أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2013
قراءة ما بين السطور - قراءة من بين السطور
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
ملخص ما نُشر:
في هذه الدراسة نحن نتتبع من محتويات سفر النشيد تاريخ الأمة من بدايتها، من دعوة الرب لإبراهيم، وحتى وقت التجديد، أي ملك المسيح السعيد على شعبه وعلى كل الأرض. القسم الأول من سفر النشيد (أصحاح 1: 2 -  2: 7) يمثل فترة تأسيس المملكة حتى سبيها إلى بابل. والقسم الثاني (أصحاح 2: 8 - 3: 5) يمثل العودة من بابل في انتظار مجيء المسيا. وهذه درسناها في الأعداد السابقة؛ ونبدأ الآن في القسم الثالث، الذي يحدثنا عن وجود المسيا مع شعبه بالجسد، وحتى قيامته من بين الأموات، ومجيء الروح القدس واستمرار الشهادة لهذه الأمة، دون جدوى كما سنرى.

الحقبة الزمنية الثالثة:
فترة المسيا بين خاصته (نشيد3: 6 إلى 5: 1)


ختمنا القسم السابق بأن المحبوبة وجدت أخيرًا حبيبها بعد بحث عنه وأشواق إليه، وأنها أمسكت به ولم ترخه، حتى أدخلته بيت أمها وحجرة من حبلت بها.  لقد وصل المسيح إلى أرضه، وتعلق به الأتقياء كل التعلق.  ثم تبدأ الحقبة الثالثة في تطبيقنا التاريخي لسفر النشيد، تلك الحقبة الممتدة من أصحاح 3: 6 ولغاية 5: 1، والتي تُحدثنا عن فترة وجود المسيا بالجسد مع شعبه على الأرض، وتوابع ذلك.  ونقسمها كالعادة إلى جزأين متميزين:

الجزء الأول: من بدء خدمة المسيح بالجسد، ولغاية رفض جموع الأمة له وصلبه

والجزء الثاني: من قيامة الرب يسوع، ثم مجيء الروح القدس وشهادة الأتقياء لهذه الأمة في سفر الأعمال.

الجزء الأول، كما نفهم من الأناجيل ينقسم بدوره إلى فترتين: الأولى فيها كان المسيح يقدم نفسه للأمة بالأدلة الكثيرة والآيات المسيانية التي تؤكد على أنه المسيا عريسهم (مت4-12)، ولكن لما رفضته الأمة وأصرت على الرفض، فإن الرب تحول إلى التلاميذ القلائل الذين تبعوه، واجدًا فيهم ما يعوضه عن رفض جموع الأمة له (مت13 إلخ).
هذه الحقبة رغم قصرها، إذ إنها ليست كالقسم الأول مئات كثيرة من السنين، تقرب من ألف سنة؛ ولا كالقسم الثاني مئات أقل من السنين، بل إنها عبارة عن سنوات قليلة لا تتجاوز أصابع يد واحدة، ولكنها من الأهمية بمكان حتى إنها تستحق أن يُفرد لها قسم بذاته.  
* * * *
عرفنا أن القسم السابق خُتم بالمحبوبة مع حبيبها في “بيت أمها”.  ونحن نعلم من سفر النشيد أن العروس من الجليل، وتحديدًا من شونم (6: 13؛ يش19: 18).  لهذا لا غرابة أن نجد الرب يبدأ خدمته من الجليل، فتمت كلمات النبي إشعياء: «الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا (مت4: 13-16؛ إش9: 1، 2).
أما في بداية هذا القسم فإننا نقرأ عن البرية، وصعود المحبوبة منها.  فيقول الحبيب: «من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان، معطِّرة بالمر واللبان، وبكل أذرة التاجر!».  
ويمكننا أن نرى تطبيقًا مزدوجًا لهذه البرية في هذا القسم: فهذه البقية الأمينة التي رحَّبت بالمسيح، ذكَّرته ببداية تاريخ الأمة.  كانت بداية تاريخ الأمة في البرية، كقول الرب على فم إرميا النبي: «ذكرت لك غيرة صباك، محبة خطبتك، ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة» (إر2: 2).  لقد أتى العريس وكان مستعدًا أن يقترن بأُمَتِّه لو كان قد وجد التوبة في قلوبهم، وقدمه المعمدان للأمة باعتباره المسيا والعريس، لكن باستثناء بقية قليلة رحبت به وسارت معه، فإن جموع الأمة احتقرته ورفضته.
ومن الجانب الآخر فقد كان يوحنا المعمدان “صوتًا صارخًا في البرية”.  لقد ذهب يوحنا إلى “برية اليهودية” ليُعَمِّد (مت3: 1، 3)، وإلى هناك ذهبت أيضًا البقية لتعتمد منه، كي ما تستعد لاستقبال المسيا.  وإلى هذه البقعة عينها ذهب الرب يسوع نفسه، واعتمد.  وهناك بدأ انجذاب التلاميذ إليه (انظر يو1: 35-51).

