كتب الرسول بولس رسالة فيلبي وهو سجين في روما. كان مُقيدًا في سلاسل ومحبوسًا في بيت مُستأجر، حُددت إقامته فيه، إلا إنه كان بإمكانه تقديم البشارة لجميع الذين أتوا إليه، كما أمكنه كتابة عدة رسائل أيضًا (أع28: 30، 31 ؛ أف6: 20 ؛ في1 : 7، 14، 16).
ورسالة فيلبي، وهي واحدة من تلك الرسائل التي كتبها في هذه الأثناء هي رسالة عملية في المقام الأول؛ إنها تتحدث عن المسيح ولكن ليس من وجهة نظر تعليمية. ولا نجد أثرًا لكلمات مثل “الخطية” أو “الخطايا” في هذه الرسالة، ولا ترد إشارة عن التبرير أو السلام مع الله، أو عن يقين الخلاص الأبدي. وكلمة “خلاص” التي وردت مرة واحدة في الرسالة لم يكن المقصود بها الخلاص من الخطية كما في رسالة رومية، ولكنها تشير إلى خلاص الرسول من سجنه (في1: 19).
وهناك ثلاث كلمات تُعتبر مفاتيح لهذه الرسالة: المسيح، الفرح، الفكر. فيُشار إلى المسيح- تصريحًا أو تلميحًا- نحو سبعين مرة. ويُشار إلى كلمة “الفرح” ومشتقاتها نحو ثماني عشرة مرة. وتُعتبر النغمة الرئيسية التي تملأ أرجاء الرسالة. وهي الترنيمة التي تصاعدت من قلب الرسول وهو مسجون فى روما؛ ترنيمة الانتصار والإيمان والفرح.
أما كلمة “فكر” ومترادفاتها، والتي تشير إلى توجه الذهن، فقد وردت نحو اثنتا عشرة مرة. فالرسول يكتب من سجنه، ولكن لا أثر للتذمر أو الرثاء للنفس أو الشكوى, بل بالحري هو يحرضنا لأن نفعل “كل شيءٍ بلا دمدمةٍ ولا مجادلةٍ” (تذمر أو شكوى) (في2: 14).
وإذا كان لأحد أن يضطرب لسبب ظروفه، فبكل تأكيد كان بولس هو هذا الواحد؛ فقد كان مطروحًا ظلمًا فى سجن، ومُضّطهدًا كفاعل شر، بل وحتى أصدقائه انقلبوا ضده. لقد كانت لديه أسباب قوية جدًا للانزعاج والاضطراب. إلا إنه لم ينزعج ولم يضطرب!! بل بالأحرى يعطينا سر النصرة على مصادر الانزعاج والاضطراب على الرغم من الظروف القاسية والمكدِّرة (في4: 6، 7). وفى ظروفه هذه كتب الرسول - فى رضى- عن الفرح وعن سلام الله الذى يفوق كل عقل، وعن القناعة والاكتفاء!! ترى ما هو السر فى ذلك كله؟ لقد أمكن لبولس أن يكتب عن الفرح رغم الألم لأنه كانت له سبعة توجّهات إيجابية خاصة.. ألا وهي:
1. نحو المسيح: فنحو ثلثي آيات الرسالة تشير إلى المسيح، الذى كان حاضرًا دائمًا وله مكانته فى قلب بولس؛ مكانة راسخة وفائقة فى أفكاره وفى عواطفه، وانطبق عليه ماسجله فى أفسس3: 17 حيث كان المسيح يحل بالإيمان فى قلبه. وكل أصحاح من أصحاحات رسالة فيلبي الأربعة يشير إلى المسيح من زاوية مختلفة:
ففى الأصحاح الأول نرى فرح الرسول بالمسيح باعتباره الشخص المسيطر والموجّه للحياة ولكل التصرفات. «لأن ليَ الحياة هي المسيح» (في1: 21). إن الحياة المسيحية الحقيقية والاختبار المسيحي الحقيقي هو أن نعيش للمسيح؛ أن نُظهره فى كل تصرف، ان نُطيعه، أن نخدمه، أن نُمجّده، أن يقودنا ويحكم حياتنا.
وفى الأصحاح الثاني نرى فرح الرسول بالمسيح باعتباره المثال والنموذج المُحتذى للحياة «فليكن فيكم هذا الفكر الذي (كان) في المسيح يسوع أيضًا» (في2: 5). فالمسيح في اتضاعه وطاعته ماثل أمامنا في هذا الأصحاح باعتباره مثالنا. إن الشخص الذي تنازل إلينا من المجد، ووضع نفسه آخذًا صورة البشر، محتملاًً المعاناة والألم حتى الموت، موت الصليب، وهو الآن مُرفع عن يمين الله في الأعالي؛ هذا هو الشخص الذي ينبغي أن يكون مثال المؤمن وماثلاً أمام قلبه دائمًا.
