أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2007
موت المسيح في الإنجيل - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

يوحنا12: 31-33

«اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ» (يو12: 31-33).

 ***

 في الآيات العظيمة السابقة نجد إشارات ثلاثية إلى موت المسيح: في العدد 31 ترد إشارتان، وفي العدد 32 ترد الإشارة الثالثة. فإذا أضفنا إليها الإشارات الأربع التي سبق أن تأملناها في الأعداد السابقة، والواردة في آخر يوحنا وفي بداية يوحنا 12، نحصل على سباعية جميلة من إشارات إنجيل يوحنا لموت المسيح.11

 لقد رفض اليهود الرب يسوع كالمسيا، وهذا فتح الباب - بحسب خطة الله الأزلية - لأمور أعظم وأمجد. فليس فقط أن الحياة نتجت عن الموت، كما أوضح الرب في العدد 24 من هذا الفصل، وأتى عن طريق ذلك ثمر كثير؛ بل إن النصرة الحقيقية والنهائية لله نتجت عن الهزيمة الظاهرية في الصليب. وإذا كانت السماء قد فُتحت نتيجة ذلك العمل، فإن العالم قد دين، ورئيسه طرح خارجًا.

 يقول المسيح هنا: «الآن دينونة هذا العالم». والمقصود بعبارة “هذا العالم” (وباليوناني “كوزموس”) هو النظام الذي ابتدعه الشيطان، الذي يُسمى هنا “رئيس هذا العالم”. لقد اتضح في الصليب كيف أن هذا النظام هو في يد الشيطان بالتمام. وعبارة: “دينونة هذا العالم” إذًا لا تعني دينونة جميع البشر، ولا تعني أيضًا زوال العالم المادي وحرقه بالنار (الأمور التي ستحدث في حينها)، بل إن المسيح هنا يتحدث عن العالم كنظام معادي لله. وعداء هذا العالم نحو الله ومسيحه، وإن كانت معالمه ظهرت من البداية، ولكن لم يكن مسوحًا له بأن يظهر في شراسته بصورة علنية، إلى حين الصليب. وها نحن الآن قبل الفصح الذي كان سيصلب فيه المسيح بأيامٍ معدودات، وها المسيح هنا يحس تمامًا بوطأة ما هو آتٍ عليه.

 وإذ ظهر مقدار شر العالم برفضه للمسيح، فقد تقررت دينونته محكومًا عليه من نفسه. وعليه فإن عبارة: «دينونة هذا العالم»، تعني أنه قد فضحت سماته الحقيقية. إن هذا العالم، الذي كان عتيدًا أن يدين ابن الله، ويحكم عليه كفاعل شر، اتضحت سماته البشعة. فالصليب من زاوية ما يعتبر أشر مأساة في كل تاريخ هذا العالم، المليء بالمآسي. وبالتالي سوف يُحكم عليه من الله وفي نظر الإيمان.

 كثيرون من المدعو عليهم اسم المسيح يظنون بالأسف أن العالم يمكن إصلاحه، ويجتهدون في ذلك. لكن كلام المسيح هنا «الآن دينونة هذا العالم» يغلق الباب على هذا الوهم. فلا عجب أن الله الآن، ومن خلال الصليب نفسه، يخلص المؤمنين من هذا العالم (غل6: 14).

 لكن هناك شيئًا عجيبًا آخر حدث في الصليب، وتحدَّث عنه الرب هنا. فوإن كان الصليب قد أماط اللثام عن حالة العالم الروحية المعادية لله، فإنه من الجانب الآخر أسقط السلاح الذي كان في يد الشيطان، وبهذا المفهوم فإن الله جرد الرياسات والسلاطين، وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم في الصليب (كو2: 14، 15). إن الشيطان، إذ حرك كل أتباعه لكي يصلبوا المسيح، لم يدر أنه كان يدق المسمار في نعشه. لكن الوحي يؤكد لنا أن المسيح، نسل المرأة، سحق رأس الحية، إذ مات فوق الصليب (تك3: 15؛ عب2: 14)! لقد كان الشيطان يلِّوح في وجه المؤمن بعدل الله، ذلك العدل الذي يقضي بموت من يخطئ. لكن إذ مات المسيح بدلاً عن المؤمن، فإن الشيطان فقد كل شرعية حقيقية في شكاواه ضد المؤمنين، وهي أعز ما يملك! وهكذا فقد انتزع المسيح بموته ادعاءات الشيطان ومطالبته بتوقيع حكم الموت على البشر الخطاة أمثالنا، بمقتضى عدالة الله التي ما كان يمكن أن يتجاوز عنها.

