، وأنه يُدير قلب الإنسان – كائنًا مَن كان – نحو إنفاذ مشيئته. والمؤمن المسيحي يؤمن بذلك، ويعرف ذلك، وهكذا يستريح في سلام وسط مشغوليات البشر، ووسط خضم التشويش والاضطراب والخصام السائدة على كافة الأصعدة.

وبينما كان يوسف ومريم في بيت لحم «وَلَدَتِ (مَرْيَمُ) ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ» (لو٢: ٧). ولا يدخل ضمن غرضنا هنا تناول موضوع التجسد، لأننا في هذه العجالة معنيون بسيرة المُطوَّبة مريم. ومع ذلك نتجرأ بتقديم انعكاسات لقلم كاتب آخر بشأن هذا الحدث الجلل؛ سر الأسرار هذا: “ابن الله وُلد في هذا العالم، ولكنه لم يجد ثمة مكان له. كان العالم في راحة، وأمكنه بواسطة موارده أن يجد له مكانًا في المنزل (الفندق). فصار الأمر بمثابة تقييم لمكانة الشخص وقدره، وقبوله من العالم؛ أما ابن الله فلم يجد مكانًا ولا مكانة إلا في المذود.

والآن هل عبثًا يسجل الروح القدس هذه الوقائع؟ كلا! ليس ثمة مكان لله، ولا لأمور الله، في هذا العالم. لذلك ما أكمل محبته التي تنازلت إلى عالمنا. ولكنه بدأ حياته على الأرض في مذود، وختمها مُعلَّقًا على صليب. وطوال الرحلة - بين هذا وذاك – لم يكن له أين يُسند رأسه. يقينًا يليق بنا أن نسجد بإجلال وتعظيم في محضر الله إلهنا، إذ نتفكر في صيرورته “الله الظاهر في الجسد”، وفي “نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِنا افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ نسْتَغْنِي نَحْنُ بِفَقْرِهِ” (٢كو٨: ٩). وإذ نستعرض هذه الأمور في محضره، دعنا نذكر أنه لكي تتم مقاصد نعمته ومحبته، أي ليفدي شعبه؛ سواء إسرائيل أو الكنيسة، فقد تعيَّن عليه الرفض في الحياة، والصلب عند الموت.

هذا الطفل الراقد في المذود كان غرض مشورات الله وموضوعها، والحامل لكل الخليقة والوارث لها، مُخلِّص الكل؛ كل الذين سيرثون مجدًا وحياة أبدية. وعليه لا غرو إذن أن العذراء مريم كانت محتجبة طوال تلك الفترة؛ ولا كلمة مُسجلة عن مشاعرها، أو أفكارها، أو أقوالها، لأن الحق أنها كانت في الظل إلى جوار مجد طفلها.

مريم والرعاة

دعونا نُشير إلى هؤلاء الأتقياء، المُختارين من الله لاستقبال الإعلان بميلاد «مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو٢: ١١)، وذلك فقط لارتباطهم بتاريخ مريم. فلم يكن الله في هذه اللحظة مهتمًا بعظماء الأرض، بل بشعبه المسكين الذليل، والذي ينتمي له هؤلاء الرعاة. فالتواصل مع الله لا يمكن أن يتم إلا لقلوب مُعدَّة ومُجهزة مِن قِبَلِهِ. وعليه لنكن موقنين أن هؤلاء البسطاء كانوا من ضمن الذين ينتظرون فداءً في أورشليم (لو٢: ٣٨).

إلى أولئك الذين كانوا ساهرين ليلاً، يعتنون بقطيعهم، أُرسِلَ الملاك ليحمل إليهم خبرًا سارًا مُعطرًا بفرح عظيم، يكون لجميع الشعب، وليحمل إلى إيمانهم علامة «تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ». وما أن سلم الملاك رسالته إليهم، حتى «ظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ». ولنترك القارئ المُخلِص ليتأمل في هذه الكلمات التي تحمل المعنى السامي: أن كل مقاصد الله بالبركة لشعبه إسرائيل، قد أُكملت بالفعل، في شخص ابنه الحبيب. ولنعد لتتبع الرعاة. بإيمان بسيط، بدون أدنى شك بشأن حقيقة ما سمعوه، قالوا بعضهم لبعض: «لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هَذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ. فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ». ويا له منظرًا صافح ناظريهم! قد لا يكونون أدركوا عظمة ما رأوا حق الإدراك، أو عرفوا مجد الطفل الوليد، إلا أنه لا يزال صحيحًا أنهم رأوه، وأن قلوبهم ولا ريب كانت متعبدة في دواخلهم.

ولا يسجل الوحي كلمة نطق بها الرعاة أو يوسف أو مريم. هل ذلك لأن أعينهم كانت تلتهم المُخلِّص؛ المسيح الرب، وهو موضوع في المذود. إلا أنهم لا بد أن يكونوا قد تكلموا، لأنه قيل عنهم «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هَذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ».

وأيضًا قيل عن مريم «وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا» (لو٢: ١٩؛ ٥١). ونخلص إلى أن مريم كانت شخصية هادئة، متأملة، مُفكرة. وإذ اُختيرت لهذا الغرض، وشرُفت بهذه المسؤولية، لم يكن ممكنًا إلا أن تكون بهذه الصفات. وحتى إذا كان القَدْرُ الذي توافر لديها بشأن حقيقة شخصية طفلها شحيحًا، إلا أنها كان عليها أن تهاب محضر الله، وتدرك أن الكلام لا داعي له. ولعل الإنسان يتوق أن يعرف أكثر عن كنة أفكارها، بينما هي تحدق بصرها في وجه هذا الطفل العجيب، الشخص الذي تنبأ عنه إشعياء «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إش٩: ٦)؛ ومهما تكن النعمة التي أُسبغت على مريم عظيمة، إلا أن ابنها – وليس هي – هو غرض السماء، وموضوع مشورات الله؛ الشخص الذي يُحقق المجد لله، ويتبرهن كماله المُطلق في هذا العالم.

ويبقى أنه لا يُمكننا إلا أن نُعجب بسمات شخصية مريم الجميلة، والتي تبدو واضحة للعيان، في سيرتها التقوية والنقية.


كاتب غير معروف