أما في الأصحاح الثالث فالرسول يفرح بالمسيح باعتباره الغرض المجيد اللامع، والهدف النهائي لحياته، والجائزة المبتغاة التي يسعى للحصول عليها. وفى قوة الحياة الجديدة، نجد بولس ساعيًا نحو هذا الهدف، غير قانع بغيره. وكانت غايته العظمى أن يربح المسيح ويوجد فيه (في3: 8، 9). ألم يكن قد امتلك المسيح فعلاًً؟ بلى، وكان لديه اليقين الكامل بحقيقة موقفه أمام الله فى المسيح، ولكن رغبة الرسول في أن ”يربح المسيح“ هنا تعني أشواقه للامتلاك العملي للمسيح في المجد؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يكون أمام قلب المؤمن دائمًا في مضمار السباق المسيحي. وكما أن المتسابق يركض وعيناه مثبتتان على الهدف المنشود، لا على المحيطين به، هكذا على المسيحي أن تستقر عيناه على المسيح المُمجّد ويركز فقط على ذلك الغرض.
«لأعرفه، وقوة قيامته، وشركة آلامه، متشبهًا بموته» (في3: 10)، لم يكن الرسول يقصد بهذه الكلمات معرفته بالرب كالمخلّص من الخطية، الأمر الذي اختبره قبل نحو خمسة وعشرين عامًا عندما اعترض الرب يسوع المسيح طريقه وهو ذاهب إلى دمشق. ولكن، وها هو في ختام حياته، كان الغرض العظيم لعواطف الرسول أن يعرف أكثر عن المسيح.
إننا كمؤمنين نحب أن نتحدث، وأن نرنم، وأن نكتب عن الشركة مع الرب يسوع، ولكن ينبغي ألا يغرب عن بالنا أن الشركة مع المسيح تتضمن أحيانًا الألم. مسيحيون كثيرون معنيون بمعرفة المسيح وقوة قيامته، ولكنهم يستعفون من شركة آلامه. ولكن لا اختبار لقوة القيامة بدون الشركة مع المسيح في آلامه.
وأخيرًا في الأصحاح الرابع يفرح الرسول بالمسيح باعتباره قوة حياته، الشخص الكافي تمامًا لمواجهة كل ظروف الغربة هنا على الأرض «أستطيع كل شيءٍ في المسيح الذي يُقوِّيني» (في4: 13). وحيث أن الاضطراب والقلق ألد عدوين للفرح، لذلك فإن الرسول هنا يصف لنا معادلة للانتصار عليهما «لاتهتمَوا ٍبشيءٍ»، بل في كل أمر، لنصلِ، ونقدم الشكر لأجل كل شيء (في4: 6).
ولأن الرسول فرح بالمسيح باعتباره قوة حياته، فإنه استطاع أن يستخدم ضمير المتكلم، مشيرًا إلى نفسه، نحو 8 مرات في نهاية الأصحاح الرابع، في عبارات قوية تصف فرحه «فرحت بالرب جدًا…تعلمت أن أكون مكتفيًا…أعرف أن أتضع وأعرف أيضًا أن أستفضل…تدربت أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقص…أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني… ولكني قد استوفيت كل شيء» (في4: 10-18).
وفي رسالة فيلبي استخدم الرسول خمسة ضمائر (حروف جر) مرتبطة باسم المسيح:
1- في المسيح (أو في الرب) ... تعبير نجده في أول عدد من كل أصحاح، كما يتكرر داخل الأصحاح نفسه. وتعبير ”في المسيح“ يشير إلى نوال الخلاص الأبدي. فنحن ندخل العالم في “آدم” ، ولكننا بقبولنا القلبي للمسيح مخلصًا شخصيًا، ننفصل عن آدم ونتحد بالمسيح (رو7: 4). ”في المسيح“ هو أقوى تعبير عن الخلاص الحقيقي.
2- مع المسيح (في1: 23) ... تعبير يشير إلى المجد العتيد. أن نترك هذه الحياة لنكون معه.
3- بيسوع المسيح (by Jesus Christ) ... تعبير يشير إلى الامتلاء “من ثمر البر” (في1: 11)، كما يحدثنا عن إمدادنا بكل احتياجاتنا بسعة «فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد في (أو ب by ) المسيح يسوع» (في4: 19).
4-من خلال (أو بواسطة - through Christ) المسيح ... تعبير يكلمنا عن قدرتنا أن نعمل كل شيء من خلال المسيح الذي يقوينا (في4: 13).
5-لأجل المسيح... تعبير يشير إلى خدمتنا للرب «لأنه من أجل عمل المسيح (for the work of Christ) قارب الموت، مُخاطرًا بنفسه، لكي يجبر نقصان خدمتكم لي» (في2: 30).