 وبهذا الصدد فإنه من الجميل أن نلاحظ كيف أننا هنا، وللمرة الأولى، نقرأ عن الشيطان باعتباره “رئيس هذا العالم”. فالشيطان الذي يحب دائمًا أن يعمل خلف الستار، والذي كان ضليعًا في جعل الناس ينقسمون ضد بعضهم البعض، بغية الوصل إلى أفضل النتائج لخططه، قد اضطر عند الصليب لإزالة القناع عن وجهه، واضطر أن يوحِّد الجميع رغم عدم منطقية ولا معقولية ما يفعلون؛ وجعلهم يرغبون في قتل المسيح الذي عمل الخير، ويفضلون عليه رجلاً قاتلاً! ولكن - كما ذكرنا - فإنه في الصليب تمت الهزيمة الساحقة لذلك المختلس الذي أصبح ”رئيس هذا العالم“. وما بدا إلى لحظة، أمام العين البشرية، أنه قمة النصر للشيطان، اتضح سريعًا أنه هزيمة مؤكدة له. وهكذا فقد صدر في الصليب الحكم لا على العالم فحسب، بل على رئيس هذا العالم أيضًا، وتقررت دينونته، وأما التنفيذ فينتظر المستقبل (رؤ12؛ 20).

 ويستطرد المسيح فيتكلم عن شيء ثالث، ففي الصليب لا نجد طرحًا للشيطان خارجًا فقط، بل من الجانب الآخر فإن المسيح بالصليب يجذب إليه الجميع. هذه هي الإشارة الثالثة في آيتنا إلى الصليب، كما أنها الإشارة الثالثة في إنجيل يوحنا إلى ”رفع المسيح“. فالرب استخدم هذا التعبير، الذي يعني صلبه، ثلاث مرات، الأولى في بداية خدمته (3: 14)، والثانية في منتصف الخدمة (8: 28)، وهنا في نهايتها (12: 32). الأمر الذي نفهم منه أن الصليب كان ماثلاً دائمًا أمامه.

 ثم إن المرات الثلاث التي ذكر فيها المسيح أنه سيُرفع، ارتبط هذا بلقبه “ابن الإنسان”. في أول ذكر لرفعه (3: 14)، كان هذا باعتباره الحية النحاسية، والحية تُذكِّر باللعنة والخطية، كما أن الحيات المحرقة لدغت الشعب بالارتباط بتذمرهم واحتقارهم للمن (الذي هو رمز للمسيح). في المرة الثانية قال المسيح لليهود: «متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أني أنا هو» (8: 28). وفي ختام ذلك الفصل نجد أقوى برهان على لاهوت المسيح عندما قال لهم: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (8: 58). فكان رجع الصدى لذلك ليس سجودهم أمامه تكريمًا له، بل «فرفعوا حجارة ليرجموه»، برهانًا على عدم إيمانهم البشع!

 والمرة الثالثة هنا، عندما قال: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إلي الجميع». وذلك بعد أن قال: «الآن دينونة هذا العالم».

 وبعدها في أعمال 7 نقرأ عن شخص ممتلئ من الروح القدس، يرفع عينيه فيرى السماوات مفتوحة، ويرى ابن الإنسان قائمًا عن يمين الله. فالروح القدس الآن يجذب النفوس المؤمنة إلى خارج هذا العالم المعادي للمسيح، ويعظم شخصه أمام العين والقلب.

 يقول المسيح: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع». فالصليب إذًا هو هازم الشيطان، وجاذب البشر في آن. وبعد الصليب بألفي عام، ماذا نقول عن الصليب الذي هو أداة شر وهوان؟ كم جذب إليه ما لا يحصى من البشر الخطاة، الذين خلَّصهم المسيح فأحبوه من كل قلوبهم، صدى لحبه أولاً لهم!

ويجب ألا تفوتنا المقابلة الجميلة في هذه الآيات: الشيطان يُطرح، والمسيح يُرفع!

 ثم إن عبارة “يُطرح” بحسب الأصل اليوناني تدل على سقوط متدرج متوال، وكذلك أيضًا ”الجذبة“ في العدد التالي. ونلاحظ أن الرب بدأ حديثه في هذا الفصل بالقول: الآن “تمجد ابن الإنسان” ، وختمه بالقول: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض». ففي البداية يذكر المسيح أنه أتت ساعته كابن الإنسان ليتمجد، وفي النهاية يذكر أنه سيُرفع باعتباره ابن الإنسان، إذ يرتفع عن الأرض.