ثم إن الرب كما عال شعبه قديمًا في البرية، فقد كرَّر الشيء نفسه مع الذين تبعوه، وألمح أنه لا يعطي فقط خبزًا عاديًا يأكله الإنسان ثم يموت (1مل17: 12)، بل يعطي خبز الحياة، وما ذلك إلا جسده المبذول لأجلهم على الصليب (يو6: 35).
 
والأعداد الأولى من هذا القسم (3: 6- 11) تشير إلى موكب عرسي.  فليس فقط أشار المعمدان إلى المسيح باعتباره العريس، بل هو نفسه قال ذلك في متى 9: 15، ولو أنه ألمح إلى أن العريس سوف يُرفع قبل إتمام العرس، وأن بني العرس لذلك سوف ينوحون.  فكان الرب يعرف النهاية من البداية، وهو ما تحقق فعلاً وسُجل لنا في الأناجيل وسفر الأعمال.  لذا فإن أجزاء كثيرة من هذا الفصل النفيس تنتظر الإتمام الكامل لها في مجيء المسيح الثاني.  
ولهذا فإننا هنا نجد من المباينات أكثر من المشابهات، فمجيء المسيح الأول، مجيئه بالتواضع لكي يتألم ويموت، سيعقبه مجيئه بالمجد لكي يدين ويملك.  نعم، نحن هنا نقرأ أن الملك سليمان “عمل لنفسه”، ولكن المسيح ابن الإنسان لم يعمل شيئًا قط لنفسه.  لقد قال مرة: «لأني قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني» (يو6:  38)، وأيضًا «ابن الإنسان لم يأت ليُخدم، بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت20: 28). 

وما الذي عمله سليمان لنفسه؟  «الملك سليمان عمل لنفسه تختًا من خشب لبنان. عمل أعمدته فضة، وروافده ذهبًا، ومقعده أرجوانًا، ووسطه مرصوفًا محبة من بنات أورشليم» (نش3: 9، 10).  وإذ فهمنا أن لبنان يمثل الارتفاع، والفضة تمثل الكفارة، والذهب يمثل المجد الإلهي، والأرجوان يمثل المجد البشري، والمحبة هي الأعظم بلا منازع؛ فيمكن القول إن المسيح في مجيئه الأول لم يكن في توجهه أن يرفع نفسه، بل لقد وضع نفسه (خشب لبنان)، وبذل نفسه (الفضة)، وأخلى نفسه (الذهب)، وأسلم نفسه (الأرجون)، وسكب للموت نفسه (المحبة)!

ولما تمت الأيام لارتفاعه، أراد أن يقدم لأمته الدليل الأخير أنه هو المسيا، فدخل مدينته أورشليم كما تنبأت عنه نبوات العهد القديم (مت21: 4-7؛ زك9: 9)، وعرفته المدينة، وارتجت لاستقباله (مت21: 10).  ولكن سرعان ما تغير المشهد، وهاجت المدينة كلها يوم الجمعة، الذي انتهى بصلب المسيح ودفنه (مت27: 24-26).  وبدل أن تخرج بنات صهيون لتنظر الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه يوم عرس وفرح قلبه (3: 11)، فإن بنات أورشليم خرجن ليلطمن على ابن الإنسان وهو مكلل بإكليل الشوك في يوم حزنه وكسر قلبه (لو23: 27-31)!

ثمة مباينة أخرى بين الوصف هنا وما حدث في مجيء المسيح الأول، فيذكر النشيد هنا جبابرة إسرائيل وهم يحرسون الملك سليمان (ع7، 8).  لكننا نقول ما كان أضعف تلاميذ المسيح عن أن يحموا سيدهم من الأخطار الكثيرة التي كانت تتربص به.  لقد فكر بطرس تلميذه في البستان أن يدافع عنه، لكنه انهار بعد ذلك سريعًا وأنكره (مت26: 51، 56).  ومع ذلك فلم يكن الرب يسوع بلا حراسة أو حماية طوال فترة وجوده بالجسد على الأرض
لقد قال لبطرس في البستان إنه لو أراد لطلب من أبيه فأرسل إليه اثنى عشر جيشًا من الملائكة، لكن لكي تكمل الكتب لم يطلب ذلك، بل خضع وتألم.  بل إن الشيطان نفسه عرف أن مزمور 91 يتكلم عنه (مت4: 6؛ لو4: 10، 11).  وفي هذا المزمور نجد كيف يوصي الله ملائكته به، لكي يحفظوه في كل طرقه، على أياديهم يحملونه لئلا تصدم بحجر رجله (مز91: 11، 12).  ولذلك فرغم العداء المستعر في قلوب الأشرار من بداية مولده وحتى نهاية وجوده معهم بالجسد على الأرض، لم يقدر واحد أن يمد يده عليه، قبل أن تأتي ساعته.  كان الجبابرة يحفظونه في كل تحركاته وسط عالم يبغضه ولا يطيقه.

ومن الجانب الآخر فإن أولئك التلاميذ الضعفاء، بعد أن حل الروح القدس عليهم، ونالوا قوة من الأعالي، أصبحوا صناديد وجبابرة، وإن كان بمفهوم مختلف عن مفهوم القوة البشرية.  لقد تكلموا عن شخصه بكل شجاعة وغيرة ولم يبالوا بشيء، ولأجل اسم المسيح لم يترددوا في تحمل الجلد والسجن والهوان وفي النهاية الاستشهاد!
أمر آخر يسترعي الانتباه فنحن هنا نقرأ عن تخت سليمان، وسطه مرصوفًا محبة من بنات أورشليم (نش3: 10).  ولا نقرأ هنا عن العروس ومحبتها.  ولعلنا نجد في بنات أورشليم صورة لأولئك المخلصين للرب في أيام جسده، والذين لم يرتبطوا به رسميًا.  وقد نجد صورة لهم في يوسف الرامي ونيقوديموس وغيرهما.  وقد نضيف إليهم أمثال المرأة الأرملة (لو21: 1-4)، فلا شيء يقال عن اتباعها للمسيح، ومع ذلك كانت لا شك تُقَدِّر الرب، كما أن الرب قدرها.

بعد ذلك ترد في النشيد كلمات اللطف والوداد من الحبيب لمحبوبته (نش4: 1-5).  وهذه الكلمات العذبة تذكرنا بكلمات المسيح المشجعة والمليئة باللطف والود التي قالها لتلاميذه وأحبائه في العديد من المناسبات، مثل لوقا 12: 4؛ أو متى 13: 44-46؛ أو يوحنا 13: 10؛ 15: 9، 13؛ 17: 6.  
يبدأ الحبيب الحديث عن جمال المحبوبة بوصف عينيها تحت نقابها، فيقول إنهما كالحمام.  وهناك مدلول روحي للنقاب بالنسبة للتلاميذ أثناء وجود المسيح بالجسد بينهم، وهو مدلول ينطبق فعلاً عليهم، فهم كانوا يرونه، لكن ليس بالوضوح الكافي حيث إن عيونهم كانت تحت النقاب. 

ليس أنهم لم يكونوا يرونه البتة، لأنه قال لهم: «طوبى لعيونكم لأنها تبصر» (مت13: 16)، ومع ذلك لم يكونوا يرونه بكامل الرؤية والوضوح (انظر مر8: 18). ولهذا فقد قال الرب لواحد من تلاميذه في ليلة آلامه: «أنا معكم زمانًا هذه مدته، ولم تعرفني يا فيلبس؟» (يو14: 9).  ولكن تحت النقاب كانت عين العروس كالحمام.  نعم ما كان أجمل هاتين العينين، فرغم عدم فهم هؤلاء الأتقياء لأمور كثيرة، لكن ألا نلمس مقدار حبهم وتكريسهم للمسيح؟!   إن عيني الحمام تحت النقاب ما كانتا تريدان أن تريا شخصًا آخر غير الحبيب والسيد. 

لم يكن توما يرى الأمور كما يجب عندما قال للتلاميذ: «لنذهب نحن أيضًا إلى اليهودية لكي نموت معه» (يو11: 16)، فما كان أحد يقدر أن يأخذ نفس المسيح منه، كما قال هو تبارك اسمه في الإصحاح السابق (يو10: 18)، ثم إن الرب، رئيس الحياة، قال لتلاميذه إنه سيذهب ليقيم الميت وليس لكي يموت، ومع ذلك كان هذا تكريسًا رائعًا من توما.  ولم يكن تلميذا عمواس يريان الأمور صحيحة، بل إنهما لم يقدرا أن يراه عندما اقترب هو نفسه وسار معهما، إذ كان النقاب في ذلك اليوم سميكًا جدًا فوق العيون، ومع ذلك ما كان أجمل تكريسهما ومحبتهما للرب! إلى الدرجة التي فيها لما غاب الحبيب عنهما أظلمت كل الدنيا أمامهما (لو24: 13-35.  وذلك المولود أعمى الذي فتح المسيح عينيه، لم يكن يعرف كل شيء، ولولا إعلان الرب له لما رأى فيه أنه ابن الله، ومع ذلك فقد كانت له بكل معنى الكلمة عينا الحمام، إذ بمجرد أن أعلن الرب نفسه له بأنه ابن الله حتى قال: «أومن يا سيد. وسجد له» (يو9: 38).

ونلاحظ أن الحبيب في الأعداد موضوع دراستنا يبدأ بوصف العينين وينتهي بوصف الثديين.  العينان تحدثاننا عن التمييز والإدراك، والثديان يحدثاننا عن العاطفة والحب.  وإذا أخذنا سمعان بطرس كمثال لحال بقية التلاميذ، فلقد أعلن الآب له من هو المسيح ابن الله الحي، (هذا هو نور العنين) وفي الختام قال للرب: «أنت تعلم كل شيء، أنت تعلم أني أحبك» (هذا هو حب القلب).

وما أجمل أن نرى هذه البقية الأمينة تفعل ما فشلت فيه جموع الشعب.  فمع أن الأمة – بصفة عامة - لم تستمع لنداء هوشع النبي، ولم تعزل فسقها من بين ثدييها (هو2: 2)، لكن تلك البقية الأمينة فعلت ذلك بسرور، ولم يكن في قلوبهم شريك له.
(يتبع)


يوسف رياض