وهكذا فإننا نجد هنا أن الجاذب للجميع، ليس شخصه الكريم بدون الصليب، ولا الصليب كآلة إعدام بدونه، بل «أنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إليَّ الجميع». ونلاحظ أيضًا أن الرب لم يقل “إذا ارتفعت” بل “إن ارتفعت” ، أو بعبارة أخرى “متى ارتفعت”. إنه أمر مقرر، والمسيح تمم هذا العمل باختياره.

 وهكذا تحول صليب المسيح إلى أعظم نقطة جاذبة في كل التاريخ البشري في كل الكون. وسر الجذبة يكمن في المحبة التي ظهرت في الصليب.

 إن الرب يسوع كالمسيا كان سيجمع حوله الأسباط الاثني عشر، ولكنه كابن الإنسان كان سيُرفع عن الأرض بالصليب. فهل خسر المسيح نتيجة ذلك؟ كلا، بل كسب، ففي موته تمت دينونة الشيطان وطرحه خارجًا، ذاك الذي بدا في هذا المشهد إلى حين وكأنه انتصر. ثم نتيجة عمله جذب المسيح الجميع إليه. والجميع هنا تعني لا اليهود وحدهم دون سواهم، بل جميع الناس على اختلاف أصنافهم وفئاتهم وجنسياتهم. ليس كل البشر بدون استثناء، ولكن “من كل أمة ولسان وشعب وأمة”. بكلمات أخرى كل من له نصيب في دائرة البركة التي صار هو مركزها كابن إبراهيم، الذي فيه تتبارك جميع أمم الأرض (تك22: 18).

 ثم إن عبارة “الجميع” هنا تتضمن لا الكنيسة فقط، ولا حتى البشر المؤمنين فحسب، بل إنها تذكرنا بالقول: «يجمع كل شيء في المسيح» (أف1: 10). ونرى صورة لذلك في رؤيا 5، فهناك الكل يُسبح بحمده. فلقد ذاق المسيح بنعمة الله الموت لأجل كل شيء (عب2: 10).

 لعلنا نتذكر أن اليهود أرادوا قتله لكي لا يذهب الجمع وراءه (يو11: 48؛ 12: 19)، ولم يدروا أنه بموته فوق الصليب لا بد أن يجذب إليه الجميع!

 وكعادة البشير يوحنا يُقدِّم تفسيرًا لكل معنى قد يستشكل على القارئ العادي. فيوضح أن رفعه يعني موته فوق الصليب، فيستطرد قائلاً: «قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت» (ع33).

 والخلاصة أننا في هذه الإشارات الثلاثية عن الصليب في أقوال الرب له المجد في يوحنا 12: 31-33 نرى حقائق ثلاث:

الحقيقة الأولى: الصليب كَشف حقيقة العالم، وإن كان زمان النعمة أجل توقيع القضاء وانصباب الدينونة.

 الحقيقة الثانية: أن نسل المرأة سحق رأس الحية. ولقد تم هذا في الصليب. إنه مطروح الآن خارجًا شرعًا، وسيأتي اليوم الذي فيه يطرح خارجًا فعلاً.

 الحقيقة الثالثة: بالصليب سوف يُجذَب الجميع إليه. وفي الرمز قديمًا فإن الذي قبل الذهاب مع أبيه إلى جبل المريا، قبلت عروسه أن تتبعه، وأتت إليه من أقاصي الأرض، وتجاوبت مع الدعوة في التو واللحظة (تكوين 22: 24)! ولو أنه بالنسبة للمسيح، لا العروس وحدها هي التي انجذبت إليه، بل لا بد أن يتم قصد الله، ويجمع كل شيء في المسيح، ما في السماء وما على الأرض.

 الصليب حصَّل كل هذا: مجد لله، ودينونة للعالم، وإبادة للشيطان، وخلاص للمؤمنين، ومصالحة للإنسان، ورد لكل شيء. لقد حسب ربنا يسوع الكلفة الكبيرة لهذا الربح العظيم، من ثم فإنه «من أجل السرور الموضوع أمامه» قَبِل بأن يذهب ليحتمل الصليب، مستهينًا بالخزي. فله كل المجد.

يوسف